الاثنين، 13 سبتمبر 2021

صراع الأقطاب الدولية الثلاثة (2 من 2)

قضايا كثيرة معلقة حتى يومنا هذا حول فيروس كورونا وسبل معالجته، ولكن القضية الخلافية الكبرى التي انقسم حولها العالم، والتي ربما تحولت إلى صراع سياسي محتدم، ومعركة شديدة أمام العالم أجمع، هي منشأ الفيروس ومسقط رأسه ومكان ولادته، وطرق انتقاله إلى بني البشر.

 

وهذه المعركة الدولية تدور رحاها بين ثلاثة أقطاب دولية رئيسة هي الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، ثم منظمة الصحة العالمية التي تقع في الوسط بين القطبين العظيمين، فكل يجرها نحوه حسب نفوذه وقوته.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي التي روجت لفكرة تسرب الفيروس من المختبر وهي التي أشاعت وبقوة بأن هذا الفيروس قد نشأ في مختبرات الصين، وبالتحديد معهد ووهان لعلم الفيروسات، فقد صرح عنها عدة مرات الرئيس السابق ترمب ووزير خارجيته، كما وردت هذه التصريحات في التقريرين اللذين نشرهما رسمياً الحزب الجمهوري في 21 سبتمبر من عام 2020، ثم التقرير الثاني المكون من 84 صفحة ونشر في الثاني من أغسطس من العام الجاري من لجنة الشؤون الخارجية الجمهوري لمجلس النواب تحت عنوان: "منشأ كوفيد_19: التحقيق في معهد ووهان لعلم الفيروسات". ويحتوي التقرير الأخير على عدة بنود منها البند حول "الدليل على التسرب المختبري"، ثم البند الثاني تحت عنوان: "الدليل على التعديل الجيني"، وأخيراً "الدليل على التستر". فهذا التقرير يشير إلى تسرب الفيروس بشكلٍ عرضي غير متعمد من المختبر، ويفيد بأن أن التسرب كان في أغسطس، أو قبل 12 سبتمبر 2019، وأن الفيروس الأصلي تم جمعه من كهف في مقاطعة يونان(Yunnan province). كما يدعي التقرير بأن معهد ووهان قد قام في منتصف ليلة 12 سبتمبر 2019 وبدون تقديم أية تفسيرات أو مبررات بحذف كل المعلومات وقاعدة البيانات المتعلقة بالفيروسات وعينات الفيروسات، إضافة إلى تدشين مشروع حول الخدمات الأمنية بالمعهد بقيمة 606 ملايين دولار لتحديث أجهزة التهوية والتكييف، كما يشير التقرير إلى دراسة جامعة هارفرد حول زيادة النشاط في المستشفى في ووهان وارتفاع أعداد السيارات في أغسطس 2019 في المواقف المخصصة للسيارات مقارنة بالأشهر السابقة. وكل هذه الأدلة، حسب التقرير الجمهوري تشير إلى هذا التسرب الفيروسي من المختبر.

 

ولكن بعد تسلم بايدن للبيت الأبيض، ونتيجة لعدم وضوح الرؤية والمواقف حول منشأ الفيروس بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية، فقد أمر في 26 مايو من العام الجاري بإجراء تقييم شامل وسريع في خلال تسعين يوماً حول هذه الفرضيات المتعلقة بالفيروس. كما أن مدير عام منظمة الصحة العالمية استغل هذه الفرصة الدولية فدعا من جهته في 20 أغسطس 2021 إلى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة جديدة للتحقيق في منشأ الفيروس، حيث أصدرت المنظمة بياناً لتكوين مجموعة من الخبراء والمستشارين تتكون من 25 عضواً بحلول العاشر من سبتمبر 2021 وأطلقتْ عليها إسم "مجموعة المنظمة الاستشارية حول منشأ الأمراض الجديدة ( WHO Scientific Advisory Group for the Origins of Novel Pathogens (SAGO)).

 

أما التقرير الذي أمر به بايدن فقد عُرض على مرحلتين، الأولى كانت سرية وقُدمت للرئيس بايدن نفسه في 24 أغسطس، والمرحلة الثانية فقد كانت علنية، حيث تم نشر ملخص التقرير المحتوي على صفحتين فقط في 27 أغسطس من المجلس القومي للاستخبارات، والذي يعمل كمنسق لما يُطلق عليه في أمريكا "مجتمع الاستخبارات"(intelligence community).

 

وقد جاء هذا التقرير مخيباً لرغبتي في الحصول على المعلومات الدقيقة حول منشأ الفيروس وحقيقة هذا المرض الغامض، فلم يشف غليلي كلياً بعد انتظار أكثر من ثلاثة أشهر، فهذا التقرير الجديد لم يُقدم أي جديد! فالانقسام الحاد حول مصدر الفيروس مازال حاضراً، والخلاف البيِّن حوله مازال قائماً.

 

فمن ملخص التقرير أستطيع أن أُقدم لكم المعلومات التالية التي تمخضت عنه.

أولاً: هناك في مجتمع الاستخبارات الأمريكي من أشار إلى أن الفيروس انتقل بشكلٍ طبيعي من الحيوان إلى الإنسان، ومنهم من قال بأن الفيروس قد تسرب من المختبر عن طريق التجارب التي تجرى في المختبر، أو من سوء التعامل العلمي المنهجي مع الحيوانات المخبرية أو مع العينات التي تم جمعها من الخفاش.

ثانياً: أفاد التقرير بأن الفيروس لم يتم تحويره وتطويره لإنتاج أسلحة بيولوجية، ولم يتم التلاعب فيه باستخدام تقنيات الهندسة الجينية.

ثالثاً: أشار ملخص التقرير إلى أن الصين لم تكن لديها معلومات أولية مسبقة عن الفيروس قبل الحالات الأولى التي انكشفت في ووهان.

 

ومع نشر هذا التقرير المنتظر، أصدر بايدن بياناً قال فيه: "سنعمل كل ما في وسعنا لمعرفة جذور هذا الوباء الذي تسبب في المعاناة والوفيات حول العالم، وذلك من أجل أخذ كافة الاحتياطات الضرورية لمنع حدوثه مرة أخرى"، كما جاء في البيان: "هناك معلومات مهمة عن منشأ هذا الوباء موجودة في جمهورية الصين الشعبية، ولكن منذ البداية، المسؤولين الحكوميين في الصين منعوا التحقيقات الدولية وأعضاء مجتمع الصحة العامة الدولي من الحصول عليها، فيجب أن تكون لدينا معلومات كاملة عن هذه الكارثة الدولية".

 

وكل هذه التصريحات من الولايات المتحدة الأمريكية ومن منظمة الصحة العالمية تلوم الصين على تقصيرها وعدم تعاونها في المشاركة في المعلومات التي بحوزتها، فتُلقي الكرة في الملعب الصيني، ولذلك لم تقف الصين موقف الدفاع عن نفسها فحسب، وإنما بدأت بخطة هجومية ممنهجة من المسؤولين الحكوميين ومن وسائل الإعلام على أمريكا والمنظمة على حدٍ سواء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت صحيفة "جاينا ديلي" (chinadaily)في مقال افتتاحي في الخامس من أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:"كوفيد_19 نظرية التسرب المخبري، كذبة أخرى من الـ سي آي إيه"، حيث جاء في المقال بأن هذه هي ليست المرة الأولى التي تكذب فيها أمريكا، فقد افترت على العراق وعلى المجتمع الدولي في جلسة خاصة في مجلس الأمن في عام 2003، واتهمت العراق بأنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل النووية، وأشعلت فتيل الحرب لسنوات طويلة وذهب ضحيتها الكثير من المدنيين العزل، واليوم هي نفسها تخلق الادعاءات حول تسرب الفيروس.

كما وجهت الصين سهامها إلى منظمة الصحة العالمية، وبالتحديد إلى مدير المنظمة حيث قال المدير العام في وزارة الخارجية الصيني: "إذا كان الدكتور تيدروس يعتقد بأن علينا ألا نستبعد فرضية التسرب من المختبر، حسناً، هو يعرف أين يذهب.... إنه يحتاج إلى الذهاب إلى مختبرات الولايات المتحدة الأمريكية"، حيث أفاد المسؤول الصيني بأن على المجتمع الدولي زيارة مختبر عسكري في مدينة "فورت دتريك"(Fort Detrick) في ولاية ميريلند، وبالتحديد معهد الأمراض المعدية، الذي تم اغلاقه عدة أشهر بسبب مخالفات في أنظمة السلامة. كما نشرت السفارة الصينية في واشنطن بياناً ادعت فيه بأن تقرير المخابرات "مفبرك"، حيث جاء فيه: "التقرير من مجتمع المخابرات يعتمد على افتراضات بأن الصين مذنبة وهي كبش الفداء، مثل هذا التصرف يؤثر ويخرب التعاون الدولي حول منشأ الفيروس ومكافحة الوباء".

 

والآن بعد كل هذا الجدل المحتدم بين الأقطاب الدولية حول منشأ الفيروس منذ نوفمبر 2019، لم نخرج حتى الآن بأي جديد، ولم تقدم لنا أية جهة دليلاً علمياً مستقلاً واحداً حول أسرار دخول هذا الفيروس إلى المجتمع البشري، وفي تقديري فإن هذا اللغز المحير سيبقى لغزاً في نفس البشرية دون أي تفسير علمي مقبول للجميع، وبخاصة بعد أن دخل فيه رجال السياسة.

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق