السبت، 20 أكتوبر 2018

وضع بند في الموازنة عن التلوث ضمن المصروفات والنفقات


أتمنى من حكومتنا ومجلس النواب أن تأخذ زمام المبادرة وتكون سباقة بين دول العالم في وضع بندٍ جديد في موازنة الدولة القادمة متعلق بالتلوث عامة، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، وبالتحديد في باب المصروفات والنفقات، فقد أجمعت الدراسات والأبحاث العلمية الاقتصادية الآن أن للتلوث بعداً مالياً إقتصادياً لا يستهان به، ولا يمكن بعد الآن تجاهله وغض الطرف عنه، فهو أصبح من العوامل التي ترهق كاهل ميزانية الدول بطريقة مباشرة وغير مباشرة.

 

فالدراسات والأبحاث ذات العلاقة بالجانب الاقتصادي للتلوث والتي تحاول أن تضع قيمة نقدية مالية للتلوث وتدمير مكونات البيئة بدأت تنضج يوماً بعد يوم حتى إنها اليوم تُدرَّس في الجامعات تحت مقرر مستقل خاص يُطلق عليه "إقتصاديات البيئة"(Environmental Economics)، وهناك من الجامعات المرموقة المتقدمة والمتطورة علمية والتي تمنح درجتي الماجستير والدكتوراه في هذا التخصص العلمي الحديث، وقريباً سيتحول هذا التخصص من الجامعات الأكاديمية ومراكز الدراسات والأبحاث إلى الواقع العملي اليومي فيفرض نفسه كبندٍ عام مستقل ومتخصص في الموازنة العامة للدول والحكومات يختلف عن ميزانية الوزارة المعنية بالبيئة.

 

ومن آخر الدراسات التي نُشرت في هذا الباب تلك المتعلقة بالمعاناة الاقتصادية للصين من تلوث الهواء الذي ضرب أطنابه بقوة في كل المجتمع الصيني، والكلفة المالية الباهظة التي تتكبدها الصين اليوم بسبب تماديها في تجاهل التلوث في كافة القطاعات التنموية، ونتائج واستنتاجات هذا البحث لا تنطبق على الصين فحسب وإنما تنطبق على أية دولة تهمل هموم البيئة وشؤونها وتتجاهل حقوقها واستحقاقاتها وحماية مواردها وثرواتها الحية وغير الحية، فهذه الحالة الصينية تنطبق علينا وعلى غيرنا، فمن الأجدى أن نقرأها قراءة متمعنة ومعمقة ونتعلم من هفواتها وزلاتها ونستفيد من أخطائها وتجاربها.

 

فقد أكدت هذه الدراسة المنشورة في مجلة رسائل البحث البيئي(Environmental Research Letters) في العدد الصادر في العاشر من أكتوبر من العام الحالي،والتي قام بها باحثون من الجامعة الصينية في هونج كونج أن التلوث وبالتحديد تلوث الهواء المتمثل في ظاهرة الضباب الضوئي الكيماوي التي تجثم فوق صدور الناس بين الحين والآخر فتُعرضهم للأمراض الحادة والمزمنة وتشل الحركة في المدن وتوقف عجلة التنمية وتجبر الناس على البقاء في منازلهم، تُشكل عبئاً سنوياً ثقيلاً على الاقتصاد الصيني، فتلوث الهواء وانكشاف ظاهرة الضباب القاتل فوق المدن الصينية الصناعية العريقة يستقطع أكثر من 38 بليون دولار من الميزانية العامة للصين سنوياً كمصروفات ونفقات عامة، وهذا المبلغ المالي الضخم يُشكل نسبة 0.7 من الناتج المحلي الإجمالي السنوي.

 

ويتمثل هذا الحِمْل المالي العصيب الذي يقع على ظهر الحكومة الصينية في التأثيرات التي تنجم عن تلوث الهواء على صحة الأفراد والصحة العامة من ناحية الأمراض التي تنزل عليهم وارتفاع كلفة علاجها من جهة، ومن ناحية الموت المبكر للإنسان الصيني من جهة أخر، حيث أفادت الدراسة إلى أن تلوث الهواء يقضي على 1.1 مليون صيني سنوياً فيموتون موتاً مبكراً، وانعكاس ذلك بشكلٍ مباشر على الإنتاجية والنشاط التنموي بشكلٍ عام. وعلاوة على ذلك، فإن التلوث أدى إلى تدهورٍ شديد في كمية وجودة المحاصيل الزراعية نتيجة لتلوث التربة الزراعية وتدهور نوعية المياه الجوفية ومياه المسطحات المائية المستخدمة في ري هذه المحاصيل الزراعية.

 

وانطلاقاً من هذا البعد الاقتصادي النقدي الخطير للتلوث على الإنسان والتنمية فقد أكدت الصين على أنها ستدخل مرحلة جديدة في سياساتها التنموية، وستتبنى إستراتيجية حديثة تاريخية محورها ومركزها الرئيس هو الإنسان وحماية الأمن الصحي للإنسان، أي سياسة "الإنسان أولاً"، فسياسة الصين في عملياتها التنموية بناءً على هذه الرؤية قد تغيرت 180 درجة، وتبدلت جذرياً من حالٍ إلى حال، فقد تغيرت من سياسةٍ هدفها تحقيق النمو السريع والمتعاظم على حساب كل شيء آخر إلى سياسة وسطية معتدلة تأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانب البيئي الصحي والاجتماعي وأطلقوا عليها سياسة "النمو ذو الجودة العالية أو النوعية الممتازة"، كما تغيرت من سياسة الهدم للموارد والثروات الطبيعية إلى سياسةٍ تنسجم مع رعاية البيئة ومواردها الحية وغير الحية، أي من سياسة عدائية وهجومية على كل مكونات البيئة والإنسان إلى سياسة صديقة ودفاعية لكل عنصرٍ حي أو غير حي للبيئة.

 

وهذه السياسة العامة تحولت إلى واقع ميداني انعكس على الموازنة العامة للصين، حيث تم تخصيص بند مستقل لحماية البيئة وثرواتها الفطرية الطبيعية وصيانتها، وتحديد مئات الملايين من الدولارات لتنفيذ الإجراءات اللازمة لحماية صحة المواطنين، فمنها على سبيل المثال، المصروفات المتعلقة بوضع أجهزة متطورة للتحكم في الملوثات التي تنبعث من المصانع ومحطات توليد الكهرباء والسيارات ومعالجتها وخفض تركيزها وتحسين نوعيتها قبل أن تنطلق إلى الهواء الجوي، ومنها النفقات المرتبطة بتحسين نوعية الوقود المستخدمة في محطات توليد الكهرباء ووسائل النقل والمصانع التابعة للحكومة، ومنها النفقات الخاصة بعلاج الناس نتيجة لتعرضهم للملوثات الموجودة في البيئة.

 

ولذلك نجد اليوم وفي المستقبل بأن الموازنة العامة للدول لن تخلو من بند متخصص ومستقل للمصروفات والنفقات في مجال البيئة وحماية صحة المواطنين من التلوث.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق