الخميس، 28 أكتوبر 2021

المُتَهَمون في قضية التغير المناخي


كل المشكلات البيئية العالمية الكبرى التي نُعاني منها الآن هي بسبب أيدي الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة التي عبثت بالبيئة وعاثت فيها فساداً وإخلالاً في توازنها عقوداً طويلة من الزمن دون إعطاء أي اهتمام بتداعيات عبثها ومغامراتها اللامسؤولة تجاه بيئتنا. فقامت بالأعمال التنموية من جهة ودمرت مكونات البيئة من جهة أخرى، كما قامت بالبناء والتطوير في جانب وسببت الخراب والتأخر في جانبٍ آخر، فكانت النتيجة يد تبني وأخرى تدمر، فتنمية وتدمير في الوقت نفسه، وهدر وإفراط شديدين في موارد وثروات البيئة من الناحيتين الكمية والنوعية، كذلك كانت النتيجة النهائية تنمية معوقة مشلولة تَرى بعينٍ واحدة، فلا يُكتب لها الاستدامة في الإنتاج والعطاء والتطور.

 

فمن ناحية ولَّدت الدول الصناعية الكهرباء لشعوبها لكي تُنير بها ظلام الليل وسواده الكالح، وفي الوقت نفسه أطلقت الملوثات السامة التي دمرت جودة الهواء وحولته من مُعينٍ على صحة الإنسان إلى عامل هدم يعمل على تدميره وإفساده، كما أنها في الوقت نفسه كوَّنت هذه الملوثات أمطاراً حمضية سببت الدمار الشامل للبشر والشجر والحجر والحياة الفطرية في البر والبحر والجو، وأتفلت وقضت على مساحات واسعة من الغابات المنتجة والأراضي الزراعية المثمرة.

 

كذلك من ناحية اخترعت الدول المتقدمة السيارات ووسائل المواصلات والنقل الأخرى فسهلت على الناس الحياة ووفرت عليهم ساعات طويلة للانتقال من مدينة على أخرى، ولكنها في الوقت نفسه سمحت للملوثات الخطرة للولوج في الهواء الجوي وتكوين ظاهرة صحية مرضية هددت حياة الناس، وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي.

 

وكل هذه الملوثات، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان ومركبات الفريون وغيرها، التي انطلقتْ من محطات توليد الكهرباء ومن وسائل المواصلات ومن المصانع، أدت إلى انكشاف أكبر وأشد قضية عرفها الإنسان تعقيداً وتأثيراً على البشرية والكرة الأرضية برمتها، فتراكمت هذه الملوثات التي انبعثت من الدول الصناعية منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى، أي منذ أكثر من قرنين، وكونت مع الوقت ظاهرة وقضية جامعة ذات أبعاد متشابكة تعدَّت البعد البيئي لتشمل البعد الاقتصادي، والاجتماعي، والصحي، والأمني، وهي ظاهرة التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض.

 

وهذه الظاهرة العصيبة المعقدة منذ أن دخلت رسمياً في جدول أعمال المجتمع الدولي في قمة الأرض في البرازيل في عام 1992 مازالت بدون حلٍ جذري مُلزم لكافة دول العالم، حيث إن المجتمع الدولي يدور في دائرة مفرغة، كلما تقدم خطوة إلى الأمام، تأخر خطوتين إلى الخلف.

 

وفي تقديري هناك عدة أسباب تقف وراء فشل إيجاد الحل الدائم لمواجهة هذه القضية الدولية، وأُريد اليوم أن أرُكز على سببٍ واحد فقط من بين أسباب كثيرة، وهو البعد التاريخي لهذه القضية، فكيف بدأت هذه القضية الدولية؟ ومن هو المتهم الرئيس في نزول هذه الظاهرة والمسؤول الأول عن وقوع هذه المشكلة العامة والمشتركة منذ اليوم الأول حتى الآن؟

 

فقد نَشرتْ منظمة(Carbon Brief) دراسة شاملة تاريخية في الخامس من أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان: "المسؤولية التاريخية للتغير المناخي يقع في قلب الحوار حول العدالة المناخية"، وهذه الدراسة تُوجه أصابع الاتهام نحو الدول المسؤولة في إحداث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي منذ قيام الثورة الصناعية الأولى، أي منذ عام 1850 حتى يومنا هذا، وبالتحديد عام 2021، والتي من المفروض أن تتحمل مسؤولية تبعات هذا التغير المناخي ذات الأبعاد المختلفة، ومنها سخونة كوكبنا وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، ووقوع كوارث مناخية متكررة وشديدة ومفرطة في حدتها وقوة تدميرها.

 

فهذه الدراسة قدَّمت تحليلاً تاريخياً لمصادر وحجم انبعاثات كل دولة من دول العالم منذ أكثر من قرنين من الزمن، مثل حرق الوقود الأحفوري في محطات توليد الكهرباء، والسيارات، والمصانع، وعلى رأسها مصانع إنتاج الأسمنت، ثم التغير في استخدامات الأرض من حيث قطع الأخشاب، وإزالة الغابات لزراعة المحاصيل وإنتاج الوقود الحيوي. وكانت نتيجة هذا التقييم أن دول العالم أجمع أطلقت زهاء 2504 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي منذ 1850، وهذا الغاز الذي يتراكم في الغلاف الجوي فيحبس الحرارة في طبقات الجو السفلى أدى إلى رفع حرارة كوكبنا نحو 1.2 درجة مئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية.

 

أما على مستوى دول العالم، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المتهمة الأولى في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، حيث بلغ حجم الغاز المنطلق على مدى أكثر من مائتي عام قرابة 509 جيجا طن، أي أن أمريكا تتحمل نسبة 20.3% من مجموع الانبعاثات الكلية على مستوى الكرة الأرضية، وهي بهذه النسبة رفعت درجة حرارة الأرض 0.2 درجة مئوية.  

ثم أشار التقييم إلى أن الصين تأتي في المرتبة الثانية بنسبة 11.4% من الانبعاثات الكلية للدول نتيجة لحرق الفحم وأنواع الوقود الأحفوري لتشغيل برامج التنمية المتسارعة غير المسبوقة، مما نجم عن ذلك رَفْع الصين لدرجة حرارة كوكبنا قرابة 0.1 درجة مئوية، وبعد أمريكا والصين جاءت روسيا بنسبة انبعاثات بلغت 6.9%، ثم البرازيل بنسبة 4.5% وإندونيسيا 4.1% نتيجة لحرق الغابات لأسباب طبيعية ومتعمدة، وأخيراً تأتي ألمانيا 3.5%، والهند 3.4، وبريطانيا 3، واليابان 2.7، وكندا 2.6%.

 

وهذه الانبعاثات التي صدرت عن هذه الدول مازالت مستمرة حتى يومنا هذا فتأثيراتها تراكمية بطيئة وتدريجية مع الزمن، أي أنها ومنذ انبعاثها في اليوم الأول لم تنته وبقت في بيئتنا، فتراكمت وتضخمت وأنتجت ظاهرة التغيرات المناخية وتداعياتها الخطيرة المهددة لصحتنا وسلامة كوكبنا.

 

فمن العدل والمساواة أن تتحمل الدول المسؤولة تاريخياً عن حدوث التغير المناخي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، الجزء الأكبر من الحل، وتساهم أكثر من الدول الأخرى في مواجهة هذا الظاهرة التي تسببت هي في نشوئها ووقوع تداعياتها العصيبة على كوكبنا برمته وتأثر كل دول العالم بها، وبخاصة الدول الفقيرة والنامية التي ليس لها فيها ناقة ولا جمل في تكوينها. ولكن في الواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تتهرب من واجباتها الدولية ومسؤولياتها الأخلاقية التاريخية في مكافحة التغير المناخي، بل وتعرقل الوصول إلى حلٍ جماعي مشترك وملزم، فمن جانب لا تلتزم بالمعاهدات الدولية المعنية بالتغير المناخي، ومن جانب آخر لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها لتمويل ودعم الدول النامية للتكيف مع تداعيات هذه الظاهرة والحصول على تقنيات نظيفة لا تنبعث عنها ملوثات التغير المناخي. فأمريكا في عام 1992 في عهد بوش الأب وقعت على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، كما وقع كلينتون على بروتوكول كيوتو لعام 1997، ثم جاء بوش الابن فألغى التزام أمريكا تجاه هذا البروتوكول، وبعد ذلك جاء أوباما فوقع على مفاهمات باريس 2015 للتغير المناخي، والتي انسحب منها ترمب وتخلى عنها كلياً.  

 

فأمريكا المسؤول الأول عن حدوث سخونة الأرض من الواجب أن تكون الأكثر مساهمة من الناحية المالية في صندوق مكافحة هذه الأزمة الدولية. ففي الاجتماع الدوري رقم 15 الذي عُقد في كوبنهاجن في 2009 تعهدت الدول المتقدمة الغنية على تخصيص مبلغ مائة بليون دولار سنوياً للدول الفقيرة والنامية بحلول عام 2020، كما أكدت على هذا التعهد في اجتماع باريس 2015، ولكن معظم الدول لم تف بالتزاماتها، حسب ما ورد في المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" في 21 أكتوبر من العام الجاري. كما أفاد المقال المنشور في البلومبرج في 15 أكتوبر بأن مساهمة أمريكا كانت تتراوح بين 40 إلى 47% من المائة بليون، ولكنها تبرعت فقط بمبلغ نحو 7.6 بليون دولار في الفترة من 2016 إلى 2018، علماً بأن الرئيس بايدن أعلن في سبتمبر من العام الجاري بأنه سيُسهم بمبلغ 5.7 بليون دولار سنوياً، ولكنني غير متفائل بذلك لأنه بحاجة إلى موافقة الكونجرس.

 

ولذلك نجد بأن التصريحات والتعهدات من الدول المتقدمة والغنية كثيرة ولا تنتهي، وترتفع وتيرتها قبيل وأثناء انعقاد اجتماعات التغير المناخي السنوية، ولكن الأفعال قليلة ولا تتناسب مع حجم الأزمة الخانقة التي تحيط بالبشرية والكرة الأرضية برمتها، فعلى كل دولة من الدول الصناعية الثرية التي تطورت ونمت على حساب الدول الفقيرة وتسببت في إحداث التغير المناخي لكوكبنا أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية تجاه الإنسانية وتجاه إنقاذ كوكبنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق