السبت، 16 أكتوبر 2021

أين نحن من المواصفات البيئية لمنظمة الصحة العالمية؟

  

المواصفات والمعايير البيئية المختلفة التي نضعها لنوعية المكونات البيئية، سواء أكانت هذه المكونات هي الهواء، أو المياه السطحية والجوفية، أو التربة، أو مياه الشرب، فإنها تهدف أولاً إلى حماية صحة الإنسان، ثم في المرتبة الثانية حماية الأحياء الأخرى التي تعيش معنا، إضافة إلى الحفاظ على جودة وعطاء هذه البيئات المختلفة لنضمن استدامتها لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا. 

 

وهذا يعني بأننا لو اكتشفنا بعد أن وضعنا هذه المعايير لعدة سنوات بأنها لا تحمي صحة الإنسان، وبل وتعرضه للأمراض والأسقام الحادة والمزمنة، فإنها عندئذٍ ستصبح بالية ولاغية، ولا قيمة لها من الناحية الفعلية، ولا منفعة ولا جدوى صحية وبيئية من وجودها وتطبيقها، مما يستدعي فوراً تحديثها وتغييرها، واستبدالها بمواصفات أخرى تحقق الغرض الأساس من وضعها.

 

ولذلك رؤيتنا وسياستنا إلى هذه المواصفات أنها يجب أن تكون ديناميكية، ومتجددة، ومتغيرة، ومتطورة مع الوقت، فنبعث فيها في كل فترة زمنية قصيرة روح الحياة والاستدامة بين الحين والآخر، ونقوم بمراجعتها، ودراستها من جديد، والتحقق من مدى صلاحيتها في ذلك الوقت. فأي مواصفة بيئية نضعها لن تكون ثابتة مدى الحياة، ولن تكون جامدة لن تصل إليها أيدي التدقيق والتحقيق من سلامتها لحماية صحتنا، وصحة الحياة الفطرية، وسلامة عناصر بيئتنا.

 

ويرجع السبب في هذه السياسة إلى أن هناك معلومات وحقائق بيئية يكتشفها الإنسان مع الزمن، وهناك مستجدات وتطورات متسارعة مرتبطة بالتلوث والملوثات الكيميائية والحيوية والطبيعية تظهر كل يوم، وكلها تؤكد تدمير هذه الملوثات لصحة الإنسان، ولو كانت بمستويات منخفضة جداً أقل من المعايير والمواصفات الخاصة بها، ولذلك فإن تشريعاتنا ومواصفاتنا والمقاييس التي نضعها يجب أن تواكب هذه الحقائق وتلاحق هذه المستجدات والاكتشافات الحديثة بشكلٍ دائم ومستمر.

 

وسأضرب هنا مثالاً واحداً فقط لأبين أهمية مراجعة وتحديث وتطوير المعايير البيئية بين الحين والآخر، وهذا المثال يدور حول غاز الأوزون الذي يُعد من الإضافات الجديدة والحديثة نسبياً إلى قائمة الملوثات التقليدية التي عرفها الإنسان منذ عقود طويلة، حيث إنه لم يدخل في قائمة الملوثات الرئيسة الخاصة بجودة الهواء إلا في السبعينيات من القرن المنصرم عندما تم اكتشافه في الهواء الجوي في الأربعينيات في عدة مدن حضرية كبيرة وفي مقدمتها مدينة لوس أنجلوس الأمريكية.  

 

فغاز الأوزون يُعد من الملوثات الثانوية، أي لا توجد مصادر تنبعث منها غاز الأوزون مباشرة، وإنما يتكون نتيجة تفاعل بعض الملوثات التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء مثل ثاني أكسيد النيتروجين والغازات العضوية المتطايرة، حيث تتفاعل هذه الغازات مع بعض عند وجود الشمس، فتُكون خليطاً معقداً ومدمراً من الملوثات التي تهدد صحة الإنسان والنبات والحيوان والمواد. ولذلك عندما أَصدرتْ الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1970 قانون الهواء النظيف، وضعتْ مواصفة جودة الهواء للملوثات "المؤكسدة الكيميائية الضوئية الكلية"، وبمتوسط تركيز لا يتعدى 80 جزءاً في البليون في الساعة الواحدة، ثم في عام 1979 تم تغيير المواصفة لتكون خاصة بغاز الأوزون فقط، وبتركيز 120 جزءاً في البليون، كما تم تغيير وخفض هذه المواصفة للمرة الثالثة في عام 1997 ليكون التركيز في مدة 8 ساعات لا يتجاوز 80 جزءاً في البليون. فهذه المواصفة لم تبق جامدة في مكانها وثابتة لا تتحرك، فقد جاءتها رياح التغيير السريعة الناجمة عن الأبحاث البيئية الطبية، والتي أكدت بأن هذه المواصفة الخاصة بالأوزون لا تحمي الأمن الصحي للإنسان، فقد أجمعت الدراسات أن غاز الأوزون يؤثر على صحة الإنسان بمستويات أقل من هذه المواصفة، مما اضطر الجهات المعنية في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2008 إلى إجراء تغييرٍ رابع على هذه المواصفة، فأصبحت 75 جزءاً في البليون خلال 8 ساعات.

 

وتواصلت الأبحاث العلمية في مجال الانعكاسات الصحية والبيئية الضارة لغاز الأوزون على البشر والشجر والحجر، وأكدت أيضاً من جديد على أن المواصفة التي وُضعتْ في عام 2008 تُعد غير صالحة وغير مجدية ولا تفي بهدف حماية صحة الناس، فقامت وكالة حماية البيئة الأمريكية في عام 2015 للمرة الخامسة بالتغيير، فانخفض معدل التركيز إلى 70 جزءاً في البليون في فترة 8 ساعات. ومازالت المحاولات مستمرة من قبل الأطباء وعلماء البيئة ورجال القانون لإجراء تغييرٍ سادس على هذه المواصفة، حيث إن آخر الدراسات والأبحاث أشارت من جديد بأن المواصفة السابقة أصبحت بالية وقديمة وغير صالحة للاستعمال، فالمقترح الجديد هو أن تُخفض إلى 60 جزءاً من غاز الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي، والآن المعركة انتقلت من العلماء والمختصين إلى رجال السياسة، والذين عادة ما يأخذون في الاعتبار البعد الاقتصادي الناجم عن تنفيذ هذه المواصفة، إضافة على الرضوخ لجماعات الضغط التي تتأثر سلباً عند تنفيذها.

 

ولذلك فإن منظمة الصحة العالمية اتبعت هذا النهج في متابعة آخر التطورات والمستجدات العلمية والصحية المتعلقة بتأثير الملوثات على الصحة العامة، وبخاصة بالنسبة للملوثات في الهواء الجوي، ولكن هذه المتابعات كانت متأخرة كثيراً بسبب دور التلوث الرئيس والعميق في ازدياد الأمراض ونسبة الوفيات على المستوى العالمي، حيث حدَّدتْ في عام 1987 ولأول مرة الدليل الاسترشادي لجودة الهواء الجوي بالنسبة لتركيز بعض الملوثات مثل الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، والجسيمات الدقيقة، وثاني أكسيد الكبريت. وفي عام 1997 قامت المنظمة بإجراء تحديثات طفيفة على هذه المعايير غير الملزمة، ثم في عام 2005 قدَّمت خطوطاً استرشادية جديدة حول جودة الهواء، وأخيراً وبعد مرور 16 عاماً، وبالتحديد في 22 سبتمبر من العام الجاري أصدرت المنظمة دليلاً جديداً تحت عنوان: "الخطوط الاسترشادية لمنظمة الصحة العالمية حول جودة الهواء العالمي" ويقع في 257 صفحة، وتمخضت معايير جودة الهواء الجديدة بعد القيام بمراجعة وحصر أكثر من 500 دراسة منشورة في الخمس سنوات الماضية، وتشمل هذه المواصفات الاسترشادية على الجسيمات الدقيقة التي قطرها 10 ميكرومترات والتي قطرها 2.5، إضافة إلى الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، وأول أكسيد الكربون. ونتيجة للتغير الجذري في استنتاجات الدراسات حول تأثير الملوثات على الصحة العامة، وعدم وجود حدٍ آمن للملوثات في الهواء الجوي، فقد قامت المنظمة بمراجعة مواصفاتها القديمة لتواكب هذه التطورات العلمية وتحقق الهدف من وضعها، وهو حماية الصحة العامة. فعلى سبيل المثال، خفضت المواصفة الخاصة بالجسيمات الدقيقة(قطر 2.5 ميكرون) وبنسبة 50% من 10 إلى 5 ميكروجرامات لكل مكتر مكعب كمعدل سنوي، كما خفَّضت المواصفة المتعلقة بغاز ثاني أكسيد النيتروجين في الهواء الجوي وبنسبة أكثر من 75% من 40 إلى 10 ميكروجرامات لكل متر مكعب كمعدل سنوي.

وأما في البحرين فعلينا ملاحقة هذه التطورات الحديثة، ومواكبة جميع هذه المستجدات في مجال القوانين والأنظمة والمعايير البيئية، فلا نتوقف عند أول قانون بيئي وضعناه في عام 1996، وهو المرسوم بقانون(21) لسنة 1996 بشأن البيئة، أي قبل أكثر من 25 عاماً، حيث اختفت مشكلات بيئية، أو تم القضاء عليها كلياً، كما انكشفت قضايا ومشكلات بيئية جديدة أخرى معقدة ومتشابكة واتضحت معالمها وصورها.

وفي الوقت نفسه علينا مواكبة ومتابعة كافة التطورات المتعلقة بمواصفات جودة الهواء وجودة مكونات البيئة الأخرى على حدٍ سواء، وآخرها كما ذكرنا إصدار منظمة الصحة العالمية حول الخطوط الاسترشادية لجودة الهواء الجوي، إذ لا فائدة من وجود أية مواصفة لا تحقق الهدف من وضعها، وهو صيانة صحة المواطنين. فأول مواصفة بيئية أُقرتْ في البحرين كانت قبل عقدين من الزمن، وتمثلت في القرار الوزاري رقم (10) لسنة 1999 بشأن المقاييس البيئية(الهواء والماء)، والقرار رقم (3) لسنة 2001 بتعديل الجداول للقرار رقم (10) لسنة 1999، والمعدل بقرار رقم (2) لسنة 2001. وهذه المواصفات أصبحت الآن لاغية لوجود مواصفات أخرى حديثة نسختها وأفقدتها فاعليتها وجدواها، وبالرغم من صدور القرار الوزاري رقم(2) لسنة 2021 بشأن المقاييس البيئية للهواء، إلا أن هذا القرار أيضاً لم يحدِّثْ، ولم يغير مواصفات ملوثات رئيسة كانت موجودة في قرار عام 1999، كما إن بعض مواصفات الملوثات التي تم بالفعل تعديلها مازالت مرتفعة، ولا تحمي صحة المواطن، ولا تواكب مواصفات بعض الدول المتقدمة ومنظمة الصحة العالمية والدراسات العلمية حول تأثير الملوثات على الصحة العامة.

وانطلاقاً مما سبق وبهدف حماية صحة الإنسان من الملوثات في الماء والهواء والتربة، وضمان استدامة عطاء الموارد والثروات البيئية الحية وغير الحية لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا، علينا ملاحقة ومواكبة آخر التطورات العلمية في مجال المواصفات والقوانين البيئية، ووضع الإجراءات اللازمة لتنفيذها والعمل بها في أرض الواقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق