الخميس، 4 نوفمبر 2021

الهم البيئي


عندما يقرأ الإنسان في كتب التاريخ البيئي المعاصر خبراً عن سقوط الآلاف من البشر بين مريض وميت في مدينة دونورا بالقرب من بتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية بسبب تلوث الهواء الذي نزل عليهم في نهاية شهر أكتوبر من عام 1948، لا شك بأنه سيشعر بالألم والأسى لهؤلاء الذين سقطوا مرضى وصرعى.

 

وعندما يسمع أنه في منتصف شهر ديسمبر من عام 1952 فقدت لندن أكثر من 4000 إنسان في فترة أسبوع واحد فقط نتيجة لاستنشاقهم الهواء الملوث الذي غطى سماء لندن كلها، لا شك بأن مثل هذا الخبر أيضاً سيُصيب الإنسان بالحزن الشديد، وسيمسُه شعور بالخوف على صحته وصحة أولاده، وسيشعر بالغم والهم بأن ما نزل على لندن ودونورا قد ينزل عليه يوماً ما فيصيبه ما أصابهم من مرض وموت.

 

كذلك عندما يرى الفيلم الهوليودي الذي عُرض في أكتوبر من هذا العالم حول واحدة من أكبر الكوارث البيئية التي نزلت على اليابان خاصة، والعالم أجمع في فترة الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت آثارها قائمة ومستمرة حتى يومنا هذا، والمتعلقة بموت المئات ومرض الآلاف من الشعب اليابان لاستهلاكهم لأسماك ملوثة بالزئبق، فلا ريب بأن مثل هذا الفيلم سيترك أثراً كبيراً على نفسيته، وسينتابه شعور عميق مرعب، ويلفه قلق شديد من أن مثل هذه الكوارث البيئية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، واليابان ودول كثيرة غيرها ستحوم حتماً حوله يوماً ما، وسيسقط هو وفلذة أكباده في شباكها، وسيبدأ فكره وباله ينشغلان يومياً بالمصير المجهول الذي يلاحقهم وينتظرهم في المستقبل القريب.

 

وسترتفع وتيرة وشدة هذا الهم العصيب الذي يحيط ببعض الناس، وسيزيد الغم في النفوس توغلاً، وسترتفع درجة القلق تعمقاً في القلوب، وذلك عندما يعايش الإنسان نفسه هذه المأسي والكوارث، ويرى أمامه مثل هذه الكُرب البيئية تقع في بلده، أو بالقرب منه، ويشاهد تداعياتها ومظاهرها واضحة وضوح الشمس في وضح النهار.

 

فقضية التغير المناخي التي نزلت على كوكبنا وانعكاساتها المهددة لحياتنا وسلامة أرضنا في معظم دول العالم، تثير القلق الشديد في النفوس، فهناك الفيضانات التي هزَّت عدة دول أوروبية مثل ألمانيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا في يوليو من العام الجاري ومات بسببها 181 شخصاً، وخسرت هذه الدول المليارات في دمار البنية التحتية، إضافة إلى إعصار أيدا في ولايات شمال وجنوب أمريكا في أغسطس ومات بسببه نحو 80 شخصاً، ثم إعصار شاهين المداري الذي وقع في سلطنة عمان في أكتوبر. كذلك هناك حرائق الغابات في تركيا، وسيبيريا وولايات أمريكية كثيرة، وبعض دول جنوب أوروبا والتي التهمت مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء المنتجة ولوثت الهواء الجوي وأصابت الكثيرين بأمراض القلب والجهاز التنفسي، كذلك هناك موجات الحر التي ضربت دول شمال أمريكا الشمالية وأوروبا وأدوت بحياة المئات من البشر في يوليو من العام الجاري.

 

فكل هذه الكوارث البيئية قديماً وحديثاً واليوم تُزلزل نفوس الناس، وبخاصة الذين يقعون ضحية لها ويعانون من مردوداتها، فتُولد لديهم الغم والقلق والاضطراب النفسي خوفاً من سقوطهم أنفسهم ضحية لهذه الكوارث، وخوفاً مما يخفيه لهم المستقبل من كُرب أشد وطأة على الإنسان وبنيته التحتية والمكاسب التنموية التي حققها طوال العقود الماضية.

وقد أكدت الكثير من الدراسات واقعية هذا القلق، وإصابة الكثيرين بهذه الحالة النفسية والعقلية المرعبة، التي قد تُسقط الإنسان مع الزمن في أمراض نفسية وعضوية مزمنة، وبالتحديد ما يُطلق عليه بالقلق البيئي(eco-anxiety)، أو بالتحديد بنوعٍ خاص إسمه "القلق المناخي" الناجم عن التغيرات المناخية وسخونة الأرض. فعلى سبيل المثال، نشرت مجلة "الطبيعة" في 22 سبتمبر 2021 بحثاً تحت عنوان: "قلق الشباب المناخي ينكشف في استطلاع عام"، حيث قام البحث باستطلاع آراء 10 آلاف من الشباب تتراوح أعمارهم من 16 إلى 25 ويمثلون عشر دول، وقد أكد البحث أن 60% من هؤلاء الشباب قالوا بأنهم يشعرون "بالقلق الشديد" من تدهور البيئة والكوارث المناخية المفرطة التي تنزل في دول العالم، كما أفاد هؤلاء الشباب بأن هذا القلق بدأ يؤثر على صحتهم العقلية بسبب التغيرات المناخية التي يشهدونها وليست لديهم حيلة لمواجهتها، أو القدرة على وقفها، فيصابون بحالة من الاستفزاز وفقدان الأمل والحالة النفسية اليائسة التي هُم عليها.

 كذلك نُشرت دراسة في الأول من أبريل 2020 في مجلة اللانست الطبية(The Lancet Planetary Health) تحت عنوان: "الصحة العقلية والتغير المناخي: مواجهة الظلم غير المرئي"، حيث أفادت الدراسة بأنه كلما زادت التهديدات البيئية المناخية المشهودة التي يعاني منها الإنسان شخصياً، ارتفع مستوى القلق والاكتئاب عنده، كما أن القلق وفقدان الأمل يزيدان ويشتدان لأن الإنسان يعرف بأن تداعيات التغير المناخي قادمة لا محالة، ولكنه يقف حائراً عاجزاً مكتوف اليدين لا يستطيع أن يفعل أي شيء لمكافحتها. ومن أعراض الإصابة بالقلق البيئي أو المناخي المزمن والشديد هي فقدان الشهية، وعدم القدرة على النوم، ونوبات الخوف والرعب.

ونظراً لواقعية هذا النوع الجديد من القلق فقد قدَّمت "الجمعية الأمريكية لعلم النفس" تعريفاً بأن القلق هو: "الخوف المزمن من الموت"، وهناك تعريف أبسط من ذلك وهو أن القلق البيئي يشير إلى الخوف من تدهور البيئة، أو الكارثة البيئية، وهذا الشعور يأتي من فساد حالة البيئة في البر والبحر والجو نوعياً وكمياً، إضافة إلى التغير المناخي الناجم عن أنشطة الإنسان والمظاهر والكوارث التي وقعت على مدار التاريخ الحديث نتيجة لهذا التدهور الشديد.

وفي تقديري فإن هذه الحالة الصحية النفسية المتمثلة في الإصابة بالقلق والهم والغم بسبب الحالة البيئية والمناخية السيئة والمتدهورة التي نعاني منها الآن، قد تتحول مع الزمن ومع تفاقم الوضع البيئي العام والوضع المناخي الخاص إلى مرضٍ معروف ومعتمد لدى المجتمع الطبي كباقي الأمراض العضوية والنفسية، وله أعراضه المعروفة، ووصفاته العلاجية الخاصة به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق