الأربعاء، 9 يونيو 2021

هل هناك حاجة لاتفاقية دولية حول البلاستيك؟

عندما تكون هناك قضية دولية تعجز دولة واحدة، مهما أُوتيتْ من قوة ونفوذ وموارد بشرية ومالية وتقنية من مواجهتها وحلها لوحدها، فإن دول العالم، ممثلة في منظمات الأم المتحدة المعنية، تلجأ إلى آلية المعاهدات، أو أداة الاتفاقيات الدولية التي تشترك كل دول العالم في المشاركة في التصدي لها.

 

فعلى سبيل المثال، هناك مشكلة تدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون، أو طبقة الاستراتسفير العليا فوق سطح الأرض، وهذه المعضلة تسبب في وقوعها كل إنسان يعيش على سطح الأرض، أي كل دولة تتحمل مسؤولية نزولها علينا. فكل إنسان غنياً كان أم فقيراً يستخدم البخاخات والإيروسولات، وكل إنسان يستخدم المكيفات، وكل إنسان يستخدم الثلاجات وأجهزة التبريد، وكل إنسان يستخدم جهاز إطفاء الحريق، وكل هذه المنتجات التي نستخدمها يومياً تحتوي على مجموعة من الغازات تسمى "الفريون"، أو المركبات العضوية البسيطة التي تتكون من غاز الفلورين والكلورين، وهذه الغازات الخاملة والمستقرة لا تتحلل في طبقات الجو السفلى، أو طبقة التروتسفير، وإنما تعرج إلى السماء العليا رويداً رويداً حتى تبلغ طبقة الأوزون على ارتفاع أكثر من 20 كيلومتراً فوق سطح الأرض، وهناك بواسطة الأشعة البنفسجية المنبعثة من الشمس تتحلل وتطلق غاز الكلورين الذي بدوره يحلل غاز الأوزون في طبقة الأوزون ويمنعه من امتصاص الأشعة البنفسجية القاتلة للبشر والحجر والشجر. ولذلك كان لا بد من استنفار جهود العالم أجمع لمحاربة هذه الظاهرة المهددة لاستدامة حياة الإنسان والكائنات الأخرى على سطح الأرض، فأثمرت الجهود الدولية وتمخض عنها بروتوكول مونتريال في عام 1987.

 

كما أن قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض تخص كل إنسان، وكل دولة تتحمل عبء وقوعها علينا، فكل إنسان يستخدم السيارة، أو القطار، أو الباخرة، وكل دولة تولد الكهرباء، وكل دولة تزرع المحاصيل وترعى المواشي من أجل تحقيق الأمن الغذائي، ومع كل هذه الأنشطة البشرية ينطلق غاز ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وغيرهما من أنواع الملوثات التي تسببت في وقوع هذه الظاهرة الخطيرة التي هددت أمن وسلامة الكرة الأرضية برمتها، مما استدعى تحركاً دولياً جماعياً منذ عام 1992، عندما وافقت دول العالم في القمة التاريخية حول البيئة والتنمية في مدينة ريو دي جانيروا البرازيلية على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، ومازال المجتمع الدولي يبحث عن الحلول الجماعية المشتركة الملزمة لكل الدول لمواجهة سخونة كوكبنا. 

 

ولذلك فإن هناك بناءً على تقديري ثلاثة عوامل رئيسة تُلزم دول العالم إلى المضي بجدية نحو اتفاقية دولية، الأول هو مساهمة كل دول العالم في وقوع هذه القضية، والثاني هو النطاق الجغرافي لهذه القضية من حيث تأثيرها على كل شبرٍ صغير وكبير من كوكب الأرض، وأما العامل الثالث فهو يتمثل في عدم قدرة أية دولة، أو مجموعة، أو تكتل من الدول في علاج القضية لوحدها بشكلٍ جذري مستدام دون مساهمة الدول الأخرى في الحل وتحمل المسؤولية.

 

والآن نحن أمام قضية جديدة تتمثل في "البلاستيك"، أو "المخلفات البلاستيكية"، فهل هذه العوامل الثلاثة التي ذكرتها تنطبق على هذه القضية، حتى يجوز لي أن أدعو إلى علاجها بآلية المعاهدات الدولية؟ بل وفي حالة البلاستيك أستطيع أن أُضيف عاملين جديدين إلى العوامل الثلاثة السابقة.

 

أما العامل الأول المحقق لمستلزمات عمل الاتفاقية الدولية فهو دور كل إنسان، وكل دولة في نشؤ ظاهرة البلاستيك والمخلفات التي تنجم عن استخدامها. فالمادة البلاستيكية قد دخلت الآن في كل المنتجات الاستهلاكية التي نستعملها جميعاً في منازلنا، ومكاتبنا، ومصانعنا، وأصبحت جزءاً مهماً في صناعة جميع هذه المنتوجات الصغيرة منها والكبيرة التي لا نستطيع الاستغناء عن الكثير منها حالياً، سواء في الدول النامية الفقيرة، أو الدول الصناعية المتقدمة الغنية.

 

والعامل الثاني فهو ولوج هذه المنتوجات بعد الاستغناء عنها، والتخلص منها إلى كل عناصر بيئتنا، في الهواء، والماء، والتربة، وفي كل شبرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من بيئتنا، سواء أكان قريباً من المدن الحضرية أو بعيداً في المواقع النائية من الكرة الأرضية كالقطبين الشمالي والجنوبي وفي الأدغال الموحشة والمظلمة، وفي أعماق المحيطات السحيقة وعلى عمق أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح البحر، بل وإن هذه المخلفات البلاستيكية دخلت في كل أعضاء أجسادنا، حسب التحاليل المخبرية التي أُجريت وأكدت على وجود البلاستيك في كل هذه البيئات، إضافة إلى جسم الإنسان. فالمخلفات البلاستيكية عندما تُرمى في البيئة تكون كبيرة الحجم(مَاكْرُو)، ثم مع وجودها في البيئة ومكوثها في المكونات البيئية وتعرضها للحرارة، وضوء الشمس، والرطوبة العالية، والرياح الشديدة، فإنها تتكسر مع الوقت إلى قطعٍ أصغر فأصغر حتى أن بعضها لا يرى بالعين المجردة(ميكروبلاستيك)، كذلك مع مرور الزمن تتفتت أكثر إلى جسيمات ميكروسكوبية(نانوبلاستيك)، أو مجهرية صغيرة جداً لها القدرة على غزو جسم الإنسان عن طريق الفم والأنف واحتلال الجهاز التنفسي، ثم الانتقال إلى الدم والتحرك بسهولة ويسر في الدورة الدموية، ومنها إلى كل خلية من خلايا أعضاء أجسادنا، ومنها أيضاً من الأم الحامل إلى جنينها. ويمكن الرجوع إلى التفاصيل في مجلة علوم وتقنية البيئة التي نَشرت مقالاً شاملاً في 11 مايو من العام الجاري تحت عنوان "تحلل البلاستيك كتهديد للكوكب، التعرض، والمصير، والخطورة"، أو الدراسة المنشورة في مجلة "علم السموم للجسيمات والألياف" في 24 أكتوبر 2020 حول انتقال الجسيمات البلاستيكية من مشيمة الأم إلى الجنين.

 

وأما العامل الثالث فيتمثل في ضعف إمكانية أية دولة مهما بلغت من قدرات وقوة في التصدي لهذه المخلفات البلاستيكية التي عبرت الحدود الجغرافية للدول وبلغت كل أرجاء الأرض وتقديم الحلول التنفيذية الناجعة والفاعلة للتخلص منها في بيئتنا وفي أجسامنا. والعامل الرابع الذي يضطر الدول إلى التحكيم لاتفاقية دولية للتعامل معها، فهو أن البلاستيك مع الاستعمال يتحول إلى ملايين الأطنان سنوياً من المخلفات البلاستيكية التي يتم نقلها عبر الحدود من بلدٍ إلى آخر لتدويرها وإعادة صناعتها، مما يحتم وجود آليات واضحة، وضوابط تنظم حركة النقل، كما هو الحال الآن بالنسبة لاتفاقية بازل حول التحكم في نقل النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود. وأما العامل الخامس والأخير فهو تفاقم قضية المخلفات البلاستيكية مع نزول وباء كورونا على البشرية منذ ديسمبر 2019، حيث إن كمية وأحجام المخلفات البلاستيكية زادت بشكلٍ مشهود وكبير وتمت مشاهدتها في كل بقعة من الأرض، مثل الكمامات التي توضع على الوجه والفم، والقفازات البلاستيكية، والملابس الواقية التي يرتديها الطاقم الطبي المختص بمعالجة كورونا، وكلها يتم استخدامها لمرة واحدة فقط ثم تُرمى.

وجدير بالذكر أن هذا الدعوة لاتفاقية تتعامل مع البلاستيك مازالت في مهدها ولم تلق إجماعاً دولياً، ففي الاجتماع الخامس للأمم المتحدة حول البيئة في الفترة من 22 إلى 23 فبراير 2021، دعمت 40 دولة فقط هذه الفكرة.

وفي الحقيقة فإنني في حيرةٍ من أمري عندما أدعو إلى اتفاقية جديدة تُضاف إلى الكم الهائل من الاتفاقيات الدولية، أو المتعددة الأطراف، أو الإقليمية، أو الثنائية، فشعورٌ ينتابني بأهمية اتفاقية البلاستيك، كما ذكرتُ سابقاً، وفي الوقت نفسه شعور آخر يراودني ويقول لي بعدم جدوى هذه الاتفاقيات لأنها تمثل مخزوناً متراكماً من الاتفاقيات التي لا تنفذ من قبل الدول حتى بعد الاتفاق عليها، إضافة إلى أن كل اتفاقية يجب أن تُخصَص لها ميزانية مستقلة، وكوادر بشرية فنية ومتخصصة لمتابعتها ومراقبة تنفيذها، وكل هذه المستلزمات المالية والبشرية ترهق كاهل ميزانيات الدول، وبخاصة في عهد كورونا، الذي زلزل الحالة الاقتصادية لدول العالم أجمع.

فهل هناك جدوى إذن لاتفاقية جديدة تُضاف عددياً إلى الاتفاقيات الكثيرة الأخرى التي لم يتم تفعيل العديد منها؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق