الجمعة، 1 أكتوبر 2021

مخلفات الفضاء تُزيِّن السماء الدنيا


التحديات التي تواجه الإنسان في غزوه للفضاء تختلف من عقدٍ إلى آخر، ففي القرن الماضي كان التحدي الأكبر يكمن في تدشين الأقمار والمركبات والسفن الصناعية إلى الفضاء والبقاء فيه فترة طويلة من الزمن، إضافة إلى الوصول إلى الكواكب الأخرى القريبة منا والنزول عليها. فهذا التحدي تم تجاوزه الآن بحيث إن إطلاق الأقمار والمركبات الفضائية أصبح عملاً روتينياً بسيطاً تقوم به دول كثيرة، بل وتحول إلى نشاطٍ سياحي وتجاري مفتوح يديره القطاع الخاص لكل من له القدرة المالية والجسمية لريادة الفضاء، وليست الحكومات الرسمية.

 

أما التحدي العصيب اليوم الذي سيُعيق طموحات الكثير من الدول في غزو الفضاء، أو في الأقل سيبطئ من نمو هذه الصناعة، ففي تقديري يتمثل في الملايين من المخلفات الناجمة عن تلك العمليات الفضائية السابقة بمختلف أهدافها ومهماتها، فكل عملية منها ولَّدت مخلفات تحوم وتسرح وتمرح في الفضاء، وتزين الأجواء كالمصابيح في أعالي السماء، وكل عملية من هذه العمليات والبرامج الفضائية أنتجت مع الوقت أجساماً وحطاماً وبقايا من هذه الصواريخ، والأقمار، والمركبات الفضائية التي تتنوع في حجمها وفي وزنها، ولا يعلم أحد عن مصيرها، وكيفية تصرفها في المستقبل القريب وهي تسبح وتدور حول الأرض في هذا الفراغ الواسع الهائل، وتطفو في الغلاف الجوي كما تطفو المخلفات على سطح البحر الواسع والشاسع.

 

وقد قدَّر "مكتب برنامج المخلفات المدارية"(Orbital Debris Program Office)التابع للإدارة الوطنية للملاحة الجوية وإدارة الفضاء(ناسا)، في النشرة التي تصدر كل ثلاثة أشهر تحت عنوان "المخلفات المدارية"(Orbital Debris) في العدد الصادر في الأول من فبراير 2021 وفي نشرات سابقة، كمية هذه المخلفات بقرابة 8000 طن تطير بسرعة فائقة في المدارات حول الأرض، كما أكد مكتب برنامج المخلفات المدارية بأن هناك زهاء نصف مليون من المخلفات الكبيرة الحجم، بحجم الطوب الصغير، موجودة في مدار الأرض، ونحو 26 ألف بحجم كرة القدم، وقرابة مائة مليون جسيم صغير، أو قطعة مخلفات صغيرة بحجم قرابة مليمتر واحد، أو أصغر كحبة الملح أو القمح. وجميع هذه المخلفات مجهولة المصير، فهناك عدة احتمالات يدرسها العلماء بهذا الخصوص منها اصطدام هذا الجسيمات بعضها ببعض، ومنها اصطدامها بالأقمار الصناعية السليمة العاملة في مجال الاتصالات، والأرصاد الجوية، وقياس نسبة الملوثات، وتحديد المواقع على الأرض، وغيرها من الأجهزة التي نستفيد منها ونحن على سطح الأرض، أو تعرضها للمركبات والمحطات الفضائية وعمل ثقب فيها يهدد عملها وتشغيلها وسلامتها.

 

فهذا التحدي الجديد الكبير الذي قد يُعيق ويعرقل تطور الإنسان في مجال ريادة الفضاء، اضطر الدول الفضائية إلى مراجعة سياساتها واستراتيجياتها في قطاع برامج الفضاء من حيث إدخال هذا العنصر الحديث في السياسات العامة للجهات المعنية بالفضاء، والعمل على تحديث السياسات القديمة وإضافة بندٍ خاص لكيفية إدارة مخلفات الفضاء، وبالتحديد في التعرف عليها أولاً، ثم سبل التعامل مع المخلفات الموجودة حالياً حول مدار الأرض، وأخيراً كيفية خفض إنتاج هذه المخلفات أثناء مرحلة التصميم والتصنيع لأي برنامج ونشاط فضائي.

 

فعلى سبيل المثال، قامت زعيمة العالم في مجال الفضاء، الولايات المتحدة الأمريكية بإدخال قضية المخلفات الفضائية في "سياسة الفضاء الوطنية" لأول مرة في عام 1988، حيث تمت إضافة بند خاص لمعالجة هذه القضية ينص على ما يلي: "التوجيهات تنص على أن جميع القطاعات العاملة في مجال الفضاء سيعملون على خفض إنتاج مخلفات الفضاء. كذلك تصميم وتشغيل الاختبارات الفضائية، والتجارب والأنظمة ستسعى جاهدة على تقليل، أو خفض تراكم مخلفات الفضاء بما يتوافق مع متطلبات المهمة وخفض التكاليف". وعلاوة على هذا البند، فقد تم إدخال تحديث متخصص على السياسة السابقة في ديسمبر 2020، ويشتمل على عدة فقرات جديدة منها: "صيانة بيئة الفضاء لتعزيز الاستدامة طويلة المدى لأنشطة الفضاء"، وهذه تعني صيانة والحفاظ على بيئة الفضاء للاستخدام المسؤول والسلمي والآمن مع التركيز على تقليل مخلفات الفضاء، ولتحقيق هذه السياسة ستعمل الولايات المتحدة الأمريكية على الاستمرار في القيادة في مجال تطوير وتبني المعايير والسياسيات الدولية.

 

وقد قامت وكالات الفضاء المختصة حول العالم، مثل ناسا والوكالة الأوروبية للفضاء بالتعاون مع بعض، وتنسيق الجهود حول كيفية إدارة المخلفات الموجودة حالياً والمخلفات التي ستنتج مستقبلاً، مع التركيز أولاً على سياسة التصميم البيئي المستدام الذي يمنع إنتاج المخلفات منذ مرحلة التصميم والتصنيع، ثم تأتي في المرتبة الثانية من سلم أولويات إدارة مخلفات الفضاء، وهي التخلص من المخلفات التي تجثم في أعالي السماء فتهدد سلامة الأقمار والمحطات الصناعية الموجودة حالياً.

 

فهناك الآن عدة محاولات لمواجهة مشكلة المخلفات الحالية المسببة للقلق الدولي، وجميعها في مرحلة التجربة والبحث والتطوير، ومنها على سبيل المثال، تنظيف الغلاف الجوي من هذه المخلفات كما يتم تنظيف المنزل من الغبار باستخدام المنظفات الآلية، حيث تم تطوير تقنية جديدة تعمل على سحب المخلفات من المدارات الأرضية كما يتم سحب الحديد باستخدام المغناطيس، وقد قامت شركة أستروسكيل اليابانية(Astroscale) بتطوير هذه التقنية لأول مرة وإجراء التجارب الأولية لمعرفة مدى نجاحها، حيث دشنت المهمة الأولى في 23 مارس من العام الجاري في كازاخستان تحت مسمى(End-of-Life Service)، وهذه المهمة تتكون من قمرين صناعيين، الأول يسمى(Servicer) والثاني(Client). فهذا القمران الصناعيان يقومان بسحب المخلفات الفضائية واحدة تلو الأخرى والتي ستلتصق بها، ثم يتم دفعها تجاه الأرض لتحترق في الغلاف الجوي قبل أن تصل إلى سطح الأرض. كذلك تقوم الوكالة الأوروبية للفضاء بإجراء التجارب على قمر صناعي، أو سفينة فضائية لها أذرع صناعية كروبوتات تمسك بالمخلفات، أو تكون لها شباك تُجمع المخلفات.

فهذه الظاهرة الجديدة نسبياً المتمثلة في وجود مخلفات في السماء تؤكد لنا بأن أيدي البشر لم تعبث في الأرض فحسب، ولم تلوث الماء والهواء والتربة فقط، وإنما بلغت أيدي الإنسان المفسدة أعالي السماء، وعلى ارتفاع عشرات الكيلومترات فوق سطح الأرض، فمتى سيتوقف الإنسان في إفساد وتدمير كوكبنا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق