الاثنين، 5 يوليو 2021

ماذا يعني انضمام البحرين لاتفاقية ميناماتا؟

هذه الاتفاقية التي انضمت إليها مملكة البحرين ليست كباقي الاتفاقيات البيئية الصحية الدولية، فلها قصة طويلة حزينة ومؤلمة جداً، وقعتْ مشاهدها في مدينة ساحلية في اليابان وهي مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا(Minamata Bay) في مقاطعة كوماموتو(Kumamoto Prefecture). فهذه الاتفاقية  تمخضت بعد معاناة قاسية من آلاف المرضى من الشعب الياباني منذ الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت المعاناة والآلام مستمرة، وستسمر إلى أن يشاء الله، وهذه الاتفاقية كُتبت بدموع الكثيرين من الذين سقطوا مرضي، فمنهم من قضى نحبه بعد حين، ومنهم من ينتظر، وهذه الاتفاقية سُطرت بكلماتٍ مستخلصة من أنين وصرخات الضحايا ومن أُسرهم من شدة الألم الجسدي والنفسي الذي نزل عليهم، ولولا هذه المعاناة العصيبة، والكرب العقيم الذي ألـَّم بالمجتمع الياباني برمته لما وُلدت هذه الاتفاقية، ولما رأتْ النور على المستوى الدولي.

 

فقصة هذه الاتفاقية تبدأ من مشهدٍ بسيط جداً، وممارسة "روتينية" عادية كانت تُرتكب في كل دول العالم، وبخاصة الدول الصناعية الكبرى مثل اليابان وغيرها منذ مطلع القرن العشرين، حيث كان أحد المصانع يصرف إلى البحر لسنواتٍ طويلة مياهاً ملوثة بالزئبق، ظناً من الإنسان في ذلك الوقت أن الملوثات الموجودة في مياه الصرف الصناعي، وبالتحديد الزئبق في هذه الحالة ستتخفف وينخفض تركيزها عند دخولها في بيئة البحر الواسعة والكبيرة، حتى أنها تنتهي بعد ساعات من إلقائها في البحر، وستزول آثارها كلياً وإلى الأبد.

 

ولكن الإنسان نتيجة لجهله في تلك الحقبة التاريخية، وقلة علمه وخبرته بآلية تصرف الملوثات ومصيرها بعد إطلاقها إلى البيئة، اعتبر بأن مثل هذه التصرفات طبيعية، ومقبولة، ولا ضرر منها على البيئة والإنسان، ولذلك ارتكب واحدة من أكبر الكوارث البيئية الصحية التي نزلت على البشرية جمعاء.

 

فلم يعلم الإنسان بأن الزئبق من العناصر التي لا تتحلل إذا دخلت إلى البيئة بشكلٍ عام، والبيئة البحرية بصفةٍ خاص، أي أنها تبقى في البيئة ولا تتغير هويتها، كما أن الإنسان كان يجهل بأن الزئبق بعد دخوله إلى البيئة البحرية يبدأ رويداً رويداً في التراكم ويرتفع تركيزه مع الزمن، كذلك كان الإنسان يجهل حقيقة أن الزئبق له القدرة على التركيز والتضخم في السلسلة الغذائية البحرية وأنه يتحول من حالٍ إلى حالٍ آخر أكثر شراسة، وأشد تهديداً وتنكيلاً بالصحة، ولذلك ومع الوقت وبدون أن يحس الإنسان، أو أن يعلم ماذا يفعل هذا الزئبق بعد وصوله إلى البحر، يأخذ تركيزه في الزيادة في الكائنات البحرية العالقة في عمود الماء، سواء أكانت نباتية أو حيوانية، ثم يتحول هذا التركيز المرتفع للزئبق من هذه الكائنات المجهرية والصغيرة الحجم إلى الأسماك والقواقع الصغيرة، ومنها إلى الأسماك الكبيرة والتي يصل في جسمها تركيز الزئبق إلى مئات الأضعاف عمَّا كان عليه عند صرفه من المصنع إلى البحر، وأخيراً تقع الطامة الكبرى عندما يتغذى الإنسان على هذه الأسماك الملوثة بكميات سامة جداً من الزئبق، فتسقط الضحايا البشرية بأعدادٍ كبيرة، بين مريض وصريع، وهم يئنون ويصرخون من شدة الألم وعظم المعاناة. وخطورة هذه الكارثة تكمن ليس في الذين تنالوا السمك الملوث بالزئبق فأصابهم المرض، أو وقعوا في مصيبة الموت في ذلك الوقت فحسب، وإنما هناك أجيال متلاحقة عانت، ومازالت تعاني حتى يومنا هذا من هذا المرض الغريب والفريد من نوعه، والذي أُطلق عليه مرض ميناماتا، أي بعد قرابة أكثر من سبعين عاماً على ظهوره أمام الناس، فالزئبق الذي دخل في أجسام الناس في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، انتقل من الأم والأب المصابين إلى الأجنة المولودين بعد سنوات، وهكذا انتشر السم في شرايين الدم عبر الأجيال، واحد تلو الآخر، حتى يومنا هذا. 

 

ووقْع هذا الكرب العظيم على المجتمع الياباني خاصة، والمجتمع الدولي عامة تجلى في عدة صور منها:

أولاً: إنشاء متحف خاص تخليداً لذكرى هذا النكبة التي أحلَّت بهذه المدينة تحت مسمى المتحف البلدي لمرض ميناماتا(Minamata Disease Municipal Museum)، حيث شدَّ إمبراطور اليابان أكيهيتو(Akihito)، وزوجته الإمبراطورة ميتشيكو(Michiko) في نوفمبر 2013 الرِحال ولأول مرة في تاريخ اليابان، ليس لزيارة صرحٍ تقليدي يزوره الزعماء والقادة، كصرح الجندي المجهول، أو ضريحٍ تذكاري يُخلد ضحايا الحروب الطاحنة، وإنما إلى موقع الكارثة البيئية.

ثانياً: علاوة على موت الناس بسبب هذا المرض وكثرة أعداد الناس المصابين به حتى الآن، تم إغلاق أبواب خليج ميناماتا أمام صيد الأسماك والقواقع وغيرهما من الكائنات البحرية لمدة تزيد عن الأربعين عاماً نتيجة لانتشار هذا السم في كل شرايين الخليج.

ثالثاً: توقيع معظم دول العالم على اتفاقية ميناماتا حول الزئبق، والتي تعالج قضية واحدة فقط مرتبطة بعنصر واحد من بين 118 عنصراً، فهذا الإجماع على محاربة هذا العنصر يؤكد على خطورته والتهديد الذي يمثله للإنسانية وبيئته.

 

ولذلك كان لا بد من حكومة البحرين أن تواكب هذا الحدث البيئي الصحي الجلل وتلتزم مع باقي دول العالم باتخاذ كل التدابير والإجراءات اللازمة لتقنين استخدام واستيراد الزئبق بين دول العالم من أجل منع التداعيات البيئية والصحية التي تنجم عن تعرض الإنسان للزئبق، إضافة إلى ضرورة أخذ كافة الاحتياطات البيئية والصحية عند إنتاج، وتصدير أو استيراد الزئبق أو مركباته أو المنتجات التي تحتوي عليه مثل مصابيح الفلوروسينت.

 

وأود في الختام أن أُذكر إلى أن أسهل خطوة في مجال الاتفاقيات الدولية هي خطوة التوقيع ثم التصديق، والخطوة الأهم والأصعب فهي خطوة التنفيذ وتطبيق كافة بنود هذه الاتفاقيات على أرض الواقع. فهذه الاتفاقيات الأممية تكون عادة معقدة ومتشابكة من حيث اللغة، ومن حيث المفاهيم والمصطلحات العلمية التي ترد فيها، فهي تحتاج إلى فريقٍ متعدد التخصصات، وليس شخصاً واحداً فقط يحمل عبء متابعة وتنفيذ الاتفاقية ومراقبة التعديلات الدورية التي تضاف أو تحذف منها، كذلك التوغل في الملاحق العلمية لهذه الاتفاقية. ومن جانب آخر لكي تنفذ الاتفاقية بشكلٍ فاعل يجب أن تخصص لها ميزانية محددة للتكفل بكافة المصاريف والنفقات المتعلقة بها، فكل اتفاقية نصادق عليها تمثل عبئاً مالياً وفنياً وبشرياً يضاف إلى باقي الاتفاقيات الدولية والتشريعات والأنظمة الوطنية.

 

وعلاوة على ذلك، فإن هذه الاتفاقية يجب أن تكون ضمن تشريعات مملكة البحرين، ويجب أن تدمج بنودها في برامج وأعمال كل وزارة حسب تخصص تلك الوزارة، فلا يمكن لجهة حكومية واحدة أن تتحمل مسؤولية تنفيذ مثل هذه الاتفاقيات.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق