الأربعاء، 24 مارس 2021

أيهما أشد فتكاً بالصحة، كورونا أم تلوث الهواء؟

العاصفة الهوجاء التي ضربت البحرين يومي الجمعة والسبت، 12 و 13 مارس، وبلغت ذروتها يوم الجمعة مساءً وصباح يوم السبت، ألزمت الناس واضطرتهم إلى البقاء في منازلهم وتجنب الخروج كلياً هرباً من هذا التلوث الطبيعي، إلا عند الحالات الضرورية الملحة. فهذه الريح الصرصر العاتية التي نزلت علينا حملت معها الأتربة والغبار من صحراء الربع الخالي، فالأتربة ذات الجسيمات الكبيرة انتقلت مسافات قصيرة وترسبت على الأرض، وأما الأتربة التي جسيماتها صغيرة وبعضها متناهية في الصغر، فحملتها الرياح مسافات طويلة، وعبرت معها الحدود الجغرافية للدول حتى وصلت البحرين، فغطت البلاد كلياً بالغبار الأصفر اللون المسبب للأمراض والموت في بعض الأحيان.

 

ففي مثل هذه الحالات المغبرة، تؤكد التجارب والخبرات السابقة أن الكثير من الناس يصابون بأعراض مرضية متعلقة بالجهاز التنفسي، مثل السعال والكحة، وارتفاع نسبة البلغم، والتهاب الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، وازدياد نوبات الربو لمن يعاني من الربو، والتهاب الجيوب الأنفية، وزيادة الحساسية الناجمة عن هذه الجسيمات الدقيقة، وفي حالات حادة يصاب الإنسان بضيق التنفس وآلام في الصدر فيؤخذ إلى المستشفى للحالات الطارئة، وقد ينتقل البعض إلى مثواهم الأخير بسبب شدة الإصابة وحدتها على الجهاز التنفسي، وبخاصة بالنسبة للأطفال، وكبار السن، والذين يعانون من أمراض في الجهاز التنفسي.

 

فما حدث لنا في البحرين يُعد مثالاً صارخاً على ما يفعله التلوث بالإنسان، ويؤكد بأن تلوث الهواء خاصة قادر على تحطيم الصحة العامة والموت المبكر، وفي هذا المثال نُطلق عليه بالتلوث الطبيعي، أي الناجم عن التغيرات المناخية الموسمية الطبيعية، مع العلم بأن أيدي الإنسان لها دور في تفاقم وازدياد شدة مثل هذه الحالات المناخية. فالملوثات التي يُطلقها إلى الهواء الجوي منذ أكثر من مائتي عام، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما قد أدت إلى حدوث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي، وهذه الظاهرة من مردوداتها انخفاض مستوى الأمطار، وارتفاع درجة حرارة الأرض وسخونتها، وهذه تؤدي بدورها إلى جفاف التربة السطحية، وتفككها، وسهولة تحركها وحمل الرياح لها، ونقلها إلى مسافات طويلة.

 

وفي الوقت نفسه هناك التلوث الذي صنعه الإنسان كلياً، فارتكبت يداه تعديات لا تعد ولا تحصى على حرمات البيئة من هواء، وماء، وتربة، ومن أشد هذه التعديات فتكاً بالصحة العامة هو الملوثات التي سمح الإنسان بإطلاقها إلى الهواء الجوي منذ نحو قرنين، فالملوثات تنطلق من محطات توليد الكهرباء في كل مدن العالم، والسموم تنبعث من ملايين السيارات في كل حي وفي كل مدينة على كوكبنا، والملوثات تنبعث من عشرات الآلاف من الطائرات التي تحوم في سمائنا، والسموم المهلكة للبشر نسمح لها بالخروج من مداخن الملايين من المصانع دون رقابة حقيقية أو مكافحة صارمة.

 

فهذا الخليط السام من الملوثات التي نطلقها إلى الهواء الجوي لا تنتهي، ولا تزول، وإنما تحولت إلى مظاهر واقعية نراها أمامنا ونشاهدها بأم أعيننا، مثل ظاهرة المطر الحمضي نتيجة لتحول ملوثات حمضية مثل أكاسيد الكبريت والنيتروجين والكربون التي تتفاعل مع الماء في أعالي السماء فتنزل مطراً حمضياً، او ثلجاً حمضياً، أو ضباباً حمضياً يهلك البشر والشجر والحجر، كما أن هناك ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي الأصفر البني اللون الذي نراه واضحاً في السماء في الكثير من المدن الحضرية المكتظة بالسيارات. وكل هذه المظاهر ليست صوراً نشاهدها أمامنا وإنما تتحول إلى حالات مرضية تقتل البشر، ومن أكبر الأمثلة التاريخية الواقعية المعاصرة التي قرأنا عنها هي الكارثة البيئية الصحية القاتلة التي وقعت في أيام الأعياد في مدينة لندن العريقة في ديسمبر 1952 عندما مات أكثر من أربعة آلاف لندني بسبب تلوث الهواء الجوي.

 

فإذن نحن نقف أمام عدوٍ حقيقي وواقعي، وليس عدواً وهمياً أو مرتقباً، وأصبحت لدينا خبرة طويلة في المعاناة منها في الكثير من مدن العالم، ولذلك هناك عشرات الآلاف من الدراسات والأبحاث التي تُوثق هذه المعاناة وتؤكد واقعية الضرر الحادث من تلوث الهواء على صحة البشر، كما اهتمت منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة والصحة العامة بهذه القضية المزمنة. 

 

ومن آخر الأبحاث حول هذه القضية البحث الذي سينشر في مجلة "تلوث البيئة" في أبريل 2021، تحت عنوان: "الوفيات على المستوى الدولي بسبب الجسيمات الدقيقة من حرق الوقود الأحفوري"، فهذه الدراسة قدَّرت بأن عدد الموت في عام 2012 ارتفع عن المعدل فبلغ 10.2 مليون بسبب الغبار أو الجسيمات الدقيقة المنطلقة من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، كما أفادت بأن 62% منهم في الصين، أو قرابة 3.9 مليون، وفي الهند2.5 مليون. كما أن منظمة الصحة العالمية وصفت تلوث الهواء بأنه يشكل "حالة طوارئ صحة عامة"، وأَطلقت عليه "القاتل الصامت"، حيث قدَّرت بأن تلوث الهواء يتحمل مسؤولية موت قرابة 8.8 مليون سنوياً، أي أكثر مما يسببه التدخين سنوياً.

 

والآن لو قارنا أعداد الموتى من تلوث الهواء ومن فيروس كورونا حسب تقارير منظمة الصحة العالمية في الحالتين، لوجدنا بأن الذين يلقون حتفهم بسبب التعرض للهواء الملوث أكثر بنسبةٍ كبيرة جداً. فآخر الإحصاءات والتقارير تفيد بأن عدد الوفيات الإجمالي من فيروس كورنا على مستوى سكان الأرض لم يتجاوز 2.7 مليون منذ أن أُعلن رسمياً عن هذا المرض في ديسمبر من عام 2019. وبالرغم من هذا الفارق الكبير بين العاملين المؤدين إلى موت البشر، تلوث الهواء مقارنة بفيروس كورونا، فإن حالات الوفيات بسبب كورونا حظيت بالتغطية الشاملة والواسعة والفورية كل ساعة، وأعطت جميع دول العالم جُل اهتمامها وأولوياتها لمكافحة مرض كورونا، كما وجهت دول العالم كل الإمكانات المالية، والبشرية، والأجهزة والمعدات لعلاج هذا المرض، في حين أن تلوث الهواء الذي يُعد عالمياً من الأسباب الرئيسة المستمرة لعقود طويلة لموت البشر، مازال قضية هامشية تستجدي من يرعاها ويهتم بها على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

 

ولذلك لو وفرنا جزءاً يسيراً من هذه الطاقة والإمكانات والنفقات التي قدمناها لعلاج كورونا ووجهناها لمكافحة الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء لنجحنا فعلاً في أن نخفض من أعداد الوفيات من تلوث الهواء التي تتراوح بين 8.8 إلى 10.2 سنوياً.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق