الجمعة، 19 مارس 2021

تقرير للأمم المتحدة: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا


عندما أُشاهد في وسائل الإعلام صور الأطفال والرجال والنساء وهم يبحثون عن فتات الطعام ليسدوا بها جوعهم في مواقع دفن المخلفات، أو في المواقع التي تُرمى فيها القمامة المتعفنة قبل نقلها إلى مثواها الأخير، فيفتشون ليلاً نهاراً وسط حاويات وبراميل القمامة الفاسدة والمخلفات المتحللة المرضية لعلهم يجدون لقيمات بسيطة يقمن صلبهم، فمثل هذه المناظر والصور المؤلمة غير الإنسانية تحزنني وتحيرني كثيراً، وتُثير عندي التساؤلات التالية: هل هناك نقص في إنتاج الطعام على المستوى الدولي بحيث لا يكفي لكل البشر حول العالم؟ أم أن هناك سوء إدارة وتوزيع غير عادل للطعام والمواد الغذائية عامة، أو أن هناك هدراً مفرطاً، وإسرافاً شديداً، واستنزافاً مبذراً للطعام من بعض فئات المجتمع على حساب باقي الفئات الأخرى؟

 

والإجابة عن بعض هذه الأسئلة لم تتأخر كثيراً، فقد جاءت فوراً من التقرير الصادر من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في نيروبي بكينيا في الرابع من مارس 2021، تحت عنوان:"مؤشر مخلفات الطعام، تقرير 2021حيث توصلت الدراسة الأممية إلى استنتاجٍ عامٍ واحد ملخصه بأن هناك هدراً كبيراً، وإسرافاً شديداً في استهلاك المواد الغذائية التي يُنتجها البشر في كل دول العالم بدون استثناء، والذي ينعكس بدوره مباشرة على كمية وأحجام مخلفات الأطعمة، وبقايا المواد الغذائية التي يرميها الإنسان في حاويات القمامة يومياً.

 

وأما الاستنتاجات والدلائل الأخرى الخاصة التي تمخضت عن التقرير، فيمكن تقديمها في النقاط التالية:

أولاً: بلغت كمية مخلفات الأطعمة التي ألقاها البشر في سلات المخلفات في عام 2019 قرابة 931 مليون طن، وقد كانت لمنازلنا حصة الأسد في إنتاج هذه المخلفات وبنسبة قدرها 61%، مما يؤكد ظاهرة الإسراف والتبذير في الاستهلاك وهدر الطعام، كما يثبت بأن أحد الحلول التي تُسهم في مواجهة هذه الظاهرة الاجتماعية السلوكية غير المستدامة هو تنفيذ التوجيهات الربانية المتمثلة في الآية الكريمة التي تدعو إلى الترشيد وتجنب التبذير والتنطع في الأكل والشرب، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: "وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا، إنَّه لا يحب المسرفين".

ثانياً: أكد التقرير بأن هذا الإسراف في توليد مخلفات الأطعمة ليس مرتبطاً بالضرورة بالحالة الاقتصادية والاجتماعية للدول ودخلها القومي، وإنما هو ظاهرة تم رصدها في الدول الفقيرة على حدٍ سواء. فهذا النمط الاستهلاكي غير الرشيد للمواد الغذائية كان موجوداً في معظم دول العالم، فعلى سبيل المثال، المواطن البحريني يُضيع سنوياً 132 كيلوجراماً، أي 146 ألف طن في السنة من مخلفات الطعام تلقى مصيرها في حاويات القمامة وفي مقبرة المخلفات(هذه المخلفات تزيد بشكل ملحوظ في شهر رمضان)، والهندي يُهدر فيُنتج 50 كيلوجراماً من مخلفات الأطعمة سنوياً أي قرابة 68.7 مليون طن سنوياً، والباكستاني يُضيع سنوياً 74 كيلوجراماً من الطعام، والأفغاني 82، والبنجالي 65، في حين أن الإنسان الأمريكي يلقي 59 كيلوجراماً من الأطعمة سنوياً في القمامة، أي نحو 19.4 مليون طن مقابل الإنسان الصيني الذي ينتج من مخلفات الأطعمة قرابة 64 كيلوجراماً، أي 91.6 مليون طن من بقايا الأطعمة والمخلفات الغذائية.

 

وفي الوقت الذي كان الإنسان يُضيع ويرمي بهذه الكميات العظيمة من مخلفات الأطعمة في القمامة، كان هناك وفي العام نفسه، عام 2019، أكثر من 690 مليون إنسان يتضور جوعاً ولا يحصل على قوت يومه، وهذا العدد تفاقم وازداد كثيراً بعد نزول فيروس كورونا، فعمَّت المجاعة في الكثير من مدن العالم الغنية والثرية، والفقيرة والمستضعفة على حدٍ سواء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نَشرتْ منظمة اجتماعية أمريكية تهدف إلى إطعام الجوعى وتوزيع الطعام على المحتاجين من الأفراد والأسر وهي (Capital Area Food Bank) تقريراً في العشرين من يوليو عام 2020 بعنوان: "الجوع موجود في كافة مناطق العاصمة"،  ونقلته صحيفة الواشنطن تايمس في 22 يوليو في تحقيقها تحت عنوان: "كورونا يسبب مجاعة لنحو ربع مليون إنسان في العاصمة واشنطن"، وجاء فيهما بأن نحو 450 من بنوك الطعام، أو أماكن توزيع الطعام قد أُغلقت بسبب كورونا، ومع ازدياد أعداد العاطلين عن العمل والذين خسروا مصادر رزقهم وبلغ عددهم نحو 30 مليون أمريكي، زاد الأمر سوءاً وزاد النقص في قدرة توزيع الطعام، حيث زاد الطلب على الطعام بنسبة تتراوح من 30 إلى 400%، فعدد الجوعى والمعوزين والفقراء الذين يحتاجون إلى المساعدة للحصول على الطعام والوجبات المجانية سيرتفع حسب التقرير ما بين 48 إلى 60% في السنوات القادمة.

ثالثاً: هذا الهدر غير المنطقي وغير المقبول للطعام يكلف العالم قرابة 940 مليون دولار سنوياً، وهذه الكلفة الباهظة جاءت نتيجة للانعكاسات البيئية والاجتماعية الناجمة عن الاستهلاك والتبذير في إدارة المواد الغذائية عامة، سواء من المنزل، أو المطعم، أو الفندق، أو أثناء إنتاج المواد الغذائية، أو أثناء عملية التخزين والنقل. أما من الناحية البيئية، فكما أن الإنسان يُطلق ملوثات غازية إلى الهواء الجوي، أو مخلفات سائلة إلى المسطحات المائية، فهو في الوقت نفسه يطلق ويرمي مخلفات صلبة متمثلة في بقايا الطعام على التربة فيلوثها، ويشكل عبئاً كبيراً لإدارتها والتعامل معها بأسلوب صحي وبيئي مستدام.

 

وعلاوة على ذلك، فعملية الإنتاج الزراعي للمواد الغذائية التي يتم تضييعها جزئياً لها مردودات بيئية كثيرة منها استخدام المبيدات السامة بكافة أنواعها وتلويث البيئة والإنسان والحياة الفطرية البرية والبحرية، ومنها استعمال الأسمدة الكيميائية الملوث للتربة والنبات والماء والإنسان، ومنها انبعاث الغازات الملوثة للهواء الجوي والمسببة لظاهرة التغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، ومنها أيضاً خفض درجة التنوع الحيوي بشقيه النباتي والحيواني من خلال تحويل الغابات الفطرية الشديدة التنوع الحيوي وإزالتها لإقامة المزارع والحقول للمحاصيل الزراعية، ومنها استنزاف المياه العذبة ونضوب المياه الجوفية، ومنها كذلك الاستهلاك الشديد للوقود ومصادر الطاقة الشديدة التلوث للبيئة.

 

كذلك فإن هذا الهدر والتبذير في استهلاك المواد الغذائية لا يصب في نهاية المطاف في تحقيق أهداف التنمية المستدامة على المستويين الوطني والدولي بحلول عام 2030، وبخاصة الهدف الثاني المتعلق بالقضاء التام على الجوع وتوفير الأمن الغذائي لسكان الأرض جميعهم.

 

فهذا التقرير المنشور من إحدى منظمات الأمم المتحدة يؤكد على وجود ظاهرة الاستهلاك غير الرشيد للمواد الغذائية في كل دول العالم المتقدم منها والغني، والمتأخر منها والفقير، كما يشير إلى أن هناك إسرافاً مشهوداً في هذا الاستهلاك الذي نراه رأي العين بكل وضوح في حاويات القمامة وفي مواقع دفن المخلفات المنزلية. ويكمن الحل في العلاج الجذري لهذا السلوك الاجتماعي غير المستدام في العمل بشكلٍ جماعي مشترك على مستوى الأفراد، والجمعيات، والشركات الخدمية وغير الخدمية الكبرى، والدول، فهو مسؤولية جماعية لا تسقط عن أي إنسان أو دولة، سواء من ناحية الترشيد في استهلاك الطعام وخفض إنتاج المخلفات، أو من ناحية تحويل مخلفات المواد الغذائية إلى كمبوست وسماد عضوي، أو وقود حيوي، أو أية تقنية ووسيلة تؤدي إلى تدوير وإعادة استخدام هذه المخلفات والاستفادة منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق