الأحد، 1 أكتوبر 2017

أحداثٌ لا تغيب عن الذاكرة



هناك أحداث لا تختفي من ذاكرة الأمم والشعوب مهما طال عليها الزمن، ولا يمكن محوها من حياة الشعوب كاملة مهما دفنت تحت أعماق الثرى وتراكم عليها التراب عبر السنين الطويلة، فهي بسبب شدة وطأتها وهولها، وعُمق تأثيرها وفظاعتها، وتغلغل انعكاساتها ومردوداتها في نفوس الناس وتجذرها في قلوبهم، فهي لا يمكن أن تموت، ولا يمكن أن تغيب أو تنسى عن ذاكرة الأجيال واحدة تلو الأخرى.

فكلما انقضت الأيام، ومرَّت السنون، وتوالت العقود، وقعت أحداث توقظ في الناس ذكريات هذه الواقعة، وتجدد في نفوسهم مرارة الألم وقوة المعاناة، وتحيي لديهم شعوراً بأنها مازالت ماثلة أمامهم، تحكي قصة وقوعها، وتروي جميع مشاهدها.

ومن الحوادث التي نُقشت في صخور التاريخ كارثة حرب فيتنام بين الولايات المتحدة الأمريكية وشعب فيتنام بشكلٍ مباشر، ولكن آثارها ومردوداتها الواسعة النطاق ضربت المجتمع الدولي برمته ومازالت ماثلة أمام الجميع حتى الآن وبعد مرور نحو 70 عاماً، فقد تنوعت هذه الانعكاسات وتعددت فمنها البعد الأمني والسياسي، ومنها الجانب الاجتماعي الاقتصادي، ومنها البعد البيئي الصحي الذي يجهله الكثير من الناس، وهذا ما يهمُني من هذه الطامة الكبرى، وأرغب في العروج فيها قليلاً وإلقاء الضوء على تداعياتها.

فاستناداً إلى تقرير مجلة النيوزويك الأمريكية في 19 سبتمبر من العام الجاري، شارك في هذه الحرب الفتاكة أكثر من 58 ألف جندي أمريكي والملايين من الشعب الفيتنامي، حيث هَلَك ما لا يقل عن 429 ألف جندي أمريكي ونحو 533 ألف من المقاتلين الفيتناميين وجرح ومقتل الملايين من المدنيين خلال الفترة من عام 1954 إلى 1975، كما أدت هذه الحرب الضروس إلى فتك معنويات الجنود الأمريكيين وإصابتهم بالأمراض النفسية الخطيرة، مما تسبب في أن  واحد من كل ستة جنود، أي أكثر من أربعين ألف، كانوا مدمنين على الهيرويين بحلول عام 1971، حسب كتاب ستيفن أمبروز عن قصة حياة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون والمنشور في أكتوبر 1990 والمقال المنشور في الواشنطن بوست في 20 سبتمبر من العام الحالي.

فهذه هي التداعيات المباشرة من هذا الكرب العظيم والتي ظهرت جلياً أثناء وبُعيد سنوات الحرب، ولكن هناك في المقابل انعكاسات غير مباشرة وخفية وغريبة ظهرت بعد سنوات من انتهاء الحرب على الجنود الأمريكيين وعلى الشعب الفيتنامي والياباني، ومازالت تنكشف ملابساتها وخفاياها في كل يوم ولها علاقة بالجانب البيئي الصحي.

فالجيش الأمريكي في عملية خاصة أُطلق عليها(Operation Ranch Hand) ونفذها خلال الفترة من 1962 إلى 1971، استخدم فيها عميلاً جديداً قاسياً من نوعٍ فريد للقضاء كلياً على الغابات والأدغال التي يعيش فيها المقاتلون الفيتناميين ويختبؤن تحت ظلها ويأكلون من ثمارها، وهذا العميل صُمم وأنتج في أمريكا ووضع في براميل خاصة عليها علامة برتقالية فأُطلق عليه "العميل البرتقالي"، وهو عبارة عن مبيدٍ فتاك مُهلك للأعشاب وللحرث والنسل وكل شيء يقف في وجهه، فأنزل على الفيتناميين أمطاراً فيها عذاب شديد أليم، بلغت أكثر من خمسة ملايين جالون، وهذا المبيد كان يحمل معه أخطر ملوثٍ كيميائي عرفه الإنسان حتى الآن وهو الديكسين، فكما أهلك هذا المبيد الشعب الفيتنامي ولوث البر والبحر والجو والحجر، قضى في الوقت نفسه على الجنود الأمريكيين أنفسهم وأنزل عليهم وباءاً غريباً لم يعرفوه من قبل، حتى أن الدراسات تفيد بأن هناك أكثر من 14 عِلة مرتبطة بهذا العميل، منها سرطان خلايا البلازما(myeloma) حسب الدراسة المنشورة في مجلة الجمعية الأمريكية الطبية لعلم الأورام في العدد المنشور في الثالث من سبتمبر 2015، إضافة إلى سرطان البروستات حسب الدراسة المنشورة في مجلة السرطان في 13 مايو 2013.

وجدير بالذكر أن كل من عمل مع هذا العميل من حيث نقله، أو تخزينه، أو فتحه، أو رشه قد تعرض لمخاطر الإصابة بأمراض هذا العميل، سواء أكان في داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو في الفيتنام أو في القواعد الأمريكية في الخارج كاليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وبناما. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف المئات من براميل العميل البرتقالي القاتلة المدفونة في جزيرة أوكيناوا اليابانية في قاعدة كادينا الأمريكية العسكرية الجوية(Kadena Air Base)، وكُشف النقاب عنها إعلامياً في المقالين المنشورين في صحيفة اليابان تايمس في 4 يونيو 2013 وفي 31 يوليو 2013 وأحدثت ضجة واسعة في المجتمع الياباني مازالت صداها ترن في أذن المواطن الياباني حتى يومنا هذا، وأوقعت خلافات سياسية عميقة بين الحكومتين اليابانية والأمريكية ولم تحل بعد حسب المقال المنشور في الصحيفة نفسها في 21 يوليو من العام الجاري.

وفي المقابل هناك الشعب الفيتنامي المستضعف الذي عانى من ويلات هذه الحرب، ومازال يقع تحت وطأتها وحيداً لا نصير له، فهناك عشرات الآلاف من ضحايا هذا العميل تُركوا وحيدين يقاسوم من ألم السقم وشدة المرض حتى أن صحيفة النيويورك تايمس نشرت مقالاً في 15 سبتمبر تحت عنوان:"الضحايا المنسيون للعميل البرتقالي"، يُذكر الناس بهؤلاء الضحايا، ويوقظ فيهم الإحساس بآلامهم، ويصف الحالة المأساوية التي يعيشونها الآن في مستشفيات مدينة هوشي منه(Ho Chi Minh).  

ولذلك ستظل كارثة حرب فيتنام باقية وخالدة في ذاكرة الشعوب، فالمبيد الذي كان يحمل في جسده مادة الديكسين قد تغلغل في أعماق شرايين مكونات البيئة كلها، ودخل في أجسام الملايين من البشر، وسينتقل هذا الملوث اللعين من هؤلاء الملايين إلى ملايين آخرين في الأجيال اللاحقة، ولذلك فإن صورة هذه الحرب وانعكاساتها لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق