الجمعة، 6 أكتوبر 2017

لم يبْق من البحر إلا اسمُه



بيئتنا البحرية أصبحت خالية من المضمون ومن مفهومنا للبيئة البحرية الحقيقية كما خلقها الله سبحانه وتعالى خدمة للبشرية واستدامة لحياة الإنسان على وجه الأرض، فهي تحولت الآن إلى اسمٍ فقط، ولم يبق منها غير هذا الاسم وهذا الوجه المصطنع الذي تَدَخلتْ في كافة مكوناتها أيدي البشر إلى درجةٍ كبيرة غير مسبوقة.

فماء البحر الذي كان يتميز بنقاوته وصفائه وجمال لونه تحول اليوم إلى ماءٍ عكر كريه شديد الملوحة، وأصبح البحر مستنقعاً آسناً كبيراً ومشبعاً بكافة أنواع الملوثات الكيميائية والشوائب الضارة التي تصب فيه من مصادر لا تعد ولا تحصى، فهناك مياه المجاري القذرة والعفنة التي تصرف في البحر في كل ثانية بدون معالجة أو بعد معالجة جزئية، وهناك المخلفات الصناعية المعالجة أو شبه المعالجة التي تدخل في البيئة البحرية، وهناك الملايين من الجالونات من المياه شديدة الملوحة والحارة التي تصب في سواحلنا من محطات تحلية مياه البحر فتزيد مياه البحر المالحة أصلاً ملوحة وتدهوراً في نوعيتها. 

وماء البحر الذي كُنا نشاهد من خلاله بكل وضوح الكائنات البحرية من أسماك وغيرها وهي تسبح أمامنا وتحوم حولنا في سعادةٍ وأمان، أصبحنا الآن من شدة تغير نوعية الماء وزيادة عكارته لا نرى أي كائنٍ حي، وكأنه صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها ولا أثر لكائن حي يعيش تحتها.

فعمليات دفن سواحلنا والمناطق البحرية الأخرى لم تتوقف لحظة واحدة منذ السبعينيات من القرن المنصرم، حتى أنه سيأتي علينا زمان ستكون فيه مساحة البحر المدفونة أكبر من مساحة البحرين الأصلية البرية، فدفن البحر نراه أمامنا في كل يوم وفي معظم سواحل البلاد، وفي كل يوم يقضي إلى الأبد وبدون رجعة شرياناً من قلب البحر، وفي كل يوم يفترس قطعة منتجة وحيوية من جسم البحر، وفي كل يوم يدمر بيوت ومنازل عشرات الآلاف من الكائنات البحرية النباتية والحيوانية التي تقطن تلك السواحل والتي تعتبر خط الدفاع الأول للسلسلة الغذائية البحرية التي تعيش عليها الأسماك الصغيرة والكبيرة التي نحن نعيش عليها.

ومن عمليات الدمار الشامل للبيئة البحرية، هناك عمليات الحفر التي لا يَرَى تأثيرها إلا من دخل في أعماق البحر، فمن جهة آلات الحفر العملاقة فَتَكتْ وهدمت كلياً البيئات القاعية فلقي كل كائن حي يعيش في تلك المنطقة حتفه مباشرة، ومن جهة أخرى حول ماء البحر إلى مستنقعٍ طيني عكر عديم الرؤية من شدة الرمال المتحركة والمنتشرة في منطقة واسعة من البحر، بل وإن عمليات الحفر المتواصلة أكثر من خمسين عاماً قضت بدون رجعة على تلك المناطق التي حُفرت فيها لاستخراج الرمل من باطن البحر، وحولت قاع البحر إلى بيئةٍ طينية رملية طاردة لأي كائن بحري حي، نباتي كان أم حيواني.

ومن عمليات الدفان وحفر البحر العشوائية وغير المدروسة التي أضرتْ بشدة بالبيئة البحرية وكل من يعيش فيها، جاءت عمليات الصيد الجائر التي تَرَكتْ الباب مفتوحاً لكل من هَبَّ ودَبْ ليصيد من خيرات البحر، فاستباحت حرماتها وثرواتها الغذائية بأية طريقة شاءت، وفي أي وقت شاءت، دون رقيبٍ دقيق، أو حساب صارم، أو عقاب رادع حازم، حتى استخدمت فيها كل وسائل الصيد المشروعة وغير المشروعة، وبخاصة شباك الجر لصيد الربيان التي حولت قاع البحر إلى شوارع ترابية، وكأنك تقف أمام شارعٍ سريع للسيارات!

وكل هذه المصادر المهلكة للحرث والنسل والأخضر واليابس في البحر، أدت في نهاية المطاف إلى القضاء على الأمن الغذائي الوطني للبحرين، والمصدر الوحيد الفطري الطبيعي المتجدد غير الناضب للبروتين الذي يحتاج إليه كل إنسان لتستديم حياته، فلا عجب إذن أن لا نشاهد أسماكاً في البحر في جزيرتنا، ولا عجب إذن أن ترتفع أسعار الأسماك إلى السعر الجنوني الذي نراه اليوم فلا يتمكن الكثير من المواطنين من شرائها.

فكيف نتحدث عن "جزيرة الابتسامة المشرقة" ونحن لا نرى معالم حياة الجُزر في جزيرتنا؟
وكيف نتحدث عن السياحة البحرية ونحن قَضَينا على أساس قيام هذا النوع من السياحة؟

فبعد كل هذه المؤثرات والمتغيرات التي أَلَّمتْ بالبيئة البحرية ونزلت على كل عضوٍ من جسدها، فالماء تلوث، والموائل تدمرت، والكائنات الحية هلكت، والسواحل انكمشت، ألا تتفقون معي الآن عندما أقول بأنه لم يبق من البحر إلا اسمه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق