السبت، 28 أكتوبر 2017

ماذا حَدثَ لموظفي السفارة الأمريكية في كُوبا؟


انتظرتُ طويلاً قبل أن أقوم بالكتابة عن تفاصيل ودقائق ما حَدَثَ للوفد الأمريكي الدبلوماسي العامل في السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا وأُقدم تحليلاً علمياً موضوعياً لهذه الحادثة، فقد اطلعتُ على التقارير الرسمية وغير الرسمية التي نُشرت حول هذه الواقعة الغامضة والفريدة من نوعها على المستوى الدولي.

 

وتتمثل هذه الحادثة في البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في 29 سبتمبر من العام الجاري والمتعلق بسحب بعض الموظفين وأسرهم والذين عانوا فعلياً من هذه الواقعة، وبلغ عددهم 22 من سفارة أمريكا في كوبا، وتزامناً مع هذا الحدث، وبعد أيام وبالتحديد في الثالث من أكتوبر طردت أمريكا 15 موظفاً من سفارة كوبا في العاصمة واشنطن. وقد علَّلتْ الخارجية الأمريكية اتخاذ مثل هذه الإجراءات من أجل حماية الوفد الأمريكي الدبلوماسي في سفارتها في هافانا وخفض أعداد الأمريكيين الذين يتعرضون لمخاطر "الهجوم" الذي أصاب الدبلوماسيين الأمريكيين.

 

وتفاصيل هذه الواقعة بدأت في العاشر من أغسطس من عام 2016 في السفارة الأمريكية في كوبا حيث ظهرت على بعض موظفي السفارة أعراض غريبة لم يعهدوها من قبل، وظن هؤلاء الدبلوماسيون بأنها أعراض عرضية مؤقتة ستزول وتنتهي بعد ساعات أو أيام قصيرة، ولكن هذه المعاناة استمرت لأشهرٍ طويلة، فقد كانوا يَسْمعون أصواتاً حادة غير عادية، ويحسون بذبذبات غريبة وبخاصة أثناء الليل في المنازل وفي مبنى السفارة، وهذه الأصوات والضوضاء غير المألوفة والغريبة انعكست عليهم كأعراض مرضية مزمنة، تمثلت في  الشعور بآلامٍ حادة في الرأس، وصداع شديد، وفقدان تدريجي للسمع، وفقدان التوازن، والشعور بالإرهاق وصعوبة النوم، وأعراض أخرى متعلقة بالذاكرة والجهاز العصبي المركزي، وهذه الواقعة منذ نزولها بقيت في طي الكتمان، وغُلفت بجدارٍ من السرية والتعتيم الشديدين ومنع الإفصاح عنها وإخفائها كلياً، وصُنِّفت تحت ملف سري خاص.

 

ومع الزمن ومع ازدياد أعداد الدبلوماسيين المتضررين صحياً من هذه الحالة الفريدة، بدأت الرائحة تفوح وتخرج من نطاق الدائرة الرسمية المغلقة، وأخذتْ الأخبار تتسرب من داخل السفارة حتى وصلت إلى وسائل الإعلام الأمريكية في الثامن من أغسطس، فكَتَبتْ عن "مرضٍ غريب يصيب الوفد الأمريكي في كوبا"، ثم انكشفت النظريات وظهرت الروايات المتعددة لتفسير هذه الظاهرة.

 

أما الرواية الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية فقد أكدت على تعرض الموظفين لنوعٍ من السلاح أُطلق عليه "الهجوم الصوتي" أو "الهجوم السمعي"(sonic attack)، ولكن دون تقديم التفاصيل سوى نشر هذه الأصوات في 14 أكتوبر إلى وسائل الإعلام. وفي تقديري فإن هذا النوع من السلاح، لو وُجد على أرض الواقع، لا يختلف كثيراً في فكرته عن السلاح الكيماوي، حيث إن السلاح الكيماوي يستخدم ملوثات ومواد كيماوية سامة بجرعاتٍ عالية وتراكيز مرتفعة، فيقضي على البشر والحجر والشجر فوراً، ويمكن مباشرة مشاهدة هذا الدمار الجسدي والموت الجماعي، كما رأينا بأم أعيننا استخدام الأسد لمثل هذه الأسلحة ضد الشعب السوري. وأما هذا السلاح المستخدم في السفارة الأمريكية فيهجم على العدو باستعمال أداة التلوث الفيزيائي الطبيعي الضوضائي المتمثل في إصدار الموجات ذي الطاقة العالية والتردد الشديد المرتفع، ولكن تأثيراتها الصحية لا يمكن مشاهدتها أمام الملأ بشكلٍ فوري ومباشر، فهي تضر بدون أن تترك أثراً ملموساً، وتدمر بدون أن تترك بصماتها واضحة مشهودة.

 

وفي المقابل ظهرت في وسائل الإعلام الأمريكية نظريات أخرى لتفسير هذه الحالة المرضية، فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس مقالاً في العاشر من أكتوبر تحت عنوان: "الأصوات الغامضة والمرض المخيف كأداة سياسية"، وفحوى هذا المقال هو التشكيك في الرواية الحكومية الرسمية، والادعاء بأن الحكومة استخدمت هذه الحالة المرضية لأغراض سياسية تمهيداً لتغيير موقف أمريكا تجاه كوبا. كما أن بعض الخبراء في مجال علم طب الأعصاب أشاروا إلى أن هذه الحالة قد تُفسر بأنها نوع من الجنون أو "الهستيريا الجماعية"، وهو حالة نفسية عصبية أعراضها تتمثل في حدوث خللٍ في الحس والحركة بسبب وجود القلق والخوف والاضطرابات النفسية من وضعٍ معين، أو حالة محددة.

 

وبالرغم من اختلاف الرؤى والتفاسير حول ظاهرة السفارة الأمريكية في كوبا، فإنني أؤكد بأن التلوث الناجم عن الأصوات المرتفعة والضوضاء العالية قد يستخدم كسلاح بطريقة أو أخرى، فهو يعتبر من أهم أسباب التدهور الصحي للبشر، سواء الأصوات الشديدة من السيارات، أو المصانع، أو حركة الطائرات، وهناك إجماع عند العلماء بأنه يؤثر بشكلٍ جماعي على الناس بعد فترةٍ قصيرة أو طويلة من الزمن حسب فترة وزمن التعرض، وشدة وتردد الصوت.

 

وأُقدم لكم مثالاً واقعياً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة لا يسع المجال لذكرها وهي تُثبت حقيقة التأثير الجماعي للموجات الصوتية على الناس من الناحيتين العضوية والنفسية، فسُكان ضواحي العاصمة اليابانية طوكيو الذين يعيشون بالقرب من قاعدة يوكوتا الأمريكية الجوية رفعوا قضايا في المحاكم متعلقة بالآثار الصحية الجسيمة التي نزلت عليهم من التلوث الصوتي الضوضائي والأمواج الشديدة التي تصدر من حركة الطائرات الحربية وغير الحربية، حيث أمرت إحدى المحاكم اليابانية في 11 أكتوبر من العام الجاري الحكومة اليابانية بدفع تعويضات تبلغ نحو 5.4 مليون دولار لهؤلاء السكان بسبب الأذى الجسدي والنفسي الذي لحق بهم نتيجة للتعرض للأصوات وضوضاء حركة الطائرات اليومية.

 

ولذلك ما حدث بالفعل للوفد الأمريكي سيبقى سراً غامضاً، وستكشفه لنا الأيام عاجلاً أم آجلاً عندما يزال الستار ويُكشف النقاب عن أرشيف هذه الواقعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق