الأربعاء، 30 يونيو 2021

محكمة الجنايات "البيئية" الدولية

اجتمع 12 محامياً حقوقياً من ذوي الخبرة والعلم والكفاءة على المستوى الدولي في مجال قوانين الجرائم الدولية الجماعية من مختلف دول العالم، ليناقشوا قضية واحدة فقط، وقد تكون هذه القضية عند الكثير من الناس سهلة وبسيطة، ولا يستغرق إنجازها سوى أياماً معدودات فقط. ولكن هذه القضية بالتحديد استغرقت الكثير من الجهد الذهني العقلي، وانتهتْ مهمة هذا الفريق المستقل من الخبراء(The Independent Expert Panel) بعد قرابة الستة أشهر.

 

فقد كان الهدف من اجتماع هؤلاء المحامين الدوليين، والذي استغرق هذه الأشهر الطويلة هو فقط وضع تعريف لمصطلح إبادة البيئة(ecocide)، أو جريمة الإبادة الواسعة النطاق لثروات وموارد البيئة الحية وغير الحية، على غرار مصطلح الإبادة الجماعية للإنسان(genocide). فبعد جهدٍ جهيد، وعمل دؤوب طويل، وولادة عسيرة ماراثونية تمخض تعريف خاص في يونيو من العام الجاري لهذا المصطلح، ويتكون فقط من 165 كلمة باللغة الإنجليزية، وهو "قيام الإنسان بأعمال وتصرفات غير قانونية ووحشية وعدم وضع أي اعتبار للبيئة وارتكابه لهذه الأعمال التخريبية بعلم ومعرفة مسبقة بأن هذه الأعمال تؤدي إلى حدوث تدميرٍ شديد، إما على نطاق واسع، وإما تأثير طويل الأمد على حياة الإنسان، أو البيئة، وعلى الموارد الثقافية والاجتماعية"، أي بمعنى آخر الإبادة والفساد الشامل لكافة عناصر البيئة من ماءٍ وهواء وتربه، إضافة إلى الإنسان والحياة الفطرية بشقيها الحي وغير الحية.

 

فهذا المصطلح يعادل جريمة الإبادة الجماعية للبشر على المستوى الدولي، حيث يمكن اعتبار فساد البيئة وخرابها وتدميرها جريمة دولية مثلها مثل الأربع جرائم المعتمدة دولياً، وهي أولاً جرائم الإبادة الجماعية للإنسان، وجرائم الحروب، ثم الجرائم ضد الإنسانية، وأخيراً جرائم العنف، وهذه الجرائم تختص بها المحكمة الجنائية الدولية(International Criminal Court).

 

وانطلاقاً من هذا التعريف الجديد لإبادة البيئة يمكن استخلاص عدة عناصر، أو اشتراطات تجعل عملية الاعتداء على حرمات البيئة ومكوناتها جريمة "بيئية" دولية يمكن قبولها والتداول فيها عند محكمة الجنايات "البيئية" الدولية، وهي:

أولاً: أن تكون عملية تلويث وتدمير البيئة والأضرار التي ألحقها بالإنسان والحياة الفطرية النباتية والحيوانية والنظام البيئي بشكلٍ عام قد قام بها أفراد، أو جماعات، أو منظمات، أو حتى حكومة أية دولة بعلمٍ ودراية مسبقة بانعكاسات هذا العمل والتصرفات التي ارتكبت ضد البيئة.

ثانياً: أن تكون تداعيات وأضرار هذه العمليات التخريبية والتدميرية لمكونات البيئة قد نزلت وأفسدت منطقة جغرافية واسعة، وأثرت بدرجة مشهودة ولفترة زمنية طويلة وبدون رجعة على صحة الإنسان وسلامة وأمن البيئة وعناصرها، إضافة إلى تأثيراتها المعمقة والشديدة على الموارد الاجتماعية والثقافية.

 

والآن وبعد الانتهاء من الخطوة الأولى وهي طرح تصور لتعريف الجرائم البيئية الدولية، تأتي الخطوات القادمة والتي من المتوقع أن تكون شاقة، ومعقدة، وقد تكون طويلة جداً تستغرق سنوات، أو حتى عقود من الزمن. فالخطوة الثانية تتمثل في تقدم إحدى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بتقديم مقترح التعريف إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ثم طرح هذا التعريف في أحد اجتماعات الجمعية العمومية للمحكمة للتفاوض حولها، والخطوة الأخيرة تكون موافقة الدول والتوقيع والتصديق عليه.

 

وهناك عدة أمثلة لجرائم بيئية دولية قد وقعت في السنوات الماضية، ويمكن أن ينطبق عليها هذا التعريف. فعلى سبيل المثال، هناك حرب فيتنام التي نفذ فيها الجيش الأمريكي عملية خاصة أُطلق عليها(Operation Ranch Hand)، وفي هذه العملية المدمرة للحرث والنسل، والشجر والحجر استخدم فيها الجيش الأمريكي مجموعة من المبيدات الشديدة السمية المحتوية على مجموعة مركبات خطيرة جداً هي الديكسين، وعُرفت في الجيش الأمريكي بمبيدات قوس قزح (Rainbow herbicides)، لأنها كانت توضع في براميل ملونة هي البرتقالي والوردي والأخضر والأبيض والأزرق والأرجواني.

 

وكان استخدام هذه المبيدات يهدف إلى إزالة ومحو الملايين من الهكتارات من الغابات والأحراش وأشجار القرم الساحلية والمحاصيل الزراعية من أجل تجويع الشعب الفيتنامي الشمالي المقاوم للإحتلال الأمريكي من جهة، وكشف ملاجئ ومساكن المقاومين الذين كانوا يختبؤون فيها من جهة أخرى. وهذه المبيدات استخدمت في الفترة من 1965 إلى 1970، واستعملت عدة وسائل لرشها، منها يدوياً في المناطق القريبة، ومنها بالشاحنات، ومنها من أعلى بالطائرات، حتى أن حجم هذه المبيدات المستخدم تم تقديره بأكثر من 72 مليون لتر، فلوثت الأرض، والبحر، والسماء، وقضت على أنظمة بيئية منتجة ومثمرة، وأصابت الإنسان الأمريكي والفيتنامي على حدٍ سواء بأمراض مستعصية، مثل السرطان وأمراض الجلد الغريبة، علماً بأن الإصابة بهذه الأمراض مازالت مستمرة بالرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على توقف الحرب.

 

والمثال الآخر الذي يمكن أن يرقى إلى مستوى الجرائم البيئية الدولية هو اختفاء واحدة من أكبر البحيرات في العالم وهي بحيرة آرال(Aral Sea) التي تقع بين كازاخستان وأوزبكستان والتي كانت مساحتها قرابة 68 ألف كيلومتر مربع، حيث كان يصب فيها نهران عظيمان يزودانها بالحياة والماء الوفير، ولكن مع تحريف مجرى النهرين لزراعة القطن من قبل الاتحاد السوفيتي، انخفضت أحجام المياه التي تصب في البحيرة، فتحول الجزء الأكبر من البحيرة إلى صحراء جافة وقاحلة وتسبب في نزول كوارث بيئية، واقتصادية، واجتماعية، وصحية، وتدمير شامل للنظام البيئي في المنطقة وللبشر والحياة الفطرية النباتية والحيوانية.

 

ولذلك فإن هذه المبادرة التي تبنتها مؤسسة وقف الإبادة البيئية (Stop Ecocide Foundation) منذ عام 2017 يجب أن تحظى باهتمام ورعاية الدول، وبخاصة الدول الكبرى التي تتمتع بوزن ثقيل، ونفوذ قوي في المجتمع الدولي وفي المنظمات الدولية حتى نستطيع أن نحمي بيئتنا من التعدي على حرماتها، ونقيها من أيدي العابثين والمفسدين، ونمنع أية إبادة شاملة لبيئتنا وصحتنا.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق