الخميس، 17 نوفمبر 2022

قضية القرن الصحية


التاريخ يعيد نفسه، والمشهد التاريخي القديم يتجدد ويستمر، فما يحدث اليوم للمخدرات، وبالتحديد بالنسبة لقضية انتشار وباء الأفيون في المجتمع الأمريكي، قد وقع بالفعل قبل زهاء 25 عاماً، ولكن دارت مشاهد القضية وأحداثها حول تدخين السجائر التقليدية، والأضرار الصحية الفردية والمجتمعية التي نجمت عن تعاطيها للمدخن نفسه ولغير المدخنين.

فقد توصلت الجهات المتنازعة قضائياً إلى تسوية تاريخية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بين شركات التبغ والسجائر الأمريكية الكبرى مثل موريس، ورينولد، ولورلارد، وبروان أند ويليامسون من جهة، والنيابة العامة في حكومة 46 ولاية من الولايات الأمريكية والشعب الأمريكي والجمعيات والمنظمات الأهلية من جهة أخرى.

فبعد محاكمات ماراثونية عصيبة استغرقت عقوداً طويلة من الزمن، وبعد مخاضٍ شديد، ومعارك ضارية شرسة، جاءت الولادة العسيرة، وأعلنت شركات التبغ هزيمتها أمام الأدلة الدامغة الصحية الموثوقة التي قدَّمتها النيابة العامة، ورضخت أمام توثيق الأمراض المستعصية التي أفرزتها السجائر على الملايين من الناس في كل أنحاء العالم منذ أكثر من قرن من التدخين، حيث اضطرت شركات التبغ رغم أنفها مجبرة على تسوية واتفاقية مشتركة في 23 نوفمبر 1998 تحت مسمى: "اتفاقية تسوية التبغ"( Tobacco Master Settlement Agreement)، وقامت بدفع مبلغ قياسي لا مثيل له في تاريخ البشرية وصل إلى 246 بليون دولار. كما جاء من ضمن بنود الاتفاقية أن تقوم شركات التبغ العملاقة بوضع إعلانات في وسائل الإعلام لفترة طويلة من الزمن تؤكد فيها بأن السجائر مضرة للإنسان، وتصيبه بعدة أنواع من السرطان، في مقدمتها سرطان الرئة، وتؤدي به إلى الهلاك الحتمي والدخول إلى القبر في سنٍ مبكرة.

واليوم نقف أمام مشهدٍ لا يختلف عن مشهد شركات التبغ والسجائر قبل قرابة ربع قرن، ولكن هذه المرة مع شركات الموت والقتل الجماعي التي أنتجت في مصانعها، ووزعت، وسوقت، ونشرت الوباء إلى كل شبرٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، بل وإلى الكثير من دول العالم، فدخلت منتجاتها السامة المسببة للإدمان إلى كل أسرة أمريكية، غنية كانت أم فقيرة، متعلمة ومثقفة كانت أم جاهلة ومتأخرة.

فقد أنتجت هذه الشركات التي لا ترقب في أحدٍ إلا ولا ذمة حبوباً تحت مسمى الحبوب المهدئة والمسكنة والمزيلة للألم، ولكن هذه الحبوب التي ظاهرها الرحمة والعلاج والسكينة، كان باطنها الإدمان والعذاب والموت المفاجئ والسريع.

فهذه الشركات زرعت وغرست بذرة خبيثة في المجتمع الأمريكي وبين الشعب في كل قرى ومدن أمريكا، وخططت بشكلٍ ممنهج ودقيق ومحسوب على أن تروي هذه البذرة فتصل هذه الحبوب من الأفيون خاصة والهيروين عامة إلى كل صغير وكبير، وجنَّدت بذلك كل قوى الشر والمرتزقة للقيام بهذه العملية، وأسست شبكة شيطانية على المستوى الاتحادي للقيام بهذه المهمة، وتكونت هذه الشبكة المعقدة من الشركات الصغيرة، والصيدليات، والعيادات الصحية، والأطباء والممرضين، إضافة إلى شركات الدعاية والإعلام لتلميع صورة هذه الحبوب، وإظهارها بمظهر علاجي بريء لا يسبب إدمان الشعب عليها ولا توجد لها أية آثارٍ جانبية مزمنة.

وبالفعل فإن هذه البذرة الخبيثة على مدى أكثر من أربعين عاماً نمت، وترعرعت، وتحولت إلى شجرة عظيمة لها فروع كبيرة في كل مكان، وأعطت ثمراً كثيراً، وقدمت خيراً وفيراً عمَّ هذه الشركات الكبرى، وانعكس مالياً أيضاً على كل المشتركين في شبكة الشر والدمار للبشرية.

ولكن مع الوقت اتضحت الصورة الحقيقة للشعب الأمريكي، وانكشفت أسرار وخداع وغش هذه الشركات، وخاصة بعد أن قضت هذه الحبوب المخدرة والمدمنة على قرابة نصف مليون أمريكي في الفترة من 1999 إلى 2020، إضافة إلى نحو مائة ألف وفاة في عام 2021 فقط، حسب الإحصاءات القومية لمركز الصحة الأمريكي. ونظراً لهول الوباء على الشعب الأمريكي، وغزوه لكل عائلة أمريكية، فقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في 26 أكتوبر 2017 أزمة الأفيون وإدمان الشعب الأمريكي على المخدرات كحالة طوارئ صحية عامة.

ومع الوقت كذلك تراكمت الدعاوى القضائية المرفوعة ضد هذه الشبكة الفاسدة والمدمرة للصحة، حتى بلغت أكثر من أربعة آلاف قضية، وتم جر أصحاب هذه الشركات إلى المحاكم الأمريكية لسنوات طويلة. فبعد أن حصحص الحق، وانكشف المستور، وافتضح أمر هذه الشبكة السرية وأزيل الستار عنها أمام الجميع، رفعت هذه الشركات العلم الأبيض واحدة تلو الأخرى، واستسلمت للأمر الواقع والخبر البين.

وبدأت هذه الشركات بالسقوط في الهاوية وبالرضوخ ذليلة أمام هذه الإدانات القضائية لدورها في اشعال فتيل وباء المخدرات والعمل بلعب دور الوقود الذي جعل الفتيل يستمر في الاشتعال عدة عقود، ومنذ بداية هذا العام، ركضت كل شركة منها لتسوية أمرها، ودَفْع مبالغ طائلة للشعب الأمريكي. فعلى سبيل المثال، وافقت شركتان تُعدان من أكبر منتجي وموزعي الأدوية وهما(Walgreens Boots Alliance)( CVS Health)في الثاني من نوفمبر 2022 على تسوية أولية بمبلغ عشرة بلايين دولار لكافة المتضررين من جميع المستويات، سواء أكانت حكومية أو قبائل الهنود الحمر من السكان الأصليين الذين عانوا بشدة من الإدمان وكثرة الوفيات، علماً بأن التسوية النهائية قد تصل إلى خمسين بليون دولار. كما وافقت شركة بورود فارما العائلية(Purdue Pharma) التي تنتج حبوب الأفيون المخدرة والمدمنة "أوكسي كونتين(OxyContin) في مارس 2022 على تسوية بمبلغ ستة بلايين، وشركة جونسون أند جونسون بمبلغ وقدره خمسة بلايين دولار. كذلك وصلت شركة(Teva Pharmaceutical Industries) في يوليو 2022 إلى تسوية آلاف القضايا المرفوعة ضدها على المستوى الاتحادي بمبلغ 4.35 بليون دولار، إضافة إلى ثلاث شركات أخرى بمبلغ 21 بليون دولار، علاوة على شركة وال مارت(Walmart)التي بلغت التسوية الأولية 3.1 بليون دولار، والبقية قادمة، وقائمة الشركات التي تسقط يوماً بعد يوم تطول، وليس هنا المجال لذكرها.

فجميع عناصر هذه الشبكة المهلكة للبشر ستدفع مبلغاً باهظاً وحسب تقديري، لا يقل عن 150 بليون دولار كتسوية للقضايا المرفوعة ضدها، كما حدث من قبل بالنسبة لشركات التبغ والسجائر القاتلة قبل نحو ثلاثة عقود.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق