الاثنين، 1 نوفمبر 2021

إذا كُنت تريد من الأعين، وبخاصة أعين الحكومات ومتخذي القرار أن تتوجه إليك من أجل توعيتهم وإقناعهم بقضية أنت تحملها وتريد توصيلها إليهم بسرعة، فكل ما عليك القيام به هو ربط هذه القضية بأمن الدولة، وإذا كنت تريد من الآذان أن تُصغي إليك بشدة فعليك أن تجعل قضيتك ذات علاقة وطيدة بالأمن والاستقرار، وتبين تأثير هذه القضية على البعد الأمني ثم الاقتصادي للشعب والدولة، وعندها ستلتف كل الأنظار إليك وتستمع إلى ما تقوله.

 

وقضية التغير المناخي موجودة على الساحة الدولية منذ عام 1992 في قمة الأرض التي وافقت على الاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي، ولكنها في تلك الفترة الزمنية كانت القضية المناخية مرتبطة بشكلٍ كبير بالبعد البيئي خاصة، فلم تتضح عندئذٍ معالم هذه القضية المعقدة، ولم يعرف العلماء الأبعاد والجوانب الكثيرة الأخرى التي اكتشفوها يوماً بعد يوم لهذه الأزمة المناخية العصيبة، وتداعياتها المختلفة والمتعددة التي لا تُعد ولا تحصى.

 

ومن تداعيات التغير المناخي وسخونة الأرض التي من المفروض أن يلتفت إليها جميع الحكومات، وتنال اهتمام كافة رجال السياسة والنفوذ هي البعد الأمني المتعلق باستقرار الدول والحكومات وسلامة أراضيها وبنيتها التحتية، سواء على المستوى القومي البسيط، أو على المستوى الدولي ومستوى كوكبنا عامة.

 

وهذه الانعكاسات الأمنية بدأت تتضح معالمها مع الزمن، وتتبين ملامحها العقيمة مع شدة وقوة تداعيات التغير المناخي من ارتفاع حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة المياه السطحية، إضافة إلى الفيضانات والأعاصير، وحرائق الغابات، والموجات الحارة في الصيف، والموجات الباردة في الشتاء، فكل هذه التداعيات بدأت تتفاقم وتشتد في قوتها وتكرار وقوعها واتساع نطاقها الجغرافي، فتأثيراتها المباشرة المتمثلة في تدمير البنية التحتية وتحطيم مكتسبات المجتمعات التنموية أصبحت واضحة ولا يمكن تجاهلها.

 

وقد تنبهت عدة دول إلى البعد الأمني للتغير المناخي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي نشرت في 21 أكتوبر من العام الجاري ثلاثة تقارير تعالج وتقيم العلاقة بين التغير المناخي وأمن الدول واستقرارها على كافة المستويات القومية الأمريكية والدولية على حدٍ سواء. وهذه التقارير فريدة من نوعها من حيث أن بعضها صدر من جهات أمنية واستخباراتية، إضافة إلى إجماعها على استنتاجات واحدة تتلخص في الدور المؤثر والكبير للتغير المناخي على الأمن القومي الأمريكي والاستقرار الدولي، إضافة إلى علاقة تداعيات التغير المناخي مع الأمن الداخلي، حيث اعتبرت التقارير التغير المناخي كتهديد حقيقي للأمن القومي، كما توصلت هذه التقارير إلى استنتاج آخر هام هو ضرورة إدخال وضم البعد المتعلق بالتغير المناخي وتداعيته في الاستراتيجيات والسياسات الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى جعل التغير المناخي محور سياسات الأمن القومي الأمريكي والعمود الفقري لرسم الاستراتيجيات الأمنية المستقبلية.

 

أما التقرير الأول وهم الأهم فجاء تحت عنوان: "التغيرات المناخية والتحديات المتزايدة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2040: تقديرات المخابرات القومية حول التغير المناخي"، وهذا التقرير صدر من مكتب مدير المخابرات القومية ويعد الأول من نوعه حيث شارك فيه العديد من وكالات وأجهزة المخابرات الأمريكية وأجمعت على استنتاجات مشتركة، فهو يقدم مرئيات وتوقعات الوكالات الاستخباراتية حول التهديدات التي تواجه أمريكا عامة، مع التركيز ولأول مرة وبشكلٍ خاص على التهديدات الناجمة عن التغيرات المناخية وتداعياتها. وجاء في ملخص التقرير بأن: "التغير المناخي يُعيد تصور البيئات الجيواستراتيجية والتشغيلية والتكتيكية، وله تأثر قوي وكبير على الدفاع والأمن القومي الأمريكي. فارتفاع حرارة الأرض والتغير في أنماط سقوط الأمطار، إضافة إلى زيادة أعداد أيام نزول الطقس المفرط في شدته وغير المتوقع بسبب التغير المناخي، يفاقم من المخاطر الحالية، ويشكل تحديات أمنية جديدة ومتنامية على المصالح الأمريكية"، كما أكد ملخص التقرير على أن: "الجهود الدولية لمواجهة التغير المناخي، وتتضمن خطوات تنفيذية لمكافحة أسبابه وتأثيراته، كلها ستؤثر على استراتيجيات ومصالح وزارة الدفاع".

 

وقد توصل التقرير إلى ثلاثة استنتاجات رئيسة منها أن النزاعات بين الدول ستزيد وترتفع عندما يحتدم النقاش في الاجتماعات الدولية حول واجبات كل دولة في تحمل مسؤولياتها لمواجهة التغير المناخي وخفض انبعاثاتها، كذلك من الاستنتاجات أن الدول الفقيرة النامية ستكون الأشد تضرراً وتأثراً من هذه التغيرات المناخية لضعف قدرتها وإمكاناتها على مواجهة هذه التهديدات والتحديات المناخية المتفاقمة والمتزايدة.

وأما التقرير الثاني فقد صدر من وزارة الدفاع تحت عنوان: "تقييم مخاطر المناخ"(Climate Risk Analysis)، وتم تحويله إلى "مجلس الأمن القومي"، حيث نشر وزير الدفاع لويد أوستن بياناً بمناسبة صدور التقرير قال فيه بأن: "التغير المناخي يمس كل أعمال هذه الوزارة، وهذا التهديد سيستمر في تداعياته على الأمن القومي الأمريكي"، كما قال: "التغير المناخي يبدل ويحول مضمون وصورة الاستراتيجيات للبيئة الأمنية، ويشكل تهديداً معقداً للولايات المتحدة الأمريكية والأمم حول العالم"، كذلك ختم بيانه قائلاً: "ومن أجل منع الحرب وحماية بلادنا، يجب على وزارة الدفاع معرفة طرق تأثير التغير المناخي على مهمات الوزارة، وخططها وامكاناتها".

والتقرير الثالث فقد صدر من البيت البيض حول: "تأثير التغير المناخي على الهجرة" وجاء استجابة للأمر التنفيذي رقم 14013 الذي وقعه بايدن في التاسع من فبراير من العام الجاري تحت عنوان: "إعادة بناء وتعزيز البرامج الخاصة باللاجئين والتخطيط لتأثيرات التغير المناخي على الهجرة"، حيث وجه بايدن مستشار الأمن القومي لإعداد تقرير حول التغير المناخي وتأثيره على الهجرة، وهذا يعد أول تقرير يبين العلاقة بين التغير المناخي وهجرة البشر من مكان إلى آخر. وقد أكد تقرير البيت الأبيض على أن تداعيات التغيرات المناخية من الجفاف، أو الكوارث المناخية المفرطة في شدتها وتكرار وقوعها تؤدي إلى نزوح وهجرة الناس، إما داخلياً أو خارجياً، وهذه التحركات البشرية تزعزع الاستقرار على مستوى الدولة الواحدة، أو تسبب النزاعات بين الدول المعنية بالهجرة الجماعية.

فكل هذه التقارير الأمنية الاستخباراتية والتي تأتي بهذه القوة والوضوح في استنتاجاتها الجماعية المشتركة ولأول مرة حول علاقة التغير المناخي بالأمن والاستقرار في الدولة الواحدة وبين الدول، من المفروض أن تُلفت أنظارنا، وتحظى باهتمامنا بقضية التغير المناخي، فنجعلها في المرتبة الأولى من سلم أولوياتنا على مستويين. أما المستوى الأول فهو على المستوى القومي، حيث إننا في البحرين نعيش في جزرٍ صغيرة لا ترتفع كثيراً عن مستوى سطح البحر، وجميع مكتسباتنا التنموية التي بنيناها طوال العقود الماضية، وأنفقنا عليها المليارات تقع على مستوى سطح البحر، مما يجعها أكثر عرضة لأي تغير مناخي وكارثة مناخية حادة قد تنزل علينا. وثانياً على المستوى الدولي، فعلى مجلس الأمن المعني بأمن واستقرار الدول التحرك سريعاً لوضع هذه القضية العامة المشتركة في جدول أعماله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق