الأحد، 18 مارس 2018

مخلفات الحروب تُذكرنا بمرارة الحروب


مطار مدينة لندن يُغلق أبوابه أمام حركة الطائرات وحركة المسافرين ويلغي جميع الرحلات الخارجة والداخلة في 11 فبراير من العام الجاري ليس لأسباب أمنية أو هجمات إرهابية، أو بسبب نزول الريح الصرصر العاتية التي تدمر كل شيء يقف في وجهها، أو الثلوج الكثيفة العقيمة التي تشل حركة الطيران، ولكن أُغلق هذا المطار لأسباب تعُود إلى ما قبل أكثر من سبعين عاماً، وبالتحديد ترجع إلى تلك الأيام العصيبة والمرَّة التي عانى منها معظم دول العالم أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

وعلاوة على شل عمل المطار كلياً، فقد توقفت خدمات النقل العام من الحافلات والقطارات والسيارات الشخصية المتجهة إلى منطقة المطار، حيث توقف بعض وسائل المواصلات من الحافلات والقطارات في منطقة قطرها 214  متراً حول المطار، أُقيمت كمنطقة آمنة لإبعاد الناس عن هذا الخطر المرتقب، كما تم جبرياً إخلاء السكان من منازلهم حماية لأراوحهم وسلامتهم.

 

وفي ذلك اليوم أيضاً هرَعت جميع خدمات الطوارئ في لندن بأقصى سرعة وكأنهم حُمرٌ مُستنفرة فرَّت من قسورة، فالجميع من سيارات الإسعاف، والمطافئ، وعدد كبير من الشرطة والمخابرات في المدينة، وبعض أفراد الجيش وطاقم متخصص في الغطس من منتسبي البحرية الملكية، كلهم اتجهوا فوراً إلى مبنى المطار لمواجهة هذا التهديد.

 

فقد اكتشف عمال البناء قنبلة عملاقة لم تنفجر، طولها أكثر من خمسة أقدام، وتزن أكثر من نصف طن، فقد وجدوا هذه المخلفات الحربية وهي مدفونة في الطين في نهر التيمز الشهير على عمق قرابة 30 قدماً تحت سطح النهر في نهاية مدرج المطار. وأكد الخبراء بأن هذه القنبلة سقطت أثناء دك الطيران الألماني لبريطانيا بعشرات الآلاف من القنابل، أو زهاء 50 ألف طن من المتفجرات بمختلف أنواعها وأشكالها وأحجامها في الفترة من 1940 إلى 1941 التي انهمرت على بريطانيا كالأمطار الغزيرة ولمدة ثمانية أشهر عجاف، حيث قُتل في تلك الفترة نحو 43 ألف بريطاني وشُرد أكثر من مليون، ولكن هذه القنابل لم تنفجر كلها فبقيت خالدة في الغابات أو في أعماق البحار أو الأنهار، وأصبحت هذه المخلفات تكشر عن أنيابها بين الحين والآخر في مختلف دول العالم، وتحولت إلى ذكريات مريرة خالدة تحيي عند الإنسان آلام الحروب وقسوتها وشدتها على الإنسان وبيئته، فكلما نسي جيل من أجيال البشر المعاناة من هذه الحروب، ظهرت هذه المخلفات لتجدد مرة ثانية هذه الآلام والأحزان والمخاوف من وقوعها مرة ثانية.

 

وفي هونك كونج في الأول من فبراير من العام الحالي ثم بعد خمسة أيام تم العثور على مخلفات حربية أخرى مدفونة منذ أكثر من 70 عاماً في أعماق الأرض عند قام العمال بالحفر لأعمال البناء والإنشاء في منطقة تجارية كثيفة ومزدحمة بالسكان، وهي عبارة عن قنبلتين ثقيلتين مخيفتين من أيام الحرب العالمية الثانية سقطتا عندما قام الطيران الأمريكي بإنزال قنابله على هونك كونك التي كانت في تلك الفترة واقعة تحت الاحتلال الياباني. وهذه الحالة جعلت سكان هونك كونج بعد أن نسي الناس كلياً تلك الحرب الضروس القاسية، يعيشون أياماً عصيبة مفزعة، إذ جددت في ذاكرتهم أيام الحرب الكئيبة والموجعة.

 

فإذا كانت مخلفات الحرب العالمية الأولى والثانية مازالت جاثمة في أراضينا وبحارنا، وتخرج إلينا بين الحين والآخر، فماذا عن الحروب المعاصرة التي شاهدناها جميعاً من قبل ونشاهدها اليوم، فحرب الخليج الأولى والثانية نقشت بصماتها واضحة في بيئتنا وتغلغلت في أعماقها، فهناك الآلاف من مخلفات الذخائر والصواريخ والقنابل والألغام الأرضية التي مازالت موجودة في البر ولا نعلم الكثير عنها، وهناك أيضاً الكثير من هذه المخلفات الخطرة إضافة إلى مخلفات السفن الغارقة الجاثمة في أعماق الخليج في مواقع عدة متفرقة، ولا توجد أية دراسات موثقة أو معلومات دقيقة حول هويتها ونوعية حمولتها ومواقع غرقها، وهذه المخلفات حتماً في يومٍ ما، ولو بعد حين ستنكشف فوق السطح في البر أو البحر فتهدد حياتنا وتذكرنا بأنها موجودة وتحيي في نفوسنا المشاهد المؤلمة التي رأيناها من قبل.

 

والآن هناك الحروب التي مازالت مستمرة في أفغانستان، وسوريا، واليمن، والتي نأمل أن تنتهي قريباً، ولكن حتى لو انتهت فسنبدأ حرباً جديدة تتمثل في مخلفاتها الخالدة المنتشرة في كل مكان، وهذه الحرب لن تكون سهلة وقصيرة الأمد، ولن تنتهي أبداً كما هو الحال بالنسبة للحرب العالمية الأولى والثانية، فتجاربنا تؤكد بأن الحرب في نهاية المطاف ستنتهي ولكن مخلفاتها ستكون باقية أبداً تشهد وقوع هذه الحروب الدامية والطاحنة، وكلي أمل أن تكون هذه المخلفات الباقية عبرة وعظة للجميع لتجنب الدخول في نفق الحروب المظلمة التي يكون الجميع فيها خاسراً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق