الجمعة، 26 نوفمبر 2021

تلوث الهواء وليس كورونا يمنع الناس من الخروج


تعودنا منذ ديسمبر عام 2019 أن نسمع، ونقرأ، ونشاهد، ونعاني بأنفسنا في بلادنا عن إغلاق المدن، بل وتوقف دول بأكملها عن العمل، ومنع الناس من الخروج من منازلهم، وحجرهم وحبسهم في شققهم أياماً طويلة شاقة ومرهقة للجسد والنفس. وهذا الوضع مازال مستمراً حتى اليوم في بعض مدن العالم، وربما سيستمر لأشهرٍ قادمة بسبب وباء كورونا الذي تفشى في شرايين الكرة الأرضية برمتها، فلم يدع شبراً بعيداً أو قريباً من كوكبنا إلا ونزل عليه هذا الوباء العصيب، حيث سقط صريعاً بسبب التعرض لفيروس كورونا القاتل حتى كتابة هذه السطور أكثر من خمسة ملايين و200 ألف إنسان، ومرض قرابة 251 مليون.

 

واليوم نقرأ عن المشاهد نفسها، ولكن هذه المرة ليست بسبب هذا الكرب الفيروسي العظيم الذي هزَّ أركان البشرية جمعاء، صحياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن بسبب مرضٍ تقليدي قديم تعاني منه المجتمعات البشرية منذ مطلع القرن العشرين، وهو تلوث الهواء وما ينجم عنه من أمراضٍ كثيرة مختلفة تضرب أعضاء الجسد كله، كما تضرب النفس والعقل، حتى إنني أُطلق على تلوث الهواء بقنبلة دمار شامل للجسم البشري.

 

فقد نشرت صحيفة يوميات الصين(China Daily)في العدد الصادر في الخامس من نوفمبر من العام الجاري خبراً تحت عنوان: "تعليق الأنشطة المدرسية الخارجية بسبب تدهور نوعية الهواء"، حيث جاء فيه بأن هيئة التعليم في العاصمة الصينية أصدرت تحذيرات شديدة وتعليمات صارمة طارئة تُوجه فيها كل المدارس والمعاهد التدريبية إلى وقف جميع الأنشطة التي تقام في خارج البيئات المغلقة، أي خارج مباني المدارس والمعاهد.

 

ويعزى السبب في ذلك إلى زيارة ضيفٍ ثقيل جداً يزور المدن الصينية منذ عقود طويلة من الزمن بين الحين والآخر، وبخاصة أيام الشتاء الباردة حيث يزيد استهلاك الكهرباء للتدفئة، مما يرفع من مستويات حرق الوقود في محطات توليد الكهرباء، وبخاصة التي تشتغل بالفحم الذي يعد من أشد أنواع الوقود تلويثاً للهواء الجوي، كما أن في أيام الشتاء تتكرر حدوث ظاهرة الانقلاب الحراري التي تمنع تشتت وتخفيف تركيز الملوثات في الهواء الجوي، فتحبسها في الطبقات السفلى من الغلاف الجوي، وتكون ضباباً أو سحباً مشبعة بالملوثات السامة والمسرطنة القاتلة التي تغطي المدينة برمتها، ويتعرض لها الناس بشكلٍ مباشر، فيصابون بحالات حادة ومزمنة من أمراض الجهاز التنفسي والقلب، ومنهم، وبالتحديد من كبار السن ومن الذين يعانون من بعض الأمراض المزمنة فيسقطون صرعى وينقلون إلى مثواهم الأخير.

 

وهذه الحالة التي شهدناها في الصين هذه الأيام ليست وحيدة بين دول العالم، فقد قرأتُ عن حالة متطابقة للحالة الصينية في مدينة دلهي العاصمة الهندية، حيث نقلت وسائل الإعلام الصادرة في مدينة دلهي مثل صحيفة "الهند اليوم"(India Today) في السادس من نوفمبر من العام الجاري أخباراً تحت عنوان: "هواء دلهي الخانق يبقى في المستوى الخطر"، وعنوان آخر: "نوعية الهواء في دلهي ضمن المستوى الخطر". ومثل هذه الحالات التي ترتفع فيها معدلات تلوث الهواء كثيرة في الهند، فتعرقل حركة الناس، وتمنع الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، وتصيب عامة الناس بأعراض الربو والحساسية في الجهاز التنفسي، وقد أفادت التقارير بأن مؤشر جودة الهواء في دلهي في هذه الأيام بلغ مستوى "الخطر" حيث وصل إلى مستويات قياسية عالية فاقت الرقم 600، كما نقلت صحيف هندستان تايمس (Hindustan Times) في السابع من نوفمبر عن تقارير طبية بأن عدد المرضى الذين يشتكون من أعراض مرضية في الجهاز التنفسي كضيق التنفس، والكحة، والعطاس وغيرها زادت بنسبة 20% عن الأيام العادية.

 

فكل هذه الكوارث البيئية الصحية التي نشهدها اليوم، ليست جديدة على البشر، وإنما هي قديمة جداً وبدأت في الظهور منذ العشرينيات من القرن المنصرم، وكلها تؤكد العلاقة بين تلوث الهواء وإفساد صحة الناس ونزول الكوارث المميتة عليهم، فربما أول حادثة كبيرة وقعت كانت في وادي ميوس في بلجيكا في ديسمبر 1930، ثم  في مدينة دونورا بالقرب من بتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية في أكتوبر من عام 1948، ثم كارثة لندن في منتصف شهر ديسمبر من عام 1952 حيث فقدت العاصمة البريطانية أكثر من 4000 إنسان في فترة أسبوع واحد فقط نتيجة لاستنشاقهم الهواء الملوث الذي غطى سماء لندن كلها. ومع هذه الحوادث القاتلة، زاد اهتمام العلماء بتثبيت وتأكيد العلاقة بين تلوث الهواء والأضرار التي تنجم عنه على الجسم البشري برمته، سواء الجهاز التنفسي، أو القلب، أو العينين، أو الأعضاء الأخرى من جسم الإنسان، كما نُشرت دراسات لا تعد ولا تحصى تقوم بسبر غور هذه العلاقة مع الجانب النفسي للإنسان من همٍ وقلق واكتئاب، إضافة إلى الجانب العقلي والذهني، حيث يجمع العلماء الآن بأن تلوث الهواء هو القاتل الصامت الذي يصيب الإنسان بأمراض كثيرة ومختلفة ومستعصية، ويدخله مبكراً وهو في ريعان شبابه إلى القبر.

 

ومؤخراً أوجد العلماء العلاقة بين الملوثات التي تسبب ظاهرة التغير المناخي المعروفة والتداعيات التي تنجم عنها، من ارتفاع في حرارة الأرض، وزيادة سخونة وحموضة المسطحات المائية والتربة، إضافة على الانعكاسات الأخرى، وتأثير كل هذه على الصحة العامة للبشر أجمع.

 

فقد وصفتْ منظمة الصحة العالمية قضية التغير المناخي بأنها "أكبر تهديد صحي يواجه البشرية"، وهذا التصنيف استخلص من الكم الكبير من الدراسات العلمية التي توغلت بعمق في البحث عن العلاقة بين التغير المناخي وصحة البشر. وآخر هذه الدراسات، تلك المنشورة في مجلة اللانست الطبية في 20 أكتوبر 2021، تحت عنوان: العد التنازلي لمجلة اللانست حول الصحة والتغير المناخي"(Lancet Countdown health and climate change)، حيث استنتجت بأن تداعيات التغير المناخي من موجات حارة وباردة وتغيرات في الأنظمة البيئية وحرائق للغابات جميعها تُشكل تهديداً متنامياً للصحة العامة، سواء أكانت الصحة الفسيولوجية العضوية، أو الصحة النفسية والعقلية. وبناءً عليه فقد حذَّر الباحثون من أن عدم اتخاذ إجراء بشأن تغير المناخ سيعرض حياة ملايين الأشخاص للخطر.

 

ولذلك كما أن مرض كورونا وباء نزل على البشرية جمعاء، فإن تلوث الهواء أيضاء وباء مميت، ويحصد حياة الملايين من البشر سنوياً، فلماذا لا نتعامل مع تلوث الهواء كما تعاملنا مع مرض كورونا بحذرٍ شديد واحتياطات وإجراءات لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري؟

فالموت واحد سواء من فيروس كورونا أو من تلوث الهواء!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق