الخميس، 10 أغسطس 2023

دراسة تستحق الوقوف أمامها


دراسة يجب أن نقف أمامها طويلاً لنتعظ منها ونأخذ منها الدروس والعبر، ونستخلص منها السياسات المستقبلية والإجراءات التنفيذية لنُسيِّر بها حياتنا اليومية الحالية والمستقبلية.

 

وفي الحقيقة فهي ليست دراسة واحدة فقط، وإنما هي دراسة تفصيلية معمقة تقوم بتحليل 100 بحث علمي أُجري في 20 دولة في مختلف دول العالم، منها الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والبرازيل، والصين، وبريطانيا، حيث هدفت هذه الدراسة الجامعة على سبر غور قضية واحدة فقط، وهي ما إذا كانت هناك علاقة قوية بين تلوث الهواء والتعرض للملوثات الموجودة في الهواء الجوي، سواء الملوثات الأولية أو الثانوية وأمراض القلب عامة التي تصيب الإنسان، ومرض فشل القلب خاصة والموت نتيجة لذلك.

 

ولذلك تأتي أهمية هذه الدراسة في أنها تُقيم الحُجة الجماعية العلمية حول قضية أساسية جوهرية، وهي دور التعرض لتلوث الهواء الجوي، سواء لفترة قصيرة من الزمن، أو فترة طويلة من الزمن على الحالات المرضية المختلفة التي تُصيب القلب، وبخاصة فشل القلب، فإذا أجْمَعت نتائج الدراسات المائة التي تمت مراجعتها، وتقييمها، وتحليلها على استنتاج واحد عام، فهذا يعني أن هناك اجماعاً دولياً حول هذه القضية التي تتم دراستها، وأن هناك أدلة حازمة وحاسمة لا شك فيها، تؤكد على واقعية وفاعلية هذه القضية على المستويين القومي والدولي.

 

فهذه الدراسة المنشورة في الثالث من يوليو 2023 في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspectives) التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان: "تأثير تلوث الهواء على فشل القلب: مراجعة وتحليل منهجي"، تُنبه إلى خطورة قضية تلوث الهواء الجوي، وتحذر من التداعيات الحادة والمزمنة لوجود الملوثات بمختلف أنواعها وأحجامها في الهواء على صحة وسلامة الإنسان عامة، وعلى صحة المُضغة التي في جسم الإنسان خاصة، والتي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.

 

فمرض فشل القلب من الأمراض القلبية الشائعة دولياً منذ سنوات طويلة، ويحدث عندما تضعف عضلة القلب عن ضخ الدم إلى باقي أعضاء الجسد. وهناك دراسة منشورة في 18 يناير 2023 في مجلة "مراجعة لأبحاث الأوعية القلبية"( Review of Cardiovascular Report)  تحت عنوان: "العبء الدولي لفشل القلب: مراجعة وتحديث شامل لعلم الأوبئة"، تفيد بأن مرض فشل القلب يؤثر على أكثر من 64 مليون إنسان حول العالم، وقرابة 6.5 أمريكي يعانون من فشل القلب، كما أن هناك 960 ألف حالة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية تُضاف سنوياً إلى الحالات السابقة. كذلك تفيد الدراسة إلى أنه في عام 2018 تسبب فشل القلب في موت أكثر من 379 ألف أمريكي.

 

وتفيد التقارير والدراسات الطبية أن هناك العديد من المظاهر والحالات التي تزيد من مخاطر الإصابة بفشل القلب، منها مرض القلب التاجي، والسكري، وارتفاع ضغط الدم، والبدانة والسمنة المفرطة، إضافة إلى ممارسة العادات والسلوكيات غير الصحية كالتدخين، والغذاء المشبع بالدهون، وشرب الخمر، وعدم ممارسة الرياضة الجسدية. وهناك سبب مهم جداً، وحديث نسبياً عادة ما يتم تجاهله من قبل الكثير من الحكومات، علاوة على الأطباء المتخصصين في أمراض القلب، حيث إن التركيز في التشخيص والعلاج يتجه دائماً نحو الأسباب التقليدية القديمة المعروفة، وهذا العامل المستجد والسبب القوي الذي يُسقط البشر الآن في مرض فشل القلب هو التعرض للآلف من الملوثات التي تشبع بها الهواء الجوي والمنبعثة من الملايين من السيارات، ومحطات توليد الكهرباء والمصانع والطائرات وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى.

 

فدراستنا الحالية التي نتناولها اليوم قامت بمراجعة شاملة وتحليل لمائة دراسة تبحث في العلاقة بين التعرض لتلوث الهواء لفترة قصيرة من الزمن، أي من أقل من شهر واحد، أو فترة طويلة من الزمن لمدة شهر أو أكثر، والإصابة بفشل القلب والموت بسبب ذلك، والملوثات التي تم البحث فيها هي الجسيمات الدقيقة، أو الدخان، وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، وأول أكسيد الكربون، والأوزون. وقد استنتجت الدراسة إلى أن هناك اجماعاً من 100 دراسة علمية حول استنتاج عام واحد وهو أن تلوث الهواء عامل رئيس في إصابة البشر بمخاطر أمراض القلب، وأن هذه الدراسات تُقدم الدليل الشافي والكافي والحاسم على العلاقة القوية بين التعرض لملوثات الهواء الجوي والسقوط في شباك فشل القلب، سواء تعرض الإنسان لفترة قصيرة أو طويلة من الزمن. وفي الوقت نفسه تقدم الدراسة عدة نظريات لآلية تأثير تلوث الهواء على القلب، منها أن تلوث الهواء مرتبط بالإجهاد التأكسدي(oxidative stress)، والالتهاب الجسدي(systemic inflammation)، واعتلال عصبي اللاإرادي(autonomic imbalance)، حيث إن تلوث الهواء يحفز الإجهاد التأكسدي وينشط حدوث الالتهاب الداخلي في الخلايا، كما أن الأكسجين النشط الذي ينبعث خلال الالتهاب يزيد أيضاً من حالة الالتهاب، وهذا يؤدي إلى إفراز هرمون الإجهاد. فهذه التغيرات الفسيولوجية التي تحدث في الجسم والخلية عند التعرض لملوثات الهواء الجوي تؤدي إلى زيادة ضغط الدم وتداعيات على أداء القلب ووظائف الأوعية القلبية، وتنتج عنها حالات مرضية قلبية متعددة، كما أن كل هذه التغيرات في الجسم ترفع من مخاطر فشل القلب. كذلك فإن التعرض لعدة ملوثات خطرة ومؤكسدة في وقت واحد في الهواء، قد يكون له تأثير مجموعي، تعاوني، وتراكمي على القلب كلما زاد وقت التعرض.

 

وإذا كان هذا هو حال القلب والجسد مع تلوث الهواء، فماذا سيكون حال النفس؟ وهل تتأثر نفسية وعقل الإنسان عندما يتعرض للملوثات؟ والإجابة تأتي في دراسة منشورة في المجلة البريطانية للطب النفسي (British Journal Psychiatry) في الخامس من يوليو 2023 تحت عنوان: "جودة الهواء والصحة العقلية: الدليل، والتحديات، والتوجهات المستقبلية"، حيث أفادت الدراسة عن وجود أدلة دامغة على العلاقة بين جودة الهواء في البيئات الداخلية والخارجية وتدهور الصحة العقلية وحدوث الاضطرابات النفسية العقلية للإنسان الذي يعيش في بيئة ملوثة.

 

والآن فإن الجسد يشكو من تلوث الهواء، والنفس تعاني وتتألم منه، فماذا تبقى منا كبشر لا يقاسي من تداعيات تلوث الهواء؟ فتلوث الهواء قنبلة دمار شامل للإنسان كله.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق