الخميس، 11 نوفمبر 2021

قضية بيئية تُشعل أزمة أمنية


ليست هذه هي المرة الأولى، وحتماً لن تكون الأخيرة عندما تتحول قضية ذات جذورٍ بيئية بحتة إلى قضية سياسية وأمنية محتدمة، فتندلع حالة من عدم الاستقرار في البلاد، وتقع أعمال عنفٍ وشغب تستمر عدة أيام، بل وتؤدي إلى موت البشر نتيجة لهذه الممارسات.

 

فهذه المرة نشهد مثل هذه الحالة من عدم الاستقرار الأمني في تونس، وبالتحديد في بلدة عقارب في ولاية صفاقس، ثاني أكبر المدن التونسية، حيث شهدت المدينة في الثامن من نوفمبر من العام الجاري مظاهرات حاشدة، ومسيرات كبيرة شارك فيها الآلاف من الناس، ثم بعد وفاة أحد المحتجين تصعد الموقف وتحولت المظاهرات إلى أعمال عنفٍ، وحرقٍ، وقطعٍ للطرقات، ومواجهات مع رجال الأمن، ثم الإضراب العام في المدينة برمتها.  

 

وكل هذا الاحتقان العنيف تفجر عن سببٍ بيئي بسيطٍ وهامشي في نظر الكثير من رجال السياسة والحكم، وبالتحديد المسؤولين عن البيئة، والمعنيين بإدارة هذا الملف البيئي المتعلق بإدارة المخلفات البلدية الصلبة، أو القمامة المنزلية. فهؤلاء المعنيون في الكثير من دول العالم لا يُعيرون قضية القمامة الاهتمام الذي يستحق لخطورتها وتهديدها للصحة العامة وسلامة البيئة إذا لم تتم إدارتها بأسلوب علمي منهجي ومستدام، ولذلك في الحالة التونسية تم اتباع السياسة التي أُطلقُ عليها "خُذوه فغلوه"، أي اجمع القمامة بأية طريقة هي الأسهل من مصادرها عند المنازل والمجمعات التجارية، ثم تخلص منها في إلقائها في مواقع مكب النفايات، وأخيراً دفنها تحت الأرض، كما أنه في هذه الحالة تم خلط القمامة بمخلفات خطرة يجب التعامل معها بأسلوب آخر غير أسلوب دفن القمامة المنزلية غير الخطرة.

 

ومع مرور الوقت، وسوء الإدارة، وعشوائية الدفن، تشبع الموقع وامتلأ بالمخلفات الخطرة وغير الخطرة، وبدأت تنبعث الروائح فتفسد حياة الناس اليومية وتؤثر على أمنهم الصحي، فارتفعت شكاوى المتضررين ورُفعت إلى المحاكم، والتي حكمت بإغلاق المدفن في نهاية شهر سبتمبر من العام الجاري. فهذا الحُكم الآني قصير النظر الذي لم ينظر باستراتيجية طويلة الأمد إلى هذه القضية المعقدة والمتشابكة، ولَّد قضية بيئية وصحية جديدة أخرى، ولكن في مواقع شملت معظم أنحاء المدينة، حيث تراكمت المخلفات في الأحياء، والطرقات، وأمام المحلات والمستشفيات، حتى تكونت جبال من هذه القمامة التي بدأت تتحلل يوماً بعد يوم فتنبعث منها الروائح السامة العفنة، وتُعشعش فوقها الذباب والحشرات الأخرى، وتنمو في بطنها الفئران والقوارض، فارتفعت مرة ثانية أصوات الناس وزاد غضبهم مما اضطر الجهات المعنية إلى إعادة فتح مدفن المخلفات ونقل جبال المخلفات إلى هذا الموقع المتشبع بالمخلفات والذي لا يتحمل المزيد، وهذا الوضع زاد الحال العام احتقاناً فخرج الناس في مسيرات يطلبون إعادة إغلاق المدن من جديد!   

 

فهذا الوضع التونسي يؤكد لي الفرضية التي بدأتُ في سبر غورها ودراستها منذ الثمانينيات من القرن المنصرم حول العلاقة بين تدهور البيئة وفساد مواردها الحية وغير الحية نوعياً وكمياً والوضع السياسي والأمني للدول، أي بعبارة أخرى: هل تلوث الهواء والماء والتربة وانكشاف المظاهر البيئية الناجمة عنها يسبب حالة من عدم الاستقرار في الدول التي تعاني من هذا التلوث؟ وهل هذا التدهور البيئي يُسقط الحكومات التي تسببت في ظهوره؟

 

ومنذ ذلك الوقت وأنا أُراقب وأُتابع هذه الأسئلة والفرضية التي طرحتها، وأدرس الأمثلة التي أشاهدها في دول العالم حول احتمالية وجود هذه العلاقة. ففي نهاية الثمانينيات كتبتُ مقالاً تحت عنوان: "البيئة تُسقط إمبراطورية"، حيث تعمقت في أسباب انحلال وسقوط امبراطورية الاتحاد السوفيتي، ووجدتُ أنه من بين الأسباب الكثيرة التي أدت إلى تفكك هذه الإمبراطورية هي التدهور الشديد لعناصر البيئة في الدول الخاضعة لهذه الإمبراطورية، وانعكاس هذا الفساد البيئي العصيب على صحة الناس وسلامة أطفالهم، مما أدى مع الوقت إلى تراكم كل الأسباب السياسية، والأمنية، والاقتصادية، إضافة إلى الجانب البيئي الذي ساهم بدرجة ما في الإطاحة بهذه الإمبراطورية.

 

كذلك حدث في لبنان ما يشبه الحالة التونسية، حيث انتهى العمر الإفتراضي لأحد مدافن القمامة في بيروت، أي لم يعد المدفن يحتمل أية كمية إضافية من المخلفات الصلبة، مما أدى إلى تجمعها وتراكمها وتحولها إلى تلال من المخلفات في أحياء وشوارع وسواحل بيروت، فانبعثت الروائح النتنة والكريهة، وسالت وانهمرت المخلفات السائلة الناتجة عن تحلل القمامة في الطرقات كما تجري الأنهار، وتأثرت الحالة الصحية للناس، ونظراً لعدم استجابة الجهات المعنية للتعامل مع المخلفات في طرقات بيروت والعمل على جمعها والتخلص منها بطريقة سليمة، أضطر الناس إلى الاحتجاج والخروج إلى الشوارع لإبداء غضبهم من هذا الوضع البيئي المأساوي. ومع الوقت، وبالتحديد في أغسطس 2015 وقعت الكثير من الصدامات العنيفة وأعمال الشغب، مما استدعت هذه الأزمة البيئية الأمنية عقد اجتماعٍ طارئ غير عادي لمجلس الوزراء للنظر فيها وفي ملابساتها وسبل تهدئة الناس وامتصاص غضبهم ونقمتهم على حالة القمامة في عاصمتهم وانتشارها وتراكمها في الطرقات والأحياء وتشويه منظر المدينة برمتها.

 

كما تكرر مشهد تونس، ولبنان في العاصمة الروسية موسكو، حسب التحقيق المنشور في مجلة النيوزويك الأمريكية في 13 يونيو 2015 تحت عنوان:

"هل ستُسقط القمامة الرئيس الروسي بوتين؟". فهذا التحقيق الميداني يتحدث عن سوء إدارة القمامة في موسكو، وتأثيره على مكونات البيئة برمتها، إضافة إلى الأمراض التي نزلت على بعض السكان الذين يعيشون بالقرب من مقابر القمامة. فقد أكد التقرير على وجود جبالٍ من القمامة لفترة طوية من الزمن في مواقع الدفن القريبة من الأحياء السكنية، بحيث أن الروائح العفنة بدأت تتصاعد منها والسوائل الخطرة الناجمة عن تحلل القمامة تسيل كالأنهار فتصب في المسطحات المائية فتسممها وتهدد الأمن الصحي لسكان المنطقة الذين بدأوا بالتذمر وإبداء سخطهم وغضبهم على هذا الوضع السيئ للقمامة. وهذا السخط والغضب أَخرج السكان من منازلهم في عدة ضواحي وأحياء محيطة بالعاصمة في مظاهرات ومسيرات للتعبير عن معاناتهم البيئية والصحية وإيقاظ الجهات المعنية من سباتهم العميق الذي طال لإيجاد حلولٍ فورية ومستدامة لهذه الحالة البيئية الصحية، ورفعوا أثناء المظاهرات شعارات تعكس وضعهم السيئ منها "قِفُوا تسميمنا" و "لا تقتلوا أطفالنا".

 

فمثل هذه الوقائع الميدانية التي وقعت في بعض مدن العالم تؤكد لي صحة نظريتي حول وضع البيئة ودوره في زعزعة أمن الدول، وألخصها في المعادلة التالية: تدهور صحة البيئة يساوي تدهور الأمن العام في الدول.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق