الخميس، 10 يونيو 2021

المرض الغامض الخاص بالدبلوماسيين الأمريكيين


نشرتُ مقالاً في صحيفة أخبار الخليج في 29 أكتوبر 2017  تحت عنوان:" ماذا حَدثَ لموظفي السفارة الأمريكية في كُوبا؟"، أي قبل قرابة أربع سنوات. وفي هذا المقال حاولتُ التعرف على مرضٍ غامض وجديد تعرض له الموظفون الدبلوماسيون الذين يعملون في السفارة الأمريكية في مدينة هافانا في كوبا، والذي يتمثل في أعراض غير محددة وغير واضحة، وتتلخص في سماع أصواتٍ غير عادية مرتفعة، وذبذبات مؤذية وقوية، ثم الشعور بآلام في الرأس والأذن، وصداع شديد، وصعوبة في النوم، وعدم القدرة على التركيز، والشعور بالإرهاق والتعب والغثيان، إضافة إلى الإصابة بمشكلات في الرؤية، وخلل في التوازن، وفقدان تدريجي في السمع.

 

ومنذ ذلك الوقت لم يستطع الأطباء والعلماء من كشف ملابسات هذا المرض الغامض والأعراض غير المعروفة التي أصابت حتى الآن 130 دبلوماسياً يعملون في السفارات الأمريكية في كوبا والصين، ولم ينجحوا من فك رموز هذا اللغز الصحي المحير، فعجزوا حتى الآن من تحديد هوية المرض، ومصدره، وأسبابه، فهذا المرض الذي كان غامضاً عندما كتبتُ عنه، مازال غامضاً وأنا أكتبُ عنه اليوم.

 

وهذه القضية الصحية التي لم يشهدها الأطباء من قبل، ولم يسمعوا عن أعراضٍ لمرض مشابه لهذا المرض، تخرج فوق السطح بين الحين والآخر من قبل الأطباء والمختصين حيناً، ومن قبل وسائل الإعلام الأمريكية حيناً آخر، واليوم، في السابع من يونيو من العام الجاري، جاء إحياء القضية من جديد من السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد من مجلس الشيوخ، حيث وافق المجلس بالإجماع على قانون يُقدم الدعم والمساعدة المالية للذين يعانون من "ظاهرة هافانا" الغامض(Havana Syndrome)، وجاء التشريع الذي أُطلق عليه قانون هافانا تحت عنوان: "مساعدة الضحايا الأمريكيين المتأثرين بالهجمات العصبية"( Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks).

 

وهناك عدة روايات، أو نظريات تفسر هذه الظاهرة الصحية، فأما الرواية الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية حسب البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في 29 سبتمبر 2017، فقد أكد على تعرض الموظفين لنوعٍ من السلاح أُطلق عليه "الهجوم الصوتي"، أو "الهجوم السمعي"(sonic attack)، ولكن دون تقديم التفاصيل والبراهين العلمية، سوى نشر هذه الأصوات في 14 أكتوبر 2017 في وسائل الإعلام.

 

وأما النظريات العلمية التي حاولت تفسير هذه الحالة الصحية الغريبة فهي قليلة جداً، منها الدراسة التي أُجريت في جامعة بنسلفانيا الأمريكية على الدبلوماسيين القادمين من كوبا، وبتكليفٍ من وزارة الخارجية، حيث أشارت إلى أن حالة المصابين تشبه حالات وقوع "الارتجاج البسيط في المخ" عند حدوث أية صدمة خفيفة يتعرض لها المخ، ولكن لم يصلوا إلى أية نتيجة واضحة وقوية، ولم يقدموا دليلاً دامغاً على أسباب ومصدر ظهور هذه الحالة، علماً بأن هذا البحث نُشر في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين في 15 فبراير 2018. وأما الباحثون في جامعة متشجن الأمريكية فأرجعوا سبب هذه الظاهرة الصحية النادرة في كوبا إلى الأمواج الصوتية، أو الهجوم الصوتي، ولكن السبب مازال مجهولاً.

 

كذلك هناك دراسة نُشرت في 20 مارس 2018 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين حول "بيانات عصبية للمسؤولين الحكوميين الذين أفادوا لتعرضهم لظواهر صوتية وحسية في كوبا"، حيث تم فحص وتقييم 21 دبلوماسياً أمريكياً كانوا يعملون في كوبا، وأشارت الدراسة إلى أن شكوى هؤلاء العاملين في السفارة الأمريكية في كوبا لها علاقة بفقدان الذاكرة، وضعف القدرة على التركيز، وفقدان التوازن البدني، ومشكلات في الرؤية، والصداع وعدم القدرة على النوم، وفسرت الدراسة هذه الحالة بتعرض هؤلاء الأفراد لخلل في شبكات المخ، وأفادت بأن هذه الأعراض تشبه من تعرض لحادثة ارتجاج في المخ جراء حادثة سيارة، أو السقوط من مكان مرتفع، أو حدوث انفجار، ولكن الدراسة لم تحدد مصدر وأسباب هذه الحالة المرضية.

 

وهناك تفسير طريف لهذه الحالة المرضية الغامضة ونقلته صحيفة يو إس أيه توداي في السابع من يناير 2019، حيث أفاد تقرير الصحيفة بأن بعض العلماء يعتقدون بأن هناك "صراصير"( crickets)، تُصدر أصواتاً عالية وشديدة الحدة تُشبه إلى حدٍ كبير الأصوات التي سمعها الوفد الدبلوماسي الأمريكي في كوبا، ويعرف علمياً تحت إسم صرصور(Anurogryllus celerinictus )، علماً بأن وزارة الخارجية الأمريكية نشرت لوسائل الإعلام في عام 2017 تسجيلاً صوتياً لما سمعه فعلياً الوفد الأمريكي. وهذا النوع من الصراصير ذي الذيل القصير( Indies short-tailed cricket)موجود في جاميكا وفي كوبا، علماً بأن هؤلاء العلماء عرضوا نتائج دراستهم في الرابع من يناير 2019 في المؤتمر السنوي لجمعية الأحياء المقارنة والمتكاملة.

 

وآخر تفسير لهذه الظاهرة الصحية الغريبة، وحتماً لن يكون الأخير، تم اكتشافه مؤخراً من خلال فحص الأعصاب وإجراء تقييم وتحليل شامل لبناء وتركيبة كافة أجزاء المخ من خلال أخذ صور محددة للمخ باستخدام جهاز الرنين المغنطيسي المعروف(إم آر آي)، حيث نُشرت تفاصيل نتائج الدراسة في 23 يوليو 2019 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين تحت عنوان: "اكتشافات بعد التحليل العصبي لموظفي الحكومة في كوبا".

 

فقد قامت هذه الدراسة بمقارنة حالة أربعين من الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يعانون من بعض الأعراض المرضية التي تحدثنا عنها مع 48 أمريكياً أصحاء من غير المصابين، وأفاد الباحثون إلى وجود فروقٍ جوهرية بين العينتين في المخ من ناحية حجم الجزء الكلي الأبيض، وحجم المنطقة البيضاء والرمادية، والبناء الميكروسكوبي للمخ، إضافة إلى اختلافات في الجزء المختص بالسمع والبصر. فعلى سبيل المثال، معدل الحجم الكلي للمادة البيضاء كان أصغر في المرضى مقارنة بالأصحاء، فالمرضى كان الحجم 542.22 سنتيمتر مكعب والأصحاء 569.61، أي أصغر بنحو 5%، كذلك كانت هناك اختلافات وفروق بين عينة المرضى والأصحاء بالنسبة حجم المادة البيضاء والرمادية.

كذلك أفادت الأكاديمية القومية للعلوم، والهندسة، والطب في ديسمبر 2020 بعد إجراء التحقيق في هذه القضية، وبتكليف من وزارة الخارجية في عام 2020، بأن هؤلاء الدبلوماسيين قد تعرضوا لأشعة الميكروويف، وهي أيضاً تُعرف بترددات الراديو(radio frequency) المستخدمة في أفران الميكروويف المنزلية.

وفي الثالث من يونيو من العام الجاري نشرتْ صحيفة الواشنطن تايمس مقالاً نقلت فيه شهادات أحد العاملين في المخابرات الأمريكية(سي آي إيه) الذي أفاد بأنه سافر إلى موسكو عام 2017، وعند استيقاظه من النوم أُصيب بحالة من الدوار ولم يتمكن من الوقوف على رجليه، كما أحس بشعور غريب في أذنيه، وأشار التقرير بأن هذه الحالة تشبه الحالة التي تعرض لها الدبلوماسيون الأمريكيون في كوبا والصين. 

وكل هذه الدراسات والتقارير لا تُقدم الدليل العلمي الكافي، ولا تعطي البرهان الشافي عن أسباب ومصدر هذه الحالة المرضية الغريبة والغامضة للدبلوماسيين الأمريكيين، فهل هذه فعلاً حالة صحية مرضية جديدة، أم ورقة سياسية تستغلها أمريكا لحاجة في نفس يعقوب؟  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق