الاثنين، 29 نوفمبر 2021

الصراع على موارد الدول النامية لن ينتهي


صراع الدول الصناعية المتقدمة الكبرى على الموارد والثروات الطبيعية وخيرات الدول النامية والفقيرة لن ينتهي أبداً، فكلما انتهينا من الصراع على أحد الموارد بسبب نضوبه من باطن الأرض، أو انخفاض الطلب عليه، أو النقص في استهلاكه واستخدامه، أو تداعياته الضارة والمهلكة على أمن الإنسان الصحي وسلامة بيئته، نرى أنفسنا أمام الصراع نفسه، ونعيش المشاهد نفسها وهي تتكرر أمامنا، ولكن ربما بين لاعبين ودول جديدة لم تخض المعارك السابقة في السنوات والعقود الماضية، وعلى ثروة جديدة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد، وعلى مورد مستقبلي لم يفكر فيه الإنسان من قبل فيزيد الطلب عليه الآن يوماً بعد يوم، ويتسع سوق استخدامه وينتشر في دول العالم أجمع.

 

فقد بدأت ملامح ومعالم السباق الماراثوني القادم على المورد الجديد تتضح يوماً بعد يوم، كما أخذت مراكز القوى والنفوذ تتشكل ساعة بعد ساعة، والصراع يحتدم ويتفاقم مع مرور كل سنة بين دول النفوذ والقوة للسيطرة على منابع هذه الثروات الطبيعية الواعدة. وهذا المورد حالياً هو بعض العناصر الثقيلة، مثل الكوبالت، والفلزات النادرة مثل الليثيوم، والذي يُطلق عليه بالذهب البيض. فكل هذه الثروات والخيرات والنعم كانت موجودة في باطن الأرض منذ آلاف السنين، ولكن لم يلق لها الإنسان بالاً، ولم يهتم بها، ولم يفكر في استخراجها من باطن الأرض بملايين الأطنان، ولم يخطر على بال الدول والمستثمرين قبل نحو خمس سنوات على أنها ستكون بؤرة الصراع القادم بين حكومات العالم وذراعها الاقتصادي الاستثماري، إضافة إلى الشركات العالمية متعددة الجنسيات التي تعمل في مجال الطاقة الخضراء، والوقود النظيف بمختلف أنواعه وأشكاله مثل صناعة ألواح وخلايا الطاقة الشمسية، وبخاصة شركات إنتاج السيارات الكهربائية غير الملوثة للبيئة، فكل هذه المجالات والقطاعات الحديثة من طاقة خضراء، ووقود نظيف، وسيارات كهربائية صديقة للبيئة، وقطارات تعمل بالبطارية حسب المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" في 22 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "قطارات تعمل بالبطارقة الرخيصة الثمن لعالم أنظف" والذي أكد على إنتاج بطارية طويلة العمر فلا توجد حاجة لشحنها بعد مسافة قصيرة، فجميع هذه القطاعات الجديدة المستقبلية تعتمد كلياً في عملياتها الإنتاجية، والتطويرية على مثل هذه العناصر الجديدة، وستحل خلال الخمسين سنة القادمة محل مصادر الطاقة التقليدية المعروفة من الوقود الأحفوري.

 

فهناك الآن نزاعات سياسية واقتصادية بين بعض دول العالم وشركاتها الكبرى من أجل الهيمنة على منابع الكوبالت والليثيوم بشكلٍ خاص، إضافة إلى العناصر التقليدية القديمة كالنحاس والنيكل، ومحاولة احتكار هذه المصادر لنفسها، ثم التحكم في استخراجها، وبيعها، وتوزيعها، وتسويقها على الحكومات والشركات الأخرى بالأسعار التي تفرضها، فتجني المليارات من ورائها، وتكسب في الوقت نفسه الهيمنة الاقتصادية الدولية والتي تصاحبها قيادة القرار السياسي.

 

ومثل هذا الصراع على الكوبالت، على سبيل المثال خرج إلى العلن بين بعض الدول كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، فدخلت الدولتان في سباق السرعة للاستحواذ أولاً وحصرياً على هذه الثروة العظيمة، وبالتحديد في جمهورية كونجو الديمقراطية التي تمتلك أكبر مخزون جوفي من الكوبالت في العالم، حسب عدة تقارير وتحقيقات منشورة، منها التحقيق الشامل المنشور في صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 20 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "سباق إلى المستقبل: ماذا تعرف عن الطلب على الكوبالت"، إضافة إلى المقال المنشور في 21 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "صراع القوة على الكوبلت يثير ثورة الطاقة النظيفة"، والتحقيق المنشور في مجلة "النيويوركر" في 24 مايو من العام الجاري تحت عنوان: "الوجه الأسود للسباق حول الكوبلت في الكونجو"، كذلك التقرير المنشور في صحيفة الجارديان البريطانية في 25 نوفمبر تحت عنوان: "سباق سلاح البطارية، كيف تحتكر الصين صناعة السيارات الكهربائية".

 

فالصين استوعبت الدروس التاريخية الماضية من الحقبة الاستعمارية المتمثلة في احتلال الدول واستعمار ثرواتها وخيراتها من أجل التنمية في بلادها، وتعلمت منها الكثير من العبر والعظات، ولذلك هي سباقة وحريصة جداً اليوم على استعمار كافة مصادر ومخزونات الكوبالت في العالم، مما جعلها تَقْدم خلال الخمس سنوات الماضية على شراء مناجم الكوبلت والعناصر الأخرى التي تدخل في قطاعات الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية. فقد قامت الصين ممثلة في ذراعها التجاري شركة شاينا مُولِيبدنم( China Molybdenum) بالاستحواذ على 15 منجماً من أصل 19 في الكونجو، كما نجحت الصين في أبريل عام 2016 من شراء أحد أكبر المناجم التي تمتلكها شركة أمريكية هي(Tenke Fungurume) بمبلغ 2.65 بليون دولار أمريكي. وكل هذه الصفقات تؤهل الصين إلى الوصول أولاً إلى خط نهاية السباق والتغلب على المستعمر التقليدي لثروات الدول النامية، كما أنها تزيد من حظوظها في احتكار هذا العنصر الذي يعد المكون الرئيس في إنتاج الملايين من بطاريات السيارات الكهربائية، ويطيل في عمر البطارية وعدم الحاجة إلى سرعة شحنها. ولكن بالرغم من هذا التفوق المرحلي في السباق للصين، إلا أن الحكومة الأمريكية ممثلة في حكومة بايدن الحالية انتبهت مؤخراً إلى هذا الواقع وتأخرها في السباق في الكونجو ودول أخرى، حيث صرح بايدن عند زيارته لشركة جنرال موتورز في عاصمة السيارات مدينة ديترويت بولاية ميشيجن قائلاً: "خاطرنا بخسارة تفوقنا كأمة، والصين وباقي دول العالم يصلون إلينا ويلحقون بنا، ولكن سنقوم بتغيير هذا الواقع كلياً"، وهذا التغيير للواقع سيكون بعقد تحالفات جديدة مع دول أخرى صديقة تشاركها الهم نفسه مثل كندا وأستراليا وغيرهما للدخول في السباق مرة ثانية، والتنافس على مركز الصدارة.

 

ومع مشاهد سباق السيطرة على الكوبالت، نرى مشاهد متطابقة لسباق السيطرة على العنصر الثاني المكون للبطاريات، وهو فِلزْ الليثيوم، الذي يعد عمود بناء هذه البطاريات التي تشغل وتحرك السيارات والقطارات الكهربائية وغيرهما، فلا نجاح، ولا تطور، ولا استدامة لهذه السيارات إلا بتوفير عنصر الليثيوم، هذا الذهب الأبيض.

 

ولذلك بدأ منذ سنوات قليلة السباق المحموم على اكتشاف هذا العنصر، والبحث عنه في كل دول العالم، والعمل على التنقيب عنه واستخراجه من المناجم من باطن الأرض، وقد كَتبت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية تحقيقاً تؤكد فيه هذا الواقع في السابع من مايو 2021 تحت عنوان: "الجري نحو ذهب الليثيوم: السباق إلى توفير الطاقة للسيارات الكهربائية"، كما يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في أخبار الخليج في الثلاثين من مايو 2021 تحت عنوان: "البحث عن الذهب الأبيض".

 

فهذا هو حال الدول الضعيفة النامية التي لا تتسلح بسلاح العلم والتصنيع وتنمية الموارد البشرية تقنياً وفنياً لكي تكون قادرة ومؤهلة وطنياً على استغلال ثروات بلادهم لصالحها وأمنها وتنميتها، فتتكرر المشاهد نفسها، والتي نراها منذ مطلع القرن المنصرم مع ازدهار التنمية في الدول الصناعية المتقدمة، حيث تستعمر هذه الدول مواردنا وثرواتنا الحية وغير الحية، وتمتص دماء هذه النعم الوطنية من أجل ازدهارها ورفع مستوى الحياة عند شعوبها، ثم تُعطينا وتوزع علينا الفتات، وما تبقى من خيراتنا وثرواتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق