السبت، 18 أبريل 2020

من المسؤول عن تفشي وباء كُورونا؟

لا بد علينا من الوقوف ملياً وطويلاً وقفةَ تدبرٍ وتأمل أمام هذه الطامة الكبرى التي نزلت على البشرية جمعاء، ونتعلم ونستفيد ونتعظ من هذه الريح الفيروسية الصرصر العاتية التي هبَّت على كل دول العالم من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، فلم تدع دولة مهما كانت غنية أم فقيرة، متقدمة أم متأخرة إلا وأصابها مَس من هذه الريح القوية العقيمة، فلم يشهد التاريخ مثيلاً لهذه الكارثة الصحية من حيث سرعة انتشارها أولاً، وثانياً المساحة الجغرافية من الكرة الأرضية التي بلغتها ووصلت إليها شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

فهذا الكارثة يجب أن تُثير لدى الجميع الأسئلة التالية: من المسؤول عن وقوع هذا الزلزال الصحي العظيم الذي هزَّ كوكبنا برمته؟ وعلى من يقع اللوم والعتاب والتقصير في نزول هذا الوباء الصحي العالمي؟ ومن يتحمل دماء الموتى والمصابين الذين زاد عدهم الإجمالي عن قرابة مليون من البشر من كل دول العالم؟

فهل نُلقي اللوم على أنفسنا، أم نلوم الحيوانات التي نقَلتْ إلينا المرض؟

فمعظم الدراسات المنشورة حتى الآن، سواء بالنسبة للمرض الحالي الذي نقف حائرين عاجزين أمام قوته وشدة بأسه وتنكيله بالمجتمع البشري برمته وهو فيروس كورونا، والذي سُمي رسمياً من قبل منظمة الصحة العالمية كوفيد-19، أو بالنسبة لمرض سارس الذي ضرب الصين ودول أخرى في عام 2003، فالبعض من هذه الأمراض الفيروسية أُتهم فيها الخفاش رسمياً بأنه مصدر الفيروس. كما أن هناك دراسات أخرى، مثل البحث المنشور في مجلة الطبيعية المعروفة في 26 مارس والتي أشارت إلى وجود هذا الفيروس الجديد في أحد الحيوانات من الثديات وهو آكل النمل الحرشفي أو البانجولن(pangolin)، إضافة إلى بحثٍ آخر نُشر في مجلة طب علم الفيروسات(Medical Virology) في 22 يناير والذي قام بحصر الدراسات السابقة حول هذه العائلة من الفيروسات، وأشار إلى أن مصدر هذا النوع الجديد قد يكون من الأفاعي أو الفئران.
ولو تعمقنا قليلاً في هذه المسألة لما وجدنا أي تعارض بين نتائج هذه الدراسات، فآكل النمل، أو الثعابين، أو الفئران أو غيرها من الحيوانات قد تكون مصادر ثانوية ووسائط لنقل الفيروس، أي أنها كلها قد انتقل إليها الفيروس من الخفاش، والذي من المعروف علمياً بأنه المخزون الطبيعي الفطري للفيروسات، إذ يحمل في جسمه الآلاف من مختلف أنواع الفيروسات، بما في ذلك فيروسات كورونا بأنواعها المتعددة. فمن المعلوم أن الخفاش، الحيوان الثديي الوحيد الذي يستطيع الطيران، يأكل أنواعاً كثيرة من الثديات الصغيرة والزواحف والبرمائيات مثل آكل النمل والثعابين والفئران، إضافة إلى الفواكه، والأسماك، والحشرات، والدم، فالفيروسات الموجودة في الخفاش تنتقل إلى هذه الحيوانات ثم إلى الإنسان عندما يتعرض لها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. 

ولكن هناك استفسارات منطقية تَطرحُ نفسها حول هذه المعضلة المعقدة والغامضة وهي: كيف يتعرض الإنسان للخفاش أولاً وبشكلٍ رئيس، ثم باقي الحيوانات الوسيطة، وبخاصة أن الخفاش يعيش في بيئات نائية بعيدة عن الإنسان وعن التجمعات الحضرية بصفةٍ عامة، فهو يسكن الكهوف المظلمة في الجبال الوعرة، وفي تجاويف الأشجار العظيمة وغصونها التي لا تصل إليها أيدي البشر؟

وهل إذا تعرض الإنسان لعضة الخفاش أو الأفاعي وانتقلت إليه الفيروسات فإنني أُلقي اللوم عليها وأُحملها مسؤولية مرضي؟

ولكي أُقرب لكم هذا المشهد، وأوضح هذه المعضلة، أُذكركم بالرحلات الترفيهية التي يقوم بها الكثير من الناس عندما يحل موسم الربيع فتعتدل درجات الحرارة، وتخضر المناطق الصحراوية البرية، وتتفتح الأزهار البرية الموسمية، فالناس ينصبون خيامهم في البيئات البرية بعيداً عن المناطق الحضرية السكنية، أي أن الناس ينتقلون إلى بيئات غير بيئاتهم التي يعيشون فيها، وهي بيئة الحيوانات البرية التي يمكن أن يكون بعضها مؤذياً للإنسان عند تعرضه لها، كالعقارب والأفاعي وغيرهما، ولذلك إذا عضك العقرب أو الثعبان وأنت في بيئته وفي بيته وأصابك السم والمرض نتيجة لذلك، فهل تُلقى اللوم على هذه الحيوانات؟ وهل تُحملها مسؤولية مرضك، وبخاصة أنك بنفسك ذهبت إلى مكان سكنه وإقامته؟

ولذلك لو كُنتَ في بيئتك بعيداً عن هذه الكائنات الفطرية بشتى أنواعها، فإنك حتماً لن تصاب بأي أذى منها ولن تتعرض لأي مرضٍ بسببها.

وهذا ما حدث في العقود الماضية، حيث أزال الإنسان مساحات واسعة من الغابات لاستخدامها لزراعة المحاصيل والديزل الحيوي، أو الاستفادة من أخشاب الأشجار، كما أن الإنسان نفسه فجَّر الجبال لبناء الطرق والأنفاق والجسور وزحف على البيئات البرية الفطرية واحتل جزءاً كبيراً منها، وتوسع هناك في أنشطته الحضرية الإسكانية والصناعية والسياحية، وأثناء قيام الإنسان بهذه الأعمال، حدثتْ عدة ظواهر خطيرة لم يعرف الإنسان تهديداتها على البشر والمخاطر الصحية التي نجمت عنها. أما الظاهرة الأول فتتمثل في توغل الإنسان وتعديه على بيئة هذه الحيوانات، مثل الخفاش وغيره، مما أدى إلى تعرض الإنسان مباشرة لعضة الخفاش أو التفاعل معه بطريقة أو بأخرى، ثم انتقال الفيروس إليه وإلى الناس الآخرين الذين يختلط بهم. والثانية فإن هذه العمليات أدت إلى تدمير مساكن هذه الحيوانات مما جعلها تبحث عن مواطن أخرى قريبة للمستوطنات البشرية، فزاد من تعرض الإنسان لها وانتقال الفيروسات إليه، وقد شاهدتُ هذه الظاهرة بأم عيني في البحرين عندما رأيتُ أعداداً كبيرة من الخفاش على جدار أحد المباني السكنية التي شُيدت في البيئات الصحراوية البرية.

وأما الظاهرة الثالثة فهي صيد هذه الحيوانات البرية الفطرية وتكديسها في حظائر أو أقفاصٍ صغيرة مقفلة ومزدحمة، وبيعها في أسواق بيع الحيوانات الفطرية، مما أدى إلى انتقال الفيروسات من الخفاش، على سبيل المثال إلى الحيوانات الأخرى الموجودة معه في القفص، ثم أخيراً إلى الإنسان وإصابته بالأمراض المعدية الفتاكة.

والآن بعد أن قدَّمتُ لك بعض الحقائق العلمية الواقعية، ستَلُومُ مَنْ في نزول هذه الزلازل الفيروسية المرضية المتلاحقة علينا، مثل سارس، وإيبولا، وميرس، وكوفيد_19 وغيرها من الأسقام المستعصية والقاتلة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق