الخميس، 3 أغسطس 2023

التلوث بالرصاص: الغائب الحاضر


عندما كنتُ طالباً في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في مدينة أوستن، عاصمة ولاية تكساس، كانت هناك إعلانات وعبارات تُوضع على محطات وقود السيارات وعلى مضخات ملء السيارة بالوقود، ومكتوب عليها: "جازولين خالي من الرصاص"، أو "جازولين بدون رصاص"(unleaded gasoline).

 

وفي ذلك الوقت كنتُ أبلغ من العمر 18 عاماً، وفي الحقيقة لم أفهم معنى هذه العبارة البسيطة، ولم أستوعب كلياً المقصود منها، ولم أدرك مدلولاتها وانعكاساتها على كافة المستويات، سواء في الداخل الأمريكي أو خارج أمريكا، وهي عبارةْ وجود نوعٍ من وقود السيارات خالي من الرصاص.

     

فهذه العبارة كانت تُمثل تحولاً جوهرياً، ومنعطفاً تاريخياً لعنصر كيميائي يُستخدم أبد الدهر في جميع المجتمعات البشرية، وهو عنصر الرصاص. فالرصاص مع الزمن توسعت دائرة استخداماته، فتوغل في الكثير من المنتجات التي يستعملها البشر بشكلٍ يومي، وفي كل عقد من الزمن كان الإنسان يستحدث ويُبدع منتجاً جديداً يحتوي على الرصاص. فهناك على سبيل المثال لا الحصر مُعدات وأدوات حربية مصنوعة من الرصاص، وهناك أواني منزلية مصنوعة جزئياً أو كلياً من الرصاص، وهناك وقود السيارات، أو الجازولين الذي يُضاف إليه الرصاص العضوي، مثل رباعي ميثيل الرصاص، أو رباعي إيثيل الرصاص من أجل رفع الأوكتان وتحسين أداء محرك السيارات، وهناك الدهان المنزلي والصناعي الذي دخل الرصاص في تركيبته، وهناك أيضاً أنابيب الرصاص التي تُستخدم لنقل مياه الشرب إلى منازلنا، إضافة إلى بطاريات السيارات، وبعض أنواع الكُحل التقليدي. 

 

ومع ازدياد استخدام الرصاص في منتجات لا تعد ولا تحصى، تبين لدى العلماء المراقبين لهذا العنصر، والمتابعين لتحركاته في مكونات وعناصر بيئتنا، بأن هذا العنصر يترشح من هذه المنتجات الكثيرة، وأن هذا العنصر بدأ يزحف رويداً رويداً من عناصر البيئة، كالهواء والماء والتربة إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ثم يغزو في آخر المطاف ويتراكم ويستقر في جسم الإنسان، وينعكس وجوده على ارتفاع تركيزه في الدم والعظام وباقي أعضاء الجسم. كذلك تأكد للعلماء الذين يقتفون آثار الرصاص وتأثيره على الإنسان بأنه يؤثر على الأطفال خاصة من الناحية الفسيولوجية الجسدية، ومن الناحية النفسية والعقلية والسلوكية، حيث يدهور الرصاص الصحة العقلية والذهنية للأطفال، كما يجعلهم أكثر ميلاً وارتكاباً للسلوكيات المنحرفة والعنيفة.

 

 ومع هذه الاكتشافات الصحية والبيئية الضارة للمجتمع البشري والتي ظهرت في الستينيات من القرن المنصرم، ومازالت تظهر عاماً بعد عام، اتجه المختصون من العلماء ومن رجال السياسة والتشريع إلى ملاحقة ومطاردة هذا العنصر في كل منتج على حده، والعمل على إزالته كلياً من المنتجات واحدة تلو الأخرى، أو في الأقل خفض تركيزه إلى أقصى نسبة ممكنة.

ومن هذه المنتجات التي لها الدور الأبرز والأشد تنكيلاً بصحة البيئة والإنسان هي الرصاص الموجود في وقود السيارات التي تشتغل بالجازولين، فعوادم عشرات الملايين من السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كل مدينة حول العالم تُنفث سمومها المحتوية على الرصاص في الهواء الجوي فتدخل مباشرة إلى جسم الإنسان، أو بطرق غير مباشرة من التربة والمسطحات المائية الملوثة بالرصاص والتي يتعرض لها الإنسان في نهاية المطاف. وتأكيداً على هذه الحقيقة، فقد نَشرتْ مجلة "الطبيعة"(Nature) في 25 يوليو 2023 دراسة تحت عنوان: "ستون عاماً منذ التقرير الأول عن التلوث العالمي بالرصاص"، حيث أشارت الدراسة إلى اكتشاف العلماء بأن مكونات البيئة حتى المحيطات الشاسعة والواسعة ملوثة بالرصاص، كما أفادت بأنه منذ مطلع الستينيات من القرن المنصرم تم الكشف عن تلوث المياه السطحية بالرصاص، مثل المحيط الهادئ، وأرجع العلماء في عام 1963 السبب في هذا التلوث بالرصاص بنسب مرتفعة جداً هو عوادم السيارات التي كانت تحتوي على نسب مرتفعة من الرصاص. ومن هنا جاء إعلان محطات تزويد السيارات بالوقود عن الجازولين الخالي من الرصاص.

ولكن هل انتهت قضية الرصاص التي ظهرت منذ ذلك الوقت وأصبحت الآن جزءاً من التاريخ، أم أنها بالرغم من مرور هذه العقود الطويلة من الزمن إلا أنها ما زالت تنبض بالحياة، ومازالت قضية حية تنغص صفاء حياة الإنسان في كل مكان، وتلوث عناصر البيئة، وتفسد الأمن الصحي للإنسان؟

 

الإجابة عن هذا السؤال تأتي من الفضيحة التي كشفتها الصحيفة الأمريكية "وال ستريت جورنل"(Wall Street Journal) في 9 يوليو 2023، عندما أعلنت في صَدْر صحيفتها بأن شركتي الاتصالات "أي تي أند تي"(AT&T)، وشركة "فريزون"(Verizon) قد تركتا عمداً شبكة معقدة وطويلة من قرابة 2000 من الكابلات، والأسلاك القديمة البالية وغير المستعملة التي تحتوي على الرصاص في أعماق البحار والبحيرات والأنهار، وتحت التربة، وفوق الأرض في أعمدة رصاصية في ولايات كثيرة من أمريكا، أي أن الشركتين تجاهلتا وجود هذه الأنابيب التي تحتوي على الرصاص السام التي انتهت صلاحيتها ولا تستخدم الآن في البر، والبحر، والجو في البيئة الأمريكية.

 

وتأتي خطورة هذا السلوك اللاأخلاقي في أنه يهدد الصحة العامة للشعب الأمريكي برمته، فهذه الكابلات التي تحتوي على الرصاص والموجودة في جميع مكونات البيئة، تتحلل مع الزمن بسبب العوامل المناخية والظروف التي توجد فيها، ويترشح منها الرصاص السام فيدخل إلى الأوساط البيئية، ومنها إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ثم أخيراً إلى جسم الإنسان، فيتراكم هذا الرصاص السام والخطر رويداً رويداً في أعضائه ويُعرضه للأسقام والعلل المزمنة. ونظراً لخطورة هذه القضية البيئية الصحية على الصحة العامة، فقد أعلنت وزارة العدل بالتعاون مع وكالة حماية البيئة في 26 يوليو 2023 بأنهما ستُجريان تحقيقاً مفصلاً حول ادعاءات الصحيفة، والتعرف عن كثب على التهديدات التي ستشكلها هذه الكابلات، حيث وجهتا شركتي الاتصالات بتوفير المعلومات الكاملة حولها خلال عشرة أيام. 

وهناك أيضاً القضية القديمة والمتجددة وهي تلوث المنازل بالرصاص، وبالتحديد من طلاء المنازل بالدهان الذي يحتوي على الرصاص. فبالرغم من منع استخدام الرصاص في أنواع الدهانات المنزلية في الكثير من دول العالم، إلا أن القضية مازالت حية، ومازالت هناك دول، وبخاصة في أفريقيا وبعض الدول الآسيوية تعاني من الرصاص الموجود في الدهان المنزلي، وينعكس ذلك على تركيز الرصاص في دم الأطفال. وقد أكدت الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعة"(Nature) في 26 يوليو 2023 على واقعية هذه الظاهرة الخطيرة تحت عنوان: "إنقاذ عشرات الملايين من الأطفال سنوياً من تأثيرات التسمم بالرصاص مشكلة يمكن حلها". فقد أفادت الدراسة إلى أن هناك قرابة 815 مليون طفل مازالت دماؤهم ملوثة بالرصاص، فهناك الكثير من الدول الفقيرة التي تعاني حتى يومنا هذا من التهديدات الصحية للدهان الذي يحتوي على الرصاص في المنازل، والمدارس، والمستشفيات، وملاعب الأطفال.

فقد أدرك الإنسان منذ عقود طويلة تهديدات المنتجات التي تحتوي على الرصاص على الصحة العامة، ولذلك اتخذ إجراءات منذ ذلك الوقت نحو التخلص من الرصاص في هذه المنتجات، ولكن بصمات التلوث بالرصاص مازالت قوية ومتغلغلة في أعماق مكونات البيئة وأعضاء جسم الإنسان، وسيحتاج الإنسان إلى ما لا يقل عن قرنٍ من الزمان لاستئصال هذا العنصر كلياً من بيئته وأعضاء جسده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق