الاثنين، 25 أكتوبر 2021

مبادرة السعودية للشرق الأوسط الأخضر

أُطْلقُ على مدينة لوس أنجلوس الأمريكية مدينة الضباب أسوة بلندن المعروفة عالمياً بأنها مدينة الضباب أيضاً، ولكن هناك فرقاً شاسعاً بين مسمى المدينتين للضباب. فأما لندن، فالضباب في أغلب الأحيان هو الضباب الطبيعي العادي البارد الذي ينزل عليها دائماً في موسم الشتاء، وفي بعض الأحيان، كما حدث في ديسمبر 1952 كان هذا الضباب ملوثاً بالمواد الكيميائية الضارة والخطرة والتي تسببت في موت أكثر من أربعة آلاف لندني خلال ذلك الأسبوع العصيب من أيام الأعياد المسيحية.

 

وفي المقابل فإن ضباب مدينة لوس أنجلوس يختلف كلياً عن ضباب لندن التقليدي من ناحية التوقيت، ومن ناحية النوعية والتأثير. فضباب لوس أنجلوس تم اكتشافه في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، وينزل عادة في أشهر الصيف الحارة والمشمسة، وعندما تكون الرياح ساكنة وصامتة لا حراك لها، فتتكون في الطبقات السفلى في الجو سحب بنية صفراء اللون مشبعة بالملوثات السامة، وتُعرف بالضباب الضوئي الكيميائي. فهذه السحب تتكون من انبعاثات السيارات خاصة، والمصانع ومحطات توليد الكهرباء عامة، ويحدث تفاعل في الجو بين هذه الملوثات وأشعة الشمس فتُكون هذه السحب المرضية التي عندما تظهر في السماء تدق أجراس الإنذار، وتصيح وسائل الإعلام محذرة الناس، وبخاصة الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، أو ممارسة أي نشاط رياضي في البيئات الخارجية.

 

ومع الزمن أصبحت هذه الظاهرة البيئية الصحية، وأصبح هذا الضباب القاتل من معالم مدينة لوس أنجلوس، بل وتحولت إلى همٍ صحي كبير يقلق بال العلماء، والأطباء، ورجال السياسية، وهذا القلق ارتفع بشكلٍ مشهود عندما وافقت اللجنة الأولمبية الدولية على استضافة لوس أنجلوس للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1984. فهذه السحب عندما تنكشف تؤثر على أداء الرياضيين، وتضر بصحتهم وعطائهم، وتفسد قدرتهم على تحقيق الأرقام القياسية في المنافسات الرياضية، مما سيجعل المدينة في حرج من فشل الألعاب الأولمبية.

 

وهذه السحب السامة كانت تبلغ ذروتها في أشهر دورة الألعاب الأولمبية وبالتحديد يوليو وأغسطس، ولذلك كان من الحتمي إيجاد الحلول للتخفيف من وطأة هذه السحب على اللاعبين، فكان الحل هو زراعة مليون شجرة بدءاً من عام 1981 لتقوم بعملية ترشيح الملوثات من هذه السحب وامتصاصها من الهواء الجوي قبل أن تصل إلى الناس، وزراعة مليون شجرة في هذه الفترة البسيطة كانت تحدياً كبيراً يقف أمام منظمي هذه الدورة، مما أستلزم تشمير الجميع من منظمات وجمعيات أهلية وجهات حكومية للمساعدة والتعاون مع بعض للقيام بهذه المهمة الوطنية العظيمة، وفعلاً أُنجزت المهمة المستحيلة بنجاح حيث تمت زراعة الشجرة المليون قبل أربعة أيام من بدء الألعاب، فقد تمكنت الشجرة من إنقاذ الموقف الصعب وإنجاح الدورة.

 

واليوم نقرأ عن مبادرات جديدة لعلاج مشكلات بيئية أخرى نعاني منها على كافة المستويات الدولية، والإقليمية، والمحلية، مثل أزمة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة كوكبنا بسبب الملوثات التي نطلقها إلى بيئتنا منذ أكثر من قرنين، وعلى رأس هذه الملوثات غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز. ولعلاج هذه القضية الدولية العصيبة والمعقدة فقد لجأ الإنسان مرة أخرى إلى الشجرة للتخلص من بعض هذه الملوثات وامتصاصها من الهواء الجوي قبل أن تدخل في أجسامنا وتتراكم في هوائنا.

 

ومن هذه المبادرات الإقليمية الموجهة نحو مكافحة سخونة الأرض والتغير المناخي لكوكبنا باستخدام عملية التشجير تلك التي طرحتها المملكة العربية السعودية تحت مسمى "مبادرة السعودية الخضراء". ومن أجل تفعيل هذه المبادرة على كافة المستويات فقد دعت المملكة العربية السعودية إلى استضافة اجتماعين رئيسين هما "منتدى مبادرة السعودية الخضراء"، و"قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" في العاصمة الرياض في الفترة ما بين 23 إلى 25 أكتوبر من العام الجاري.

 

أما "قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" فتسعى إلى تحقيق عدة أهداف من بينها تشكيل أول تحالف لمكافحة التغير المناخي في الشرق الأوسط، ثم تعزيز الاستثمار ونقل المعرفة لمواجهة التحديات المشتركة، وأخيراً تعزيز الإرادة السياسية اللازمة لإحداث تغيير جذري في مجال المواجهة الجماعية المشتركة لقضية العصر. كذلك يأتي الاجتماع الثاني تحت عنوان: "مبادرة الشرق الأوسط" والذي يكون مُكملاً للقمة الأولى ويطرح الحول العملية التنفيذية، حيث سيعمل على توسعة الغطاء النباتي الأخضر من خلال زراعة 50 مليار شجرة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، من بينها 10 مليارات شجرة داخل المملكة العربية السعودية، إضافة إلى استصلاح 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة عن طريق التشجير.

وهذه المبادرة السعودية تتماشى وتواكب الجهود الدولية المتمثلة في الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تحاول أن تخفف من بصمتها في تلويث البيئة، وبالتحديد بالنسبة لشركات النفط التي تنبعث عن عملياتها غازات الدفيئة والاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان التي تفاقم من حدة مشكلة التغير المناخي وسخونة الأرض، حيث نشرت صحيفة الفايننشيل تايمس في الأول من سبتمبر 2021 تحقيقاً حول برامج شركات النفط في عملية التشجير في بعض دول العالم كأداة فاعلة لمكافحة الملوثات الناجمة عن حرق النفط والغاز الطبيعي المؤدية إلى التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، ستُنفق شركة شل(Royal Dutch Shell) قرابة 300 مليون دولار على جهود التشجير لزراعة أكثر من خمسة ملايين شجرة في عدة دول منها هولندا وإسبانيا وأستراليا وماليزيا.

وبالرغم من هذه الجهود المباركة لتوسعة مساحة الأراضي الخضراء، فإنني أُقدم بعض الملحوظات حول هذه البرامج:

أولاً: عملية التشجير، وبخاصة في دولنا الصحراوية التي تعاني من شح الماء وتدهور نوعية التربة، يجب أن توازن بين الفقر المائي وبين توسعة رقعة التشجير، فتوفير الماء لاحتياجات البشر للغذاء والشراب أهم من كل شيء، فلا حياة بدونه.

ثانياً: عملية التشجير لمكافحة التغير المناخي يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع البرامج والجهود الأخرى التي تصب في الهدف نفسه، وبالتحديد التوجه تدريجياً نحو مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، سواء في محطات توليد الكهرباء، أو وسائل المواصلات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق