الثلاثاء، 15 يونيو 2021

غاز وديع يُشعل أزمة عالمية

غاز آمن ووديع ومستقر لا لون له وموجود في الهواء الجوي النظيف والسليم الذي خلقه الله سبحانه وتعالى باعتدال، وتوازن دقيق، وبقدرٍ محدود ومعلوم، ولا يمكن للإنسان أن يعيش بدونه، كما أن حياة الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية تعتمد عليه، واستدامة كوكبنا مرتبطة بوجوده، ولكن في الوقت نفسه تسبب هذا الغاز في انفجار أكبر أزمة عالمية عرفها الإنسان وواجهها حتى يومنا هذا، وهي من أشد الأزمات تنكيلاً بالبشرية جمعاء، وأكثرها تعقيداً، ومستعصية على الحل.

 

هذا الغاز هو ثاني أكسيد الكربون الذي لا يزيد تركيزه في الهواء الطبيعي غير الملوث والصافي والنظيف عن 250 جزءاً من هذا الغاز في المليون جزء من الهواء الجوي، وخلقه الله جلَّتْ قدرته في الهواء ليؤدي مهمات كثيرة وحيوية ضرورية لاستدامة حياة الإنسان والكائنات الأخرى على سطح الأرض، إضافة إلى وظيفته الكبرى في استدامة عطاء وإنتاجية كوكبنا. فهذا الغاز هو مصدر الحياة للنباتات التي تقوم بامتصاصه لإنتاج الغذاء، أو ما يُطلق عليه بعملية التمثيل الضوئي، وهو في الوقت نفسه يحدث التوازن المطلوب والمعتدل للمناخ ودرجة الحرارة على سطح الأرض.

 

ولكن خلال العقود القليلة الماضية تحول هذا الغاز النافع من عامل بناءٍ واستقرار للإنسان وكوكب الأرض إلى عامل هدمٍ وفساد، وتحول من نعمة على البشرية إلى نقمة وبلاء، كما تحول من غاز ضروري للإنسان والمخلوقات الأخرى إلى غاز ضار ملوث للبيئة والهواء الجوي ومهلك للحياة على الأرض، بل ودخل الإنسان منذ أكثر من ثلاثين عاماً على المستويين القومي والدولي في معارك محتدمة وماراثونية بسبب هذا الغاز.

فما الذي حدث لهذا الغاز حتى يسبب كل هذه التحولات السلبية العصيبة؟

 

مشكلة هذا الغاز تكمن في أن أي نشاط يقوم به الإنسان منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، فإنه يُطلق هذا الغاز إلى الهواء الجوي، فمصادر انبعاث هذا الغاز لا تعد ولا تحصي وموجودة في كل دول العالم بدون استثناء، الغنية منها والفقيرة، والمتقدمة منها والنامية، والأحجام التي تدخل إلى الهواء الجوي من هذه المصادر هائلة ولا يمكن تصورها وحسابها، ولم تخطر على بال أحد، حتى إنها حسب آخر التقديرات بلغت قرابة 40 بليون طن متري سنوياً. أما على مستوى الدول، فجميعها يستخدم الفحم، أو الغاز الطبيعي، أو مشتقات النفط لتوليد الكهرباء، أو تشغيل المصانع والمعامل والورش، أو استخدام الطائرات، وأما على مستوى الأفراد فكل إنسان يعيش على سطع الأرض يحتاج إلى الكهرباء، والكثير له سيارته الخاصة، وفي كل هذا المصادر يحترق الوقود الأحفوري ويطلق غاز ثاني أكسيد الكربون، ولذلك مع مرور مئات السنين وبسبب عدم تحلل الغاز وتراكمه في الغلاف الجوي لمئات السنين، ارتفع تركيز هذا الغاز إلى مستويات عالية جداً سبب القلق الشديد للإنسان، وأدى إلى وقوع ظواهر مدمرة للبشرية على رأسها ظاهرة التغير المناخي، أو ما تعرف أيضاً بالاحتباس الحراري، والبيت الزجاجي. وهذه الظاهرة من تداعياتها سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حمضية المياه السطحية، وغيرها من الانعكاسات شديدة الوطء على الإنسانية وعلى كوكبنا من الناحية البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وعندها انطبق المثل الشعبي على هذا الغاز، والذي يقول "اللي يزيد عن حده ينقلب ضده".

 

فمستويات هذا الغاز الوديع تغيرت بشكلٍ جذري وارتفع بأحجام مطردة على مدى العقود الماضية. فلو اعتبرنا أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الهواء البكر الذي خلقه الله كان 250 جزءاً في المليون، فإن هذا التركيز ارتفع الآن بشكلٍ تدريجي متسارع. فحسب محطة ماونا لوا المرجعية الموجودة في أعلى قمة جبل في هاواي(Mauna Loa Atmospheric Baseline Observatory) والتي بدأت قياس تركيز ثاني أكسيد الكربون منذ عام 1958 فإن المعدل السنوي لمستوى الغاز، على سبيل المثال كان في عام 2014، 400 جزء من غاز ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء الجوي، وفي عام 2019 بلغ 409.8، ثم ارتفع في يونيو عام 2020 إلى 417.1، وأخيراً في السابع من يونيو من العام الجاري حطم الأرقام القياسية السابقة فبلغ 419.1 جزء في المليون.  

 

فهذه الأنماط المتزايدة من تركيز ثاني أكسيد الكربون المهددة لأمن الإنسان والحياة الفطرية ولسلامة الكرة الأرضية جمعاء، حرَّكت المجتمع الدولي لمواجهة هذه الظاهرة العالمية العقيمة وإيجاد الحلول الجماعية المشتركة لكي تدخل كل دولة حسب إمكانياتها ومواردها لمواجهة هذا العدو الجديد غير المتوقع للبشرية. وأول تحرك فاعل قام به المجتمع الدولي تمثل في الموافقة على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي في عام 1992 في قمة الأرض التاريخية التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية. ثم بعد خمس سنوات من المفاوضات الدولية نجح المجتمع الدولي في الوصول إلى بروتوكول كيوتو في عام 1997 والذي يلزم الدول الصناعية المتقدمة ولأول مرة إلى تحديد أهداف معينة واضحة والالتزام بها لخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون.

 

ولكن هذه النجاحات الدولية واجهت إخفاقات عظيمة جعلتها ترجع إلى النقطة التي بدأت منها، حيث رفض الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن المصادقة على البروتوكول. فأعاد المجتمع الدولي الكرَّة مرة ثانية، وأجْمَع بعد عشرين عاماً على تفاهمات باريس لعام 2015، والتي وقع عليها أوباما في أغسطس 2016، فجاء ترمب ونسفها كلياً بانسحابه من الاتفاقية في الأول من يونيو 2017، ثم رجع إليها أخيراً الرئيس الأمريكي بايدن.

 

وهذا الغاز الوديع جعل المجتمع الأمريكي في حد ذاته يدخل معركة أخرى موازية، وتتمثل في تصنيف هذا الغاز. فهل هو ملوث للهواء الجوي أم لا؟ وهل يضر هذا الغاز بصحة الإنسان؟ وهل يجوز وضع هذا الغاز ضمن قائمة الملوثات التي حدَّدها قانون الهواء النظيف وهو أول أكسيد الكربون، وغاز الأوزون، وأكاسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، والجسيمات الدقيقة بأنواعها، والرصاص. وقد تم حسم هذه القضية عندما أصدرت المحكمة العليا حُكماً في عام 2007 في القضية المعروفة بماساشوستس ضد وكالة حماية البيئة بأن ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى المتهمة بالتغير المناخي تُعد "ملوثات"، أي تدخل ضمن قائمة الملوثات التي وردت في قانون الهواء النظيف. وهذا الجدل الكبير الذي أشغل المجتمع الأمريكي يكمن في أن وضع ثاني أكسيد الكربون ضمن قائمة الملوثات يعني وضع مواصفات مُلزمة لهذا الغاز في انبعاثات المصانع ومحطات توليد الكهرباء، إضافة إلى مواصفات ومعايير ثانية لتركيز وجوده في الهواء الجوي، وكل ذلك يعني وضع أعباءٍ اقتصادية كبيرة على الشركات المعنية بكل مصادر انبعاث الغاز من مصانع، وسيارات، وطائرات، وغيرها.

 

فهذا الخلل البسيط الذي أحدثه الإنسان في النظام البيئي للهواء الجوي، والذي تمثل ليس في إضافة ملوثات جديدة إلى الهواء، وإنما فقط في "زيادة" تركيز إحدى المواد الموجودة أصلاً وطبيعياً في الهواء، خلق أزمة خانقة مستمرة، لا يستطيع الخروج منها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فمتى سيتعلم الإنسان على ألا يعبث في بيئته إلا بعلمٍ وسلطان وخبرة طويلة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق