الثلاثاء، 5 أكتوبر 2021

وفي قَصَصِهم عبرة لأولي الألباب

من الكُرب البيئية النادرة التي حفرت نفسها بعمق في جذور صفحات التاريخ، ونقشت سطورها وكلماتها من آلام ومعاناة المتضررين وآهات المرضى ودموع المصابين هي الكرب العظيم الذي نزل على الشعب الياباني خاصة، ودول العالم عامة في الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت آثارها باقية تنبض بالحياة.

 

وهذه الكارثة البيئية الصحية التي احتلت مكانه بارزة في كتب التاريخ، هي فريدة من نوعها من حيث إنها مازالت حاضرة ومشهودة أمامنا، وتداعياتها بارزة وواضحة على الضحايا والمرضى والمصابين هُم وأسرهم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، فهي ليست كباقي الأحداث التاريخية التي ضاعت في صفحات كتب التاريخ، فليست لها الآن علاقة لصيقة ومباشرة مع واقعنا اليوم، فنحن نرى هذه الكارثة اليوم من جوانب كثيرة ومتنوعة، فمنها من جانب القوانين القومية التي سُنت في الكثير من دول العالم حول هذه القصة الخالدة، ومنها من ناحية المعاهدات الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة والتي صدَّقت عليها معظم دول العالم ومنها مملكة البحرين، وهي معاهدة "ميناماتا" حول الزئبق، ومنها أخيراً من ناحية توثيقها على أعلى المستويات الدولية الواسعة الانتشار والتأثير، وهي إطلاق فيلم من هوليود في 23 سبتمبر من العام الجاري يجسد هذا الكرب في أسوء صوره، وأشده وقعاً على المشاهدين، ويخلد ذكراه، ويصور وقائعه التي مازالت بعض صورها حية نراها ونسمع عنها من قبل بعض الضحايا الأحياء.

 

فهذا الحدث الجلل في تقديري يجب أن لا ينسى أبد الدهر، ويجب تخليده في مثل هذه الأفلام الجماهيرية من منبع صناعة الأفلام، كما فعلت هوليود، فما وقع في الخمسينيات من القرن المنصرم من أحداث مؤلمة، لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها، فانعكاساتها مازالت ماثلة أمامنا، ودروسها وعبرها لا تنتهي ويجب أن تكون بارزة دائماً في واقعنا، وفي وثائقنا، وفي مناهجنا، وفي وسائلنا الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعية، وفي قوانيننا وأنظمتنا، فهي مثَّلتْ دروساً حية للأجيال السابقة، وعلينا أن نعْتبر منها في هذا الجيل والأجيال اللاحقة، فلا نكرر أخطاءها، ولا نقع في شباكها، ونتعلم ونتعظ من كل سقطة وهفوة من هفواتها.

 

فهذا الفيلم الجديد من هوليود سيكون حتماً إحدى الأدوات القوية المؤثرة التي ستلعب دوراً هاماً في نشر الوعي بهذا الكرب العظيم الذي وقع في إحدى المدن اليابانية على ساحل خليج ميناماتا على الساحل الجنوبي الغربي من اليابان، والذي جعل من إسم "ميناماتا"( Minamata)محفوراً في قلب البشر أجمع. وهذا الفيلم الصادر تحت مسمى "ميناماتا" قام بتمثيله وإخراجه الممثل الأمريكي المشهور جوني ديب(Johnny Depp) الذي لعب دور البطل والصحفي الحقيقي الذي كان يصور ويوثق هذه المعاناة البشرية في احدى القرى في خليج ميناماتا، وهو يرجين سميث(Eugene Smith)، الصحفي المصور الأمريكي، فيُقدم لنا صوراً واقعية حية تؤكد لنا عِظم هذا الخطب الذي مرَّ به الآلاف من الناس، ويثبت لنا واقعية المرض العقيم والغامض والغريب الذي نزل على الشعب في تلك القرية.

 

فقد التَقَط الكثير من الصور في السبعينيات من القرن المنصرم، ومن أشد الصور وقعاً وتأثيراً هي صورة لامرأة في عام 1971 سقطت ضحية لهذا المرض، وعلامات الأسى والحزن والمعاناة تقطر من وجهها، وعيونها تزرف دموعاً قاسية من شدة ما حلَّ بها من ألم وأنين، فهذه المجموعة من الصور الحية لهذه المرأة كانت ومازالت أكثر تأثيراً من ألف كلمة، ومن صرخات المئات من المحاضرات والأبحاث العلمية الرصينة، وكانت لهذه المشاهد الفوتغرافية المردود الإيجابي العظيم على الرأي العام الياباني من جهة والعالمي من جهة أخرى، فأيقظت هذه الصور النفوس النائمة، وحركت الضمائر الميتة الغافلة.

 

فهذه الطامة الكبرى يجب أن تكون مرآة لنا نرى من خلالها قُدرة التلوث بشكل عام، والتلوث الصناعي بشكلٍ خاص على إحداث تدميرٍ شامل للبيئة ومكوناتها الحية وغير الحية والجسم البشري برمته. وهناك الكثير من الدروس والفوائد التي نستقيها من قصة ميناماتا، ويجب أن نقف عندها، لنتأمل فيها ملياً، ونتجنب الوقوع فيها في بلادنا. وهي كما يلي:

أولاً: التلوث آفة ووباء مرضي يعُمْ ويؤثر على الجميع إذا أُطلق سراحه بدون رقابة، وتُرك من غير قيود وضوابط، فعلينا أن لا نسمح بالملوثات من الولوج كلياً في بيئتنا في الدرجة الأولى، ثم إن لم أمكن ذلك، فمعالجتها وخفض تركيزها في الدرجة الثانية قبل السماح لها بالدخول في مكونات بيئتنا.

ثانياً: النمو الاقتصادي يجب أن لا يكون على حساب التنمية الصحية والبيئية للبشر، فالنمو الاقتصادي الذي لا يأخذ البيئة في الاعتبار فسيكون معوقاً وغير مستدام، وستكون العواقب الاقتصادية أكبر وأشد من فوائدها على المدى البعيد.

ثالثاً: بعض الملوثات لا يموت إذا دخل البيئة، فهو يبقى فيها خالداً مخلداً لسنوات طويلة، فيتراكم ويتضخم تركيزه مع الوقت حتى يكون جزءاً رئيساً من السلسلة الغذائية التي تنتهي بالإنسان، فيُسقطه في شر الأمراض الغريبة والغامضة والمستعصية على العلاج، كما أن شر الملوثات لا ينتهي عند جيلٍ واحدٍ فقط، وإنما ينتقل عبر الأجيال من جيلٍ إلى آخر، ومن الآباء والأجداد إلى الأجنة والأطفال، ولذلك فبعض الكوارث البيئية التي وقعت قبل أكثر من سبعين عاماً مازالت ماكثة أمام أعيننا. فالنسبة لقصتنا اليوم فقد سمحنا لأحد المصانع بإطلاق عنصر الزئبق إلى البحر، وهذا العنصر لا يتحلل وإنما له القدرة على التراكم والتركيز في الكائنات البحرية إلى أن وصل مع الزمن إلى الإنسان بتراكيز سامة مرتفعة سببت هذه الطامة الصحية الكبرى، ونجمت عنها تداعيات سياسية، واقتصادية، واجتماعية مشهودة حتى اليوم.

رابعاً: عدم الاستعجال في اتخاذ قرارات فورية وحاسمة لوقف صرف الملوثات من المصانع ومصادر التلوث الأخرى، يعطي الفرصة للملوثات بالتركيز في عناصر البيئة والانتقال من كائنٍ حي إلى الآخر حتى يصل إلى الإنسان، وعندها تكون قد وصلت مستويات سامة مرتفعة تُعرض الإنسان للإصابة بالأمراض.

خامساً: مملكة البحرين انضمت رسمياً إلى اتفاقية ميناماتا حول عنصر الزئبق السام في يوليو من العام الجاري، والانضمام إلى هذه الاتفاقية أو غيرها من الاتفاقيات الدولية لا ينتهي عندما يتم إصدار المرسوم الخاص بها، وإنما يعني نقطة البداية لمتابعات حثيثة ومستمرة، ومراقبة حاسمة لكافة المصادر التي يوجد فيها الزئبق، سواء أكانت منتجات نستخدمها بشكلٍ يومي في حياتنا، أو مخلفات تحتوي على الزئبق ويتم صرفها في البيئة. وأود التذكير والتنبيه هنا إلى أن أسهل خطوة في مجال الاتفاقيات عامة هي خطوة التوقيع ثم التصديق، والخطوة الأهم والأصعب فهي خطوة التنفيذ وتطبيق كافة بنود هذه الاتفاقيات على أرض الواقع. فهذه الاتفاقيات الأممية تكون عادة معقدة من حيث اللغة ومن حيث المفاهيم والمصطلحات العلمية التي ترد فيها، فهي تحتاج إلى فريقٍ متعدد التخصصات، وليس شخصاً واحداً فقط يحمل عبء متابعة وتنفيذ الاتفاقيات ومراقبة التعديلات الدورية التي تضاف أو تحذف منها، كذلك التوغل في الملاحق العلمية لهذه الاتفاقية. ومن جانب آخر لكي تنفذ الاتفاقية بشكلٍ فاعل يجب أن تخصص لها ميزانية محددة للتكفل بكافة المصاريف والنفقات المتعلقة بها، فكل اتفاقية نصادق عليها تمثل عبئاً مالياً وفنياً وبشرياً يضاف إلى باقي الاتفاقيات الدولية والتشريعات والأنظمة الوطنية.

 

فهل كل هذه الإمكانات والقدرات البشرية الفنية المتخصصة والمالية اللازمة لتنفيذ الاتفاقيات موجودة

ومتوافرة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق