الخميس، 23 سبتمبر 2021

صفحة مثيرة طويت من التاريخ البيئي


في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد قبل 45 عاماً، عندما كنتُ طالباً في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، كنت ألاحظ في محطات المحروقات، أو محطات تزويد السيارات بوقود الجازولين وجود عدة خراطيم خاصة بالمضخات المستعملة لملء الجازولين في السيارات، ومكتوب على أحدها جازولين بدون رصاص(unleaded gasoline)، أو أن هذه المضخات تكون ذات لونٍ مختلف عن المضخات الأخرى.

 

وفي الحقيقة في ذلك الوقت لم أفهم المقصود من هذا المصطلح العلمي التجاري، ولم أدرك دلالات بيع هذا النوع من وقود السيارات منذ فترة السبعينيات، ولم أستوعب الأبعاد البيئية والصحية والاجتماعية الكبيرة لمثل هذا النوع من الجازولين الخالي من الرصاص، فهذا النوع من الوقود الجديد لم يكن موجوداً كلياً في معظم دول العالم، بل وإن كل دول العالم بدون استثناء لم تكن تعرف أي شيء عن هذا الوقود ومردوداته الإيجابية على الصحة العامة، وبخاصة صحة الأطفال.

ففي مطلع العشرينيات من القرن المنصرم أدخل الإنسان نوعاً جديداً من الجازولين، وأُطلق عليه الجازولين بالرصاص(leaded gasoline)، وكان هذا النوع من الوقود نعمة عظيمة لرفع أداء السيارات من خلال تطوير وتحسين نوعية وقود الجازولين، فإضافة مركبات الرصاص العضوية، مثل رباعي إيثيل الرصاص ورباعي ميثيل الرصاص كانت مهمة جداً لرفع كفاءة الوقود، والمعروف علمياً برقم الأوكتان، وبالتالي تحسين عمل السيارة وأدائها أثناء الطريق.

ولكن لم يعلم الإنسان كعادته بأنه في تلك المرحلة الزمنية التي أدخل فيها الوقود الذي يحتوي على الرصاص، قد غرس في الوقت نفسه بذرة خبيثة في تربة الأرض، ورعاها وحماها فترة من الزمن حتى تحولت إلى شجرة شوكية عقيمة، وأعطت ثمراً حنظلاً فاسداً ومدمراً لصحة الإنسان. فالإنسان عندما أضاف الرصاص إلى الوقود كان شغله الشاغل ينصب فقط نحو تحسين أداء الجازولين في السيارة ورفع كفاءة وأداء المحرك، ونسي كلياً النظر في أداء الرصاص عندما يدخل في الهواء الجوي، وأهمل كلياً الجانب المتعلق بتصرف هذا السم عندما يتعرض له الإنسان بعد انطلاقه من عوادم السيارات، والأضرار الصحية التي تنجم عن ذلك، فهو بذلك حل مشكلة واحدة فقط وخلق في الوقت نفسه مشكلات كبيرة معقدة ومتشابكة منها بيئية، وصحية، واجتماعية.

فبعد سنوات من استخدام هذا النوع من الوقود، وتغلغل الرصاص وتجذره في أعماق الهواء الجوي، وفي التربة، والنبات والحيوان، وتراكمه في أعضاء جسم الإنسان، تأكد للعلماء وأجمعوا على أن أضرار استعماله أكبر من منافعه، وسلبياته تفوق إيجابياته، وأن المفاسد التي تنجم عنه أشد وطأة على الإنسان من المصالح التي يحصل عليها، بل واكتشف الإنسان الآن بأن ملوثات الرصاص التي كانت تنبعث من عوادم السيارات منذ فترة الثلاثينيات من القرن المنصرم مازالت تسرح وتمرح في الهواء الجوي وفي غبار وتربة الشوارع(لمزيد من المعلومات راجع مقالي المنشور في 17 يوليو 2021 في أخبار الخليج تحت عنوان: التلوث لا يموت)، أي أن سموم الرصاص تبقى في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وتمكث في أجسامنا خالدة مخلدة فيها حتى بعد إزالة الرصاص من جازولين السيارات.

فهذا الوضع الصحي المأساوي أضطر الإنسان إلى التفكير ملياً في وجود الرصاص في وقود السيارات في كل دول العالم، واتفق الجميع من رجال العلم والسياسة والحُكم على العمل سوياً للتخلص من الرصاص في الجازولين إلى الأبد وبدون رجعة، حيث أعلن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، والذي مقره في نيروبي في الثلاثين من أغسطس من العام الجاري بأن آخر شحنة من الجازولين الذي يحتوي على الرصاص كانت في الجزائر في نهاية يوليو، ولذلك صرحت المديرة التنفيذية للبرنامج بهذه المناسبة قائلة: "يُعد نجاح فرض حظر الجازولين المحتوي على الرصاص منعطفاً كبيراً للصحة العالمية والبيئة". كذلك نظراً لأهمية هذا الحدث من الناحية السياسية والأمنية فقد بعث الأمين العام للأمم المتحدة رسالة إلى دول العالم جاء فيها: "نحن نحتفل اليوم بمنعطفٍ للتعددية، ويتمثل في تتويج جهد عالمي مشترك لتخليص العالم من الرصاص في الجازولين الذي كان يعد تهديداً رئيساً لصحة الإنسان والكوكب. هذا النجاح الدولي يأتي بعد عشرين عاماً من قيادة برنامج الأمم المتحدة للبيئة لمبادرة شارك فيها القطاعين العام والخاص"، كما أضاف قائلاً: "إنهاء استخدام الجازولين المحتوي على الرصاص سيمنع موت أكثر من مليون إنسان سنوياً موتاً مبكراً بسبب أمراض القلب والسرطان، كما يحمي الأطفال من التلف الذي سببه الرصاص من الناحية العقلية". كذلك أكد الأمين العام للأمم المتحدة في بيانه المنشور في الثلاثين من أغسطس أنه: " يجب أن نعيد التزامنا هذا لإنهاء الأزمة الثلاثية المتمثلة في التغير المناخي، والتنوع الحيوي، والتلوث".

فبهذا الحدث التاريخي اليوم يكون الإنسان قد طوى صفحة من المعاناة البشرية البيئية والصحية التي استمرت أكثر من تسعة عقود من الزمن، فأدخل الآن وقود الجازولين الذي يحتوي على الرصاص في كتب التاريخ البيئي المعاصر.

ولكن بالرغم من هذا الإنجاز، إلا أنني شخصياً أعتبره انجازاً متأخراً جداً، فقد سمحنا بأيدينا وبمعرفتنا لهذا الملوث العصيب، وهو عنصر الرصاص الذي له خاصية التراكم والتضخم في بيئتنا الحية وغير الحية وفي أجسامنا، أن ينبعث من أخطر مصدر لهذا الرصاص وهو السيارات مباشرة إلى الهواء الجوي، وسمحنا نحن أيضاً لهذا الملوث الخطير أن ينتشر في بيئتنا ويتفشى في كافة أعضاء أجسامنا، وسيبقى معنا حتى بعد قرار التخلص منه فترة طويلة من الزمن لا يعلمها إلا الله، فبالرغم من إجماع العلماء منذ الخمسينيات، أي منذ أكثر من سبعين عاماً، على التهديدات الصحية الكبيرة التي يمثلها الرصاص لنا جميعاً، إلا أننا لم نتمكن من التخلص منه إلا بعد أن أوقع ضحايا بشرية بلغت حسب التقديرات ما لا يقل عن ثلاثين مليون إنسان، وخسارة مالية كُنا نتكبدها سنوياً تقدر بنحو 2.44 تريليون دولار، علماً بأن هذه الخسائر البشرية والمالية لن تنتهي كلياً وإنما ستنخفض تدريجياً مع الوقت. 

فعلى المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة أن يفكر بآليات جديدة أكثر فاعلية، وأشد ضغطاً وتأثيراً على الدول المعنية والمسؤولة عن تلوث وتدمير كوكبنا منذ قرنين من الزمان، وعلى المجتمع الدولي أن يبدع في استحداث وسائل ترفع من سقف محاسبة الدول المتقدمة والصناعية التي تقدَّمت وتطورت على حساب صحتنا وسلامة كوكبنا، ومازالت مستمرة في ذلك دون أي اعتبار مشهود وملموس لصحة بيئتنا واستدامة عطاء مواردنا وثرواتنا الفطرية الطبيعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق