الأربعاء، 23 يونيو 2021

أجيالنا القادمة ستفتقد تراثنا الطبيعي

كما أن الدول تعتز وتفتخر بتراثها التاريخي العريق وثقافتها العميقة وحضارتها القديمة التي ضربت أطنابها في جذور التاريخ، فهناك نوع آخر من التراث الذي يمثل أيضاً تاريخ كل دولة، بل وكل مدينة في تلك الدولة، وهو يكُونُ من أنواع التراث الفريد من نوعه في بعض الدول، فلا يوجد مثيل له، أو ما يشبهه في أية دولة، بحيث إنه يصبح رمز تلك الدولة، وهو التراث الفطري الطبيعي بشقيه النباتي والحيواني، إضافة إلى البيئات الطبيعية الجميلة والخلابة التي تجذب الناس من داخل تلك الدولة ومن خارجها لمشاهدتها والتمتع بها.

 

وعلاوة على الناحية التراثية والتاريخية للحياة الفطرية وموائلها الطبيعية، فإن هذا التراث يعد جزءاً رئيساً وحيوياً من الموارد والثروات الطبيعية التي تتمتع بها بعض الدول، وتعتبر عملة نادرة وثرية تعتمد عليها اقتصادياً، واجتماعياً، وسياحياً، فهي صيدلية طبيعية عامة تُستخلص منها العقاقير النادرة المستخدمة لعلاج الأمراض المستعصية، وهي في الوقت نفسه المصدر الرئيس للغذاء لهذه الدول، إضافة إلى أنها مواقع سياحية بيئية يَشد الناس إليها الرحال لزيارتها والتعرف عليها وعلى الكائنات النادرة والغريبة التي تعيش فيها.

 

ولذلك فقد اعترفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة(اليونسكو) بهذه النوع من التراث الفطري الطبيعي في كل دول العالم، واتخذت الإجراءات والأدوات القانونية الدولية لحمايتها وصيانتها لنا وللأجيال اللاحقة. ومن أهم الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية هذا النوع من التراث هو اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972. وتهدف هذه الاتفاقية أساساً إلى حماية ورعاية التراث الفطري في كافة دول العالم والتي تتميز بطبيعة خاصة تتفرد بها تلك الدولة عن سائر دول العالم، ولها قيمة بارزة ورمزية عالية، مما يستوجب وقايتها والاهتمام بها ونقلها للأجيال القادمة دون المساس بهويتها، وصحتها، وقدرتها على الإنتاج والعطاء.

 

وفي السنوات والعقود الماضية زادت أهمية هذه الاتفاقية، وأصبحت الحاجة إليها ماسة أكثر، وأشد إلحاحاً بسبب التهديدات التي يواجهها هذا التراث الفطري الطبيعي، المتمثل في البيئات والموائل الطبيعية الفريدة، إضافة على التنوع الحيوي في تلك المناطق والحياة الفطرية النباتية التي تعيش عليها.

 

فالكائنات الحية وموائلها تواجه تحديات كبيرة على المستويين القومي والدولي تجعلها عرضة للتدهور المباشر في صحتها وسلامتها من الناحيتين النوعية والكمية، بل وفي الكثير من الحالات انقرضت موائل غريبة وفريدة من نوعها وذهبت مع الريح وبدون رجعة الكائنات الحية التي كانت تعيش عليها، وأصبحت جزءاً من التاريخ البيئي وتاريخ التراث الطبيعي.

 

فهناك تهديدات على المستوى القومي للدول، كما أن هناك تهديدات للتراث الطبيعي على المستوى الدولي، فأما التهديدات القومية فتتمثل في عمليات حفر ودفن السواحل البحرية التي تقضي كلياً على البيئات الساحلية، كما تقضي في الوقت نفسه على الحياة الفطرية البحرية في تلك المواقع المدفونة. كذلك من التحديات على مستوى الدول هي الإفراط الكبير والاستنزاف الشديد في المياه الجوفية التي تظهر على شكل عيونٍ عذبة في البر والبحر فتؤدي مع الوقت وبشكلٍ تدريجي على جفاف هذه العيون وتدميرها وكل ما حولها من موائل وحياة فطرية مثمرة وثرية. كما أن التوسع العمراني وتمدد المدن إلى البيئات الطبيعية العذراء أدى إلى تدميرها والقضاء على الحياة الموجودة فيها.

 

وأما على المستوى الدولي، فهناك الصيد الجائر للثروة السمكية واستخدام أدوات الصيد الجماعي غير الشرعية، كذلك هناك مشكلات بيئية لها تأثيرات على كوكبنا برمته كالتغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض ومستوى سطح البحر، والانعكاسات التي سببتها هذه الظاهرة على البيئات الطبيعية وكل كائن حي يعيش على سطح الأرض. 

 

فكل هذه العوامل جعلت الكثير من الحيوانات والنباتات تعيش في حالة يائسة ومريضة نقلتها إلى غرفة العمليات والإنعاش وهي تقاوم الانقراض والموت، فمنها من كان مصيرها الموت والزوال من على سطح الأرض بدون رجعة، ومنها من ينتظر دوره فأصبح مهدداً بالموت والانقراض.

 

ولذلك فالجيل الحالي والأجيال اللاحقة ستفتقد مشاهدة والتمتع بالكثير من أنواع الكائنات الفطرية والمخلوقات الغريبة والعجيبة التي انمحتْ من كوكبنا في البر، والبحر، والجو، سواء في البحرين، أو في دول أخرى.

 

أما في البحرين فقد افتقدنا وخسرنا وللأبد وبدون رجعة واحد من أهم الأنظمة البيئية الغنية والفريدة من نوعها، وهو نظام العيون البرية والبحرية التي كانت تشتهر بها البحرين على المستوى الإقليمي، فكانت بيئة خصبة تحيطها الكائنات الحية في مياه تلك العيون، إضافة إلى الكائنات البرمائية وغير البرمائية التي كانت تزدهر بها الأنهار الصغيرة والمتفرعة التي تخرج من بطن العيون، والتي كانت في الوقت نفسه تُغذي الأراضي الزراعية حولها فتكون غابات كثيفة من النخيل وغيرها من الأشجار، فتحوم حولها الطيور الجميلة المغردة والغناء، وبخاصة طائر البلبل المهدد بالانقراض في بلادنا.

 

ولكي تصدِّقوا وصفي لهذا النظام البيئي المنتج والمثمر لهذه العيون الفذة، فألقُوا نظرة على الصور القديمة الخاصة بهذه العيون، وعلى رأسها عين عذاري، وقصاري، وأبوزيدان، والرحى، وأم شعوم، والسفاحية، والشيخ، والتي بلغ عددها حسب بعض التقديرات قرابة 153 عيناً في البر، و 20 عيناً بحرية. وعلى رأس هذه العيون جمالاً، وروعة، وثراءً وحيوية هي عين عذاري، والتي قد لا يسمع عنها هذا الجيل، وبالتأكيد الأجيال اللاحقة. فعين عذاري التي ربما نسمع عنها الآن، فأُطلق عليها "بركة عين عذاري"، فهي فقدت البيئة الحيوية المحيطة بها، كما انتهت كلياً الحياة الفطرية التي تحوم حولها، فلا تعتبر بتاتاً نظاماً بيئياً كما كانت عليها. فذاكرتي عن عين عذاري عندما كنتُ صغيراً هي تلك العين السياحية الجميلة التي يتمتع بها سكان البحرين وزوراها سباحة وترفيهاً وقضاء وقت ممتع مع الأهل والأصدقاء، وذاكرتي عن عين عذاري هي البساتين الخضراء الكثيفة ذي النخيل الباسقة المثمرة والغناء التي تحيط بالعين من كل جانب، وذاكرتي عن العين هي الأنهار الصغيرة التي تسقي هذه البساتين، ويعيش فيها كائنات برمائية انقرضت الآن في البحرين كسلاحف المياه العذبة والضفادع.

 

وعلاوة على النظام البيئي للعيون التي انقرض كلياً من البحرين وانمحت وأُزيلت معظم آثارها ومواقعها، فهناك بعض أنواع الطيور المهاجرة والنادرة التي لن يراها الجيل الحالي وطبعاً الأجيال اللاحقة، حيث كانت تأخذ فترة استجمام وراحة أثناء رحلتها الطويلة، فتنزل "ترانزيت" في بيئات محددة تتغذي عليها أثناء فترة الشتاء، وتتكاثر فيها، ثم تواصل مسيرتها إلى دول أخرى، مثل طائر الخناق الرمادي الذي تَوَقفْ النزول في البحرين لتدمير بيئتها من بساتين النخيل في قريتي مُقابه وسار.

 

فهذه أمثلة معدودة من بيئات كثيرة وحياة فطرية نباتية وحيوانية قد انتهت كلياً من البحرين، فأصبحنا نقرأ عنها في الكتب القديمة حول الحياة الفطرية في البحرين، فمع الأسف فإن الجيل الحالي والأجيال اللاحقة ستفتقد كل هذا التراث من التنوع الحيوي في بلادنا، وبدون رجعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق