الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

صراع الأقطاب الدولية الثلاثة(1 من 2)

صراع دولي محتدم منذ أكثر من عامٍ واحد بين ثلاثة أقطاب، الأول هو القطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني هو القطب الصيني العظيم، وأما الثالث فهو القطب الضائع الذي لا حول له ولا قوة، وهو منظمة الصحة العالمية الواقعة في الوسط بين تجاذبات صراع شد الحبل ما بين القطبين الأول والثاني، فالقوي الذي يتمتع بنفوذ أكبر وأوسع فهو الذي يشد حبل المنظمة وقرارها تجاهه، والضعيف عليه أن ينفذ فقط هذه القرارات التي تُفرض عليه.

 

وهذا الصراع العميق في هذه الفترة الزمنية العصيبة يتمحور كلياً حول هذا الفيروس الضعيف الذي زلزل العالم أجمع من تحت قدميه، وجعل البشرية كلها تركع تحت وطأة رحمته. وهناك العديد من القضايا التي يدور حولها الخلاف بين هذه الأقطاب الثلاثة، ولكن الخلاف الأكثر إثارة وتعقيداً، والأشد حساسية واحتداماً، هو حول منشأ هذا الفيروس الغريب، ومسقط رأسه ومكان ولادته، فالأسئلة الحائرة التي تُثار هي كيف ولج هذا الفيروس إلى عالم البشر؟ وكيف انتقل إلى أعضاء أجسامنا؟ ومن أين جاء؟

 

فأما المشهد الأول الرسمي من قصة منشأ الفيروس ومصدره ودخوله إلى عالم البشر يظهر في المؤتمر الصحفي الذي عقده فريق التحقيق الدولي التابع لمنظمة الصحة العالمية في مارس 2020، حيث خلص الفريق إلى تقديم "احتمالات وفرضيات"، ولم يصل إلى أي استنتاج حاسم، ولم يقدم أي دليل علمي قوي حول منشأ الفيروس. فقد جاء في التقرير الختامي لهذا الفريق الأممي بأن هناك عدة فرضيات لمنشأ الفيروس ومسيرة انتقاله إلى جسم البشر، فمنها الفرضية الأكثر احتمالاً وهي انتقال الفيروس من حيوان معدي بشكلٍ مباشر، أو غير مباشر عن طريق حيوان آخر وسيط مصاب ومعدي إلى جسم الإنسان، ومنها الفرضية التي تُسوِّق لها الصين لكي تُبعد عن نفسها الشبهات والاتهامات الدولية، وهي أن الفيروس انتقل إلى مدينة ووهان عن طريق استيراد المواد الغذائية المجمدة الملوثة بالفيروس، سواء من مدن صينية أخرى، أو من خارج الصين. كذلك هناك احتمالية انتقال الفيروس من الخفاش البري إلى العلماء مباشرة أثناء جمعهم للعينات، ثم نقلهم إلى المختبر وتعريض الآخرين للعدوى بهذا الفيروس. وأخيراً هناك الفرضية التي يثور حولها الجدال العقيم منذ أكثر من عام بين الصين من جهة وجبهة الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية من جهة أخرى، وهي نظرية تسرب الفيروس من المختبر، حيث جاء في التقرير بأن هذه الفرضية جداً غير محتملة(extremely unlikely)، أي أن التقرير لم يستبعد كلياً هذا الاحتمال، ولم يقفل الباب أمام من يريد الدخول فيه وسبر غوره.

 

كما أكد على هذا التوجه تصريحات المدير العام لمنظمة الصحة العالمية بعد نشر التقرير عندما قال بأن: "جميع الفرضيات موجودة على الطاولة وتحتاج إلى دراسات أخرى وشاملة". وعلاوة على هذا التصريح الخجول، فقد تجرأ مدير المنظمة ولأول مرة في لقاءٍ صحفي في 15 يوليو من العام الجاري في مؤتمر صحفي عُقد في برلين بأنه كان من المبكر والسابق لأوانه استبعاد نظرية تسرب فيروس كورونا من أحد المختبرات الصينية، أي بعبارة أخرى فإن منظمة الصحة العالمية لا تستبعد فرضية العلاقة بين نزول وباء كوفيد_19 وهروب الفيروس من المختبر. فقد قال مدير عام المنظمة:" "كانت هناك ضغوط سابقة لأوانها لاستبعاد فرضية أن الفيروس تسرب من مختبر حكومي صيني في ووهان". كما حث الصين، وهذه أول مرة يصرح فيه مدير عام المنظمة على ذلك، قائلاً: "المنظمة تسأل الصين لتكون أكثر شفافية وأشد انفتاحاً وتعاوناً، خاصة بالنسبة للمعلومات الأولية والبيانات الأساسية التي طلبناها في الأيام الأولى من انكشاف الوباء". كذلك قال أيضاً في هذا اللقاء مُشيراً إلى تجربته الشخصية في العمل في المختبرات الحيوية بأن: "حوادث المختبرات قد تقع، وهي شائعة، ومن المهم النظر في مختبراتنا لمعرفة ما حدث، فنحن نحتاج إلى معلومات، معلومات مباشرة حول وضع المختبر وحالته قبل وعند بدء الوباء".

 

وأما المشهد الرسمي الثاني فبطله الرئيس الأمريكي السابق ترمب الذي كان في مطلع هذا الوباء يمدح الصين ويشكرها على تعاونها في علاجه والتصدي له، ولكن عندما طرق الفيروس باب أمريكا وغزا المجتمع الأمريكي برمته وتفشى في شرايين جسمه وفقد السيطرة عليه، فعندئذٍ حول فشله إلى مهاجمة الصين والادعاء بأن الفيروس صيني وتسرب من المختبر. حيث أعلن في الأول من مايو 2020 من البيت الأبيض بأن الفيروس نتج من مختبر صيني، ولكن دون تقديم أي دليل يُثبت ادعاءه، ولكنه قال في إجابته على أحد الصحفيين أثناء اللقاء في البيت البيض: "لا أستطيع إخبارك بذلك، ليست لدي الصلاحية لإخبارك". كذلك سمعتُ صدى صوت هذه التصريحات من مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق عندما قال في لقائه مع "إي بي سي" بأن هناك "عدداً هائلاً من الأدلة" على أن فيروس كورونا تسرب من مختبر في مدينة ووهان.

 

ومثل هذه التصريحات من قائد أكبر دولة في العالم وأكثرها نفوذاً في الساحة الدولية، ربما شجعت الآخرين على تبني نظرية التسرب المخبري وطرحها على طاولة النقاش كأحد الاحتمالات والنظريات حول منشأ الفيروس، مثل تصريحات مدير عام المنظمة التي أشرنا إليها سابقاً، إضافة إلى تصريحات رئيس فريق التحقيق الأممي التابع لمنظمة الصحة العالمية إلى الصين بيتر إمبارك(Peter Ben Embarek) الذي كشف عن خفاياه وأسراره لأول مرة في المقابلة التلفزيونية التي بُثت على التلفزيون الدنماركي في 13 أغسطس 2021.

 

فقد أظهر رئيس فريق التحقيق لمنظمة الصحة العالمية بعض المعلومات التي كانت تخفى على عامة الناس، منها بأن هناك مضايقات صينية قد مُورست عليهم أثناء عملهم في الصين، كما أن الفريق الصيني المشارك في التحقيق رفض في البداية كلياً إدخال فرضية التسرب المخبري في التقرير الختامي، كما عارض أية إشارة إليها، أو حتى التوصية بإجراء دراسات مستقبلية حولها. كما قال في اللقاء التلفزيوني حول نظرية التسرب الفيروسي من المختبر بأنه من المحتمل بأن أحد العلماء من المختبر قد أحضر معه الفيروس عند جمعه لعينات من الخفاش في الكهوف الصينية، فأصابه المرض أولاً، ونقل العدوى إلى الآخرين في المختبر، ثم إلى الخارج، كما أضاف رئيس فريق منظمة الصحة حول تسرب الفيروس بأن أخطاءً بشرية أثناء إجراء التجارب تكون قد وقعت فنقلت العدوى من داخل المختبر إلى خارجه. 

 

وعند تولى بايدن زمام الأمور في الولايات المتحدة الأمريكية وجد بأن هناك تضارباً في الرأي الحكومي والمواقف الرسمية، ممثلاً في حكومة الرئيس السابق ترمب وأجهزة الاستخبارات والتجسس الأمريكية حول أصل نظرية التسرب المخبري ومنشأ فيروس كورونا، ولذلك دعا في 26 مايو 2021 كافة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي يبلغ عددها 19 جهازاً أمنياً استخباراتياً لمراجعة نظرية التسرب وجمع المعلومات حولها، كما طلب منهم مضاعفة الجهود وتقديم التقرير في غضون 90 يوماً، أي في نهاية أغسطس من العام الجاري.

 

ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر هذا التقرير بفارغ الصبر وفي شوقٍ شديد لمعرفة تفاصيله، والآن بعد ظهور التقرير إلى العلن، سأقوم بنقله وتحليله لعله يشفي غليلنا جميعاً في كشف ملابسات هذا السر العظيم، وإظهار الحقائق العلمية حول هذا المرض الغامض الغريب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق