الأحد، 25 يوليو 2021

منشأ المعلومات المضللة حول كورونا

أدلى الرئيس الأمريكي جو بايدن في 16 يوليو من العام الجاري بتصريحات شديدة اللهجة أمام الصحفيين حول المعلومات المضللة، والإشاعات الكاذبة التي بدأت تنتشر وتستفحل في منصات وسائل الاتصال الاجتماعي والمتعلقة بفيروس كورونا نفسه، وبالمرض الذي يسببه الفيروس، وبخاصة تلك المعلومات المتعلقة بفاعلية اللقاح ضد الفيروس وأهميته في استئصال هذا الوباء العقيم من المجتمع البشري، حيث اتهم وسائل الاتصال الاجتماعي وعلى رأسهم الفيسبوك للسماح بنشر وترويج المعلومات المضللة بقتل الناس، قائلاً: "هم يقتلون الناس....الوباء الوحيد الذي نعاني منه هو بين الذين لم يتلقوا اللقاح، وهؤلاء يقْتُلون الناس". ثم جاءت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي في 19 يوليو لتدافع عن اتهامات رئيسها لوسائل الاتصال الاجتماعي عندما قالت في المؤتمر الصحفي للبيت الأبيض: "اهتمامنا الأكبر، وصراحة من المفروض أن يكون هذا اهتمامكم، هو أعداد الوفيات حول العالم بسبب تلقيهم لمعلومات مضللة تقنعهم بعدم أخذ اللقاح".

 

كذلك ردد هذه التصريحات المسؤول الأول عن الصحة العامة(الجراح العام) فيفك ميرثي قائلاً بأن المعلومات المضللة التي تأتي عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي تُعد "تهديداً عاجلاً للصحة العامة"، وبخاصة في قضية التردد والشك في أهمية أخذ اللقاح، كما أكدت على هذا التصريح منظمة الصحة العالمية عندما قالت بأن التردد في أخذ اللقاح يُعد من "أخطر التهديدات الصحية الدولية" لأنه من أهم العوائق التي تقف في طريق تحقيق دول العالم لهدف مناعة المجتمع ضد فيروس كورونا، وبالتالي إطالة عمر الفيروس في جسم المجتمع البشري، وتأخر استئصاله والقضاء عليه كلياً.

 

وهذه التصريحات الشديدة من المسؤولين في الإدارة الأمريكية تعكس حالة وظاهرة عامة تعاني منها بعض المدن في الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة بين السود من جهة وبين اليمين المتشدد من جهةٍ أخرى، وتتمثل في الإقبال الضعيف في هذه المدن لأخذ جرعة من اللقاح ضد فيروس كورونا، وهذا الاقبال الضعيف ضاعف من أعداد المرضى والوفيات من كورونا، مما اضطر البيت الأبيض إلى تبنى مدخل أكثر شدة وصرامة ضد الشائعات، والأخبار غير الصحيحة التي تُنشر في وسائل الاتصال الاجتماعي.

 

وهناك استطلاعات للرأي أُجريت مؤخراً تثبت هذا التردد، والشك، والعزوف من بعض الناس، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، تُشير استطلاعات الرأي التي أجرتها وكالة "ياهو نيوز"(Yahoo News/YouGov) ونُشرت في العشرين من يوليو من العام الجاري عن وجود أزمة حقيقية متمثلة في عزوف بعض الأمريكيين عن أخذ اللقاح، فقرابة 37% من الذين استطلعت آراؤهم ولم يأخذوا اللقاح بعد يعتقدون بأن اللقاح أكثر خطورة على صحتهم من الفيروس نفسه، وأسباب العزوف هي الخوف من الأعراض الجانبية، وفقدان الثقة في اللقاحات، والمعلومات الخاطئة والمضللة التي يطلعون عليها في وسائل الاتصال الاجتماعي. كذلك هناك البحث المنشور في 11 يناير 2021 في مجلة "طب الطبيعة"(Nature Medicine)تحت عنوان: "استطلاع دولي حول تقبل اللقاح الخاص بكوفيد_19"، حيث أَجرتْ الدراسة استطلاعاً للرأي في 19 دولة لقياس مدى قبول الناس للقاح، وقد خلصت الدراسة على أن 71.5% من الذين استُطلعتْ آراؤهم أفادوا بأنهم قد يتلقون اللقاح إذا ثبت بأنه آمن وفاعل ضد الفيروس، و 48.1% منهم قالوا بأنهم سيأخذون اللقاح في حال وجود توصية من جهة أعمالهم.

 

فربما هناك عدة أسباب تقف وراء نشر المعلومات المضللة، والأرقام الخاطئة، والاشاعات المغرضة حول فيروس كورونا، وبكل ما يتعلق به في منصات وسائل الاتصال الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام والنشر. وأود هنا التركيز على عاملين فقط، فالأول هو أن هذا الفيروس أخذ الإنسان على حين غرة، فنزل عليه فجأة واحدة دون سابق إنذار ودون أن يستعد له الإنسان لمواجهته والتصدي له، فانتشر في المجتمعات البشرية في كل شبرٍ صغير وكبير من دول العالم، سواء أكان قريباً من المستوطنات البشرية، أو بعيداً عنها في القطبين الشمالي والجنوبي، وفي أدغال الأمازون، وفي الصحاري القاحلة والنائية، كما أن هذا الفيروس بدأ غريباً وغامضاً منذ أن تم اكتشافه في ديسمبر 2019 وعاد غريباً تحيطها الأسرار كما كان عليه يوم ولادته. فمازال العلماء لا يُجمعون على مكان ولادته ومسقط رأسه ومنشأه، ومازال العلماء لا يجمعون على بروتوكول علاجي وخارطة طريق واحدة تُعْطي للمريض منذ إصابته وحتى الانتهاء من علاجه، ومازالت فاعلية بعض أنواع اللقاحات سرية والمعلومات شحيحة حولها وغير منشورة في المجلات العلمية المتخصصة، ومازال العلماء يتخبطون في تكرار أخذ جرعات اللقاح، فهل هي مرة، أو مرتين، أو مرة كل سنة، وهل تعطى للأطفال، وما هي نوعية اللقاح الذي يقي الإنسان؟ كذلك المسافة الآمنة للتباعد الاجتماعي، هل هي متراً واحداً أم مترين؟ فعدم الإجماع على هذه المعلومات الأساسية تثير الريبة عند الناس، وتؤدي إلى خلق الشكوك حول كل ما يتعلق بالفيروس، ثم التردد، أو العزوف كلياً عن أخذ اللقاح للحماية منه، كما تسمح في الوقت نفسه لكل من هبَّ ودب أن يفتي ويقدم الآراء والمعتقدات حول الفيروس والمرض، وينشر هذه الآراء الخاطئة والمضللة إلى الناس.

 

وأما العامل الثاني فهو عدم وجود جهة علمية دولية موثوقة، ومستقلة، وموضوعية تقوم بشكلٍ دوري بنشر المعلومات العلمية الموثقة المستندة إلى الأبحاث والدراسات، لكي تقطع الطريق أمام المعلومات الأخرى المضللة وغير العلمية. فمنظمة الصحة العالمية من المفروض أن تلعب هذا الدور، ولكنها منظمة دولية تخضع لمصالح وأهواء الدول العظمى المتنفذة ولا تستطيع الابتعاد عن سياساتها، وهذه الدول الكبرى هي التي لها الرأي الأخير عند اتخاذ القرار. وعلاوة على ذلك، فإن المنظمة نفسها أثارت الشكوك عند الناس، وفقدت مصداقيتها، وتزعزعت ثقة الناس بها عندما كانت تغير رأيها ومواقفها بين الحين والآخر حول مصدر الفيروس، وطرق العلاج، والجرعات المطلوبة من اللقاح، ووسائل وأدوات الحماية منه. وهناك مثال بسيط جداً أستطيع أن أُقدمه لكم، وهو متعلق بلبس الكمامة، وارتداء الواقي وغطاء الوجه.

  

فالكمامة التي تُعد الآن خط الدفاع الأول ضد الفيروس، وواحدة من أهم أدوات ووسائل منع الفيروس من الدخول في جسم الآن، واجهت عدة مراحل من القبول والرفض، ومن التشكيك في دوره وقدرته على حماية عامة الناس، وانتشرت الكثير من المعلومات حول الكمامة، بين مهاجمٍ على عدم فاعليته وتأثيره، وبين مدافع عن قوته في ردع الفيروس، وبين من يدَّعي فقط استخدام الطاقة الطبي لهذه الكمامة والأشخاص المصابين بالمرض.

 

فمنظمة الصحة العالمية نفسها لم يكن لها موقف محدد وواضح وثابت حول لبس الكمامة منذ اكتشاف الوباء، ففي المرحلة والأيام الأولى من الوباء لم تحث المنظمة، ولم تشجع عامة الناس على ارتدائها في الأماكن العامة والمغلقة، وأفادت بعدم وجود دليل علمي يؤكد فاعليتها في حماية الإنسان من الفيروس. ولكن بعد قرابة سبعة أشهر من ظهور الفيروس، وبالتحديد في السادس من يونيو 2020 قدَّمت المنظمة رأياً جديداً، وموقفاً مغايراً عما كان عليه في السابق، فحثت الناس على ارتداء الكمامة في الأماكن العامة، وأوصت بلبسها للحد من انتشار الفيروس، كما دعت الحكومات إلى تعميم لبس الكمامة على الناس. وقد برَّرت المنظمة موقفها الجديد من الكمامة إلى نشر دراسات جديدة تفيد بأن الكمامة نجحت في أن تُشكل حاجزاً منيعاً أمام الرذاذ المنطلق من الشخص المصاب الذي يحمل العدوى، أي أن الكمامة تقي الإنسان من الفيروس.

 

فوسط هذا الجو الغامض المحيط بالفيروس، وعدم وجود رأي دولي موحد حول المرض والفيروس المسبب له، تنشأ المعلومات المضللة، وتجد فيه البيئة الخصبة والمناسبة لكي تنمو، وتزدهر، وتنتشر عند عامة الناس.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق