الأربعاء، 21 يوليو 2021

نظرية تسرب الفيروس تظهر من جديد


بالرغم من مرور أكثر من 21 شهراً على انكشاف هذا الوباء الفيروسي العقيم في مدينة ووهان في الصين، إلا أن أسرار وغموض هذا الفيروس ومصدره ومسقط رأسه أكثر من علم الإنسان ومعرفته بالحقائق الموثوقة حوله وبالأدلة القاطعة التي تؤكد كيفية وصوله إلى الإنسان. فالنظريات حول هذا الفيروس الغامض أكثر من الحقائق، والفرضيات التي تَظْهر بين الحين والآخر لتفسير منشأ الفيروس أكثر مما يجمع عليه العلماء كحقائق علمية لا جدال فيها.

 

فمنذ دخول فيروس كورونا إلى عالم البشر، وبالتحديد منذ ديسمبر 2019 حسب معظم الفرضيات، فالنظرية الرسمية السائدة والمعترف بها دولياً هي أن ولادة الفيروس كانت في سوق هونان للأحياء البحرية في مدينة ووهان الصينية، ومن هناك انتقل عبر الخفاش، أو حيوان آخر وسيط إلى الإنسان. ولكن هذه النظرية لم تصمد طويلاً أمام المجتمع العلمي الدولي، فبدأت نظرية المؤامرة، أو فرضيات أخرى تخرج فوق السطح، وبخاصة بعد أن ماطلت الصين في السماح لفريق التحقيق الدولي لمنظمة الصحة العالمية من الدخول إلى الصين، وعملت عمداً على تأخير موعد وصول الفريق والبدء في مهمة التحقيق والبحث عن مسقط رأس ومنشأ الفيروس. فهذه الممارسات من الصين رفعت مستوى الشك في نظرية نشوء الفيروس من سوق الأحياء البحرية، وزادت من تبني العلماء ورجال السياسة للنظريات الأخرى، وبالتحديد نظرية تسرب الفيروس من مختبر "معهد ووهان لعلم الفيروسات".

 

فقد جاءت استنتاجات التقرير الختامي لفريق التحقيق الدولي التابع لمنظمة الصحة العالمية في 30 مارس 2021 متوافقة مع الرأي السائد حول الفيروس، ولكن في الوقت نفسه دون إغلاق الباب كلياً أمام نظرية احتمال تسرب الفيروس من المختبر في الصين، ودون إهمال هذه النظرية وتجاهلها تماماً، حيث قدَّم التقرير إشارة إليها، فجاء فيه بأن نظرية التسرب هي الأقل ترجيحاً، وأنها "جداً غير محتملة". كما جاءت إشارة أقوى، وأكثر وضوحاً حول نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان من المدير العام للمنظمة عندما قال بأنه بالرغم من أن التسرب في المختبر هو السبب الأقل احتمالاً، إلا أن هناك حاجة لمزيد من البحث المكثف، ومن التحقيق الدقيق لاستبعاده، كما أضاف بأنه: "فيما يتعلق بمنظمة الصحة العالمية فإن جميع الفرضيات مطروحة على الطاولة".

 

أما الإشارة الأكثر صراحة والأبعد عن اللغة الدبلوماسية المعهودة، والأشد توجهاً نحو احتمالية وقوع التسرب المخبري للفيروس والدعوة إلى البحث بفاعلية فيها، فقد وردت أيضاً على لسان مدير عام منظمة الصحة العالمية، حيث اعترف في 15 يوليو من العام الجاري في مؤتمر صحفي عُقد في برلين بأنه كان من المبكر والسابق لأوانه استبعاد نظرية تسرب فيروس كورونا من أحد المختبرات الصينية، أي بعبارة أخرى فإن منظمة الصحة العالمية لا تستبعد فرضية العلاقة بين نزول وباء كوفيد_19 وهروب الفيروس من المختبر. فقد قال مدير عام المنظمة:" "كانت هناك ضغوط سابقة لأوانها لاستبعاد فرضية أن الفيروس تسرب من مختبر حكومي صيني في ووهان". كما حث الصين، ولأول مرة يجرؤ مدير عام المنظمة على ذلك، قائلاً: "المنظمة تسأل الصين لتكون أكثر شفافية وأشد انفتاحاً وتعاوناً، خاصة بالنسبة للمعلومات الأولية والبيانات الأساسية التي طلبناها في الأيام الأولى من انكشاف الوباء". كذلك قال أيضاً في هذا اللقاء مُشيراً إلى تجربته الشخصية في العمل في المختبرات الحيوية بأن: "حوادث المختبرات قد تقع، وهي شائعة، ومن المهم النظر في مختبراتنا لمعرفة ما حدث، فنحن نحتاج إلى معلومات، معلومات مباشرة حول وضع المختبر وحالته قبل وعند بدء الوباء".

وعلاوة على هذا التصريح الفريد من رئيس المنظمة والذي أغضب الصين كثيراً، فقد جاءت دعوات أخرى من المنظمة للتحقيق في نظرية التسرب وأصل هذا الفيروس الغامض، حيث دعا مدير عام المنظمة في لقائه مع مندوبي الدول الأعضاء في المنظمة في 16 يوليو إلى تنظيم زيارة أخرى للصين للتدقيق في أنشطة المختبر، ومحاولة معرفة منشأ الفيروس، كما حدد خمس أولويات للتحقيق، من بينها التدقيق على المختبرات ومعاهد الأبحاث الموجودة في منطقة خروج الحالة الأولى للمرض في ديسمبر 2019، إضافة إلى دراسة أسواق الحيوانات في مدينة ووهان التي انكشف فيها المرض، كما أعلن المدير العام عن تشكيل مجموعة استشارية علمية دولية دائمة حول منشأ الأمراض الجديدة"( International Scientific Advisory Group for Origins of Novel Pathogens (Sago))، وذلك حسب ما ورد في صحيفة الجارديان والمحطة الإخبارية الأمريكية سي إن إن في 16 يوليو.

وقبل هذه الدعوات والتصريحات الصريحة والقوية من منظمة الصحة العالمية حول إمكانية هروب فيروس كورونا من مختبر الفيروسات في ووهان، فقد كانت هناك عدة تصريحات واضحة من رجال الحكم والسياسة وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي السابق ترمب، حيث أعلن في الأول من مايو 2020 من البيت الأبيض بأن الفيروس نتج من مختبر صيني، ولكن دون تقديم أي دليل يُثبت ادعاءه، ولكنه قال في إجابته على أحد الصحفيين أثناء اللقاء في البيت البيض: "لا أستطيع إخبارك بذلك، ليست لدي الصلاحية لإخبارك". كما سمعتُ صدى صوت هذه التصريحات من مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق عندما قال في لقائه مع "إي بي سي" بأن هناك "عدداً هائلاً من الأدلة" على أن فيروس كورونا تسرب من مختبر في مدينة ووهان. وجدير بالذكر فإن هذه التصريحات من الحكومة الأمريكية لا تتماشى ولا تتفق مع استنتاجات أجهزة المخابرات الأمريكية. فقبل اللقاء في البيت الأبيض، أصدر مكتب مدير المخابرات القومية بياناً بأن مجتمع المخابرات في الولايات المتحدة الأمريكية وصل إلى استنتاج بأنه: "يتوافق مع الإجماع العلمي بأن الفيروس المسبب لمرض كوفيد_19 لم يكن من صنع البشر أو محور جينياً"، كما جاء في البيان بأن: "مجتمع المخابرات سيستمر في فحص وتدقيق المعلومات لتحديد ما إذا كان الوباء نشأ من التعرض لحيوانات معدية، أو نتيجة لحادث وقع في المختبر في ووهان".

ونتيجة لهذا التضارب في الآراء حول مصدر الفيروس بين الحكومة الأمريكية وأجهزة المخابرات، فقد أمر الرئيس بايدن في 26 مايو 2021 كافة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لمراجعة نظرية التسرب وجمع المعلومات حولها، كما طلب منهم مضاعفة الجهود وتقديم التقرير في غضون 90 يوماً، أي في نهاية أغسطس من العام الجاري. وجدير بالذكر فإن وسائل الإعلام الأمريكية بدأت بتسريب بعض المعلومات المتداولة بين الأجهزة الأمنية المكلفة ببحث نظرية التسرب، حيث أفادت الـ سي إِن إِن في 16 يوليو من العام الجاري بأن بعض المسؤولين في إدارة بايدن المتابعين لأعمال الأجهزة الأمنية، يميلون الآن نحو الاقتناع بمصداقية نظرية تسرب الفيروس من معهد ووهان لعلم الفيروسات.

 

والآن لو ثبتت بالفعل علمياً نظرية تسرب الفيروس من المختبر الصيني، فستظل هناك ألغاز أخرى وأسرار غامضة لا بد من كشف الغطاء عنها، مثل: هل كان هذا الفيروس موجوداً طبيعياً وتسرب عرضياً، أي عن طريق وقوع حادثٍ غير متعمد من المختبر؟ أو هل هذا الفيروس تم التلاعب فيه باستخدام تقنية الهندسة الوراثية، فتم تحويره جينياً، ثم تسرب بالخطأ من المختبر؟ أو هل هذا الفيروس جزء من الأسلحة البيولوجية التي تجربها الصين، أو أية دولة أخرى؟

 

فالقضية إذن معقدة، ومتشابكة، وليست علمية كلياً، وإنما دخلت فيها التجاذبات والأهواء والمصالح السياسية بين منظمة الصحة من جهة، وبين الصين والدول الغربية وعلى رأسها أمريكا من جهة أخرى، وفي تقديري فلن تظهر الحقيقة أبداً حول هذا الفيروس، وستبقى القضية غامضة ويحيطها المجهول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق