الاثنين، 12 يوليو 2021

التلوث لا يموت!


ربما تتذكرون قضية إضافة مركبات الرصاص العضوية مثل رباعي إيثيل الرصاص ورباعي ميثيل الرصاص إلى وقود السيارات، وبالتحديد إلى الجازولين أو المعروف بالبنزين، وذلك بهدف رفع فاعلية محرك السيارة، وزيادة كفاءة التشغيل، وتحسين أداء الوقود، ولكن بعد أكثر من خمسين عاماً من إضافة مركبات الرصاص، تأكد للعلماء وأجمعوا على أن هناك أضراراً صحية كبيرة تظهر على الإنسان، وبخاصة الأطفال والشباب وتنجم عن الرصاص بعد انبعاثه من عوادم السيارات، مما أدى إلى منع إضافته في البنزين منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم في بعض دول العالم المتقدم والصناعي، ثم تبعته دولنا بعد أكثر من عشرين عاماً، والآن معظم دول العالم تُنتج البنزين الخالي من الرصاص.

 

ولذلك من المفروض، ومن المنطق أن مع إزالة الرصاص من وقود السيارات، وهو المصدر الرئيس للرصاص في الهواء وفي تربة الشوارع المزدحمة، يكون تركيزه آخذ في الانخفاض تدريجياً مع الزمن، حتى ينتهى وجوده في الهواء الجوي وفي تربة الشوارع بشكلٍ كلي. ولكن هذه الفرضية أثبت العلماء عدم مصداقيتها، وعدم واقعيتها، فالرصاص الذي كان يُضاف إلى جازولين السيارات ثم توقفت عملية إضافته قبل عدة عقود، مازال يسرح ويمرح في بيئتنا، وبخاصة في الهواء الجوي وفي غبار وتربة الشوارع.

 

فالدراسات الميدانية التي أُجريت مؤخراً، وبالتحديد الدراسة المنشورة في 29 يونيو 2021 في مجلة أمريكية إسمها وقائع الأكاديمية القومية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Sciences) والتي قامت بها "كلية إمبريال" اللندنية المشهورة، مع جامعات ومراكز أبحاث من عدة دول حول العالم، تحت عنوان: "دليل دامغ حول الإسهام المستمر للرصاص المترسب على التربة في القرن المنصرم إلى الهواء الجوي في لندن اليوم"، أكدت بأن هذا الرصاص القديم الذي كان يوضع في جازولين السيارات موجود بتراكيز مرتفعة نسبياً في هواء وتربة شوارع لندن بعد أكثر من نحو ثلاثين عاماً من التخلص التام منه!  

 

فبالرغم من أن تركيز الرصاص الناتج من عوادم السيارات في الهواء انخفض بدرجة ملحوظة في شوارع لندن، حسب نتائج هذه الدراسة، إلا أن جسيمات الرصاص مازالت موجودة في الهواء بنسب أعلى من المستوى "الطبيعي"، وأعلى من تركيز الرصاص في الهواء في المناطق التي لا تزدحم فيها المركبات. فالدراسة عن طريق البحث في نظائر الرصاص ومقارنة تركيز الرصاص في السنوات الماضية، أفادت بأن 40% من نسبة الرصاص في الهواء الجوي الحالي في لندن مصدره الرصاص الذي كان يوضع في الجازولين قبل زهاء 30 عاماً، أي أن الرصاص مازال حياً ينبض بالحياة، ومازال يؤثر على الصحة العامة، ويضر بسلامة الناس. كما أن الدراسة تؤكد على حقيقة "دورة الرصاص"، فالرصاص الذي كان ينبعث من السيارات، انتقل إلى الهواء الجوي وكوَّن جسيمات الرصاص المتناهية في الصغر، ثم ظل عالقاً في الهواء حتى زاد وزنه مع الوقت فترسب إلى الأرض، إما بالترسب الجاف أو الرطب مع الأمطار والثلوج، وبدأ يتراكم في غبار وتربة الشوارع، ثم عن طريق الرياح والحركة المرورية للسيارات في الشوارع تطاير مرة ثانية إلى الهواء، وهكذا تتكرر وتتواصل دورة الرصاص، ويبقى خالداً مخلداً في بيئتنا.

 

وظاهرة خلود بعض الملوثات في مكونات بيئتنا لا تنطبق على الرصاص فحسب، وإنما على الكثير من أنواع الملوثات الأخرى. فبشكلٍ عام، فإن المواد الكيميائية عندما تدخل في عناصر بيئتنا من ماءٍ وهواء وتربة، فإن بعضها يتحلل عن طريق الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في البيئة، والبعض الآخر يتحلل تحت تأثير الضوء والحرارة والرطوبة والعوامل المناخية الأخرى، ولكن البعض الآخر من الملوثات لا يتحلل كلياً فيبقى مئات، أو آلاف السنين دون أن يطرأ عليه أي تغيير، فيتراكم في البيئة، ويُشكل ظواهر بيئية تهدد حياة الإنسان والكرة الأرضية برمتها. فعلى سبيل المثال، ظاهرة الاحتباس الحراري، أو التغير المناخي تنتج من انطلاق ملوثات كثيرة على رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يبقى فترة طويلة دون أن يتحلل، فينتقل إلى السماء العليا ويُكون طبقة عازلة تمنع انتشار الأشعة تحت الحمراء التي تنعكس من سطح الأرض من العُروج في أعالي السماء، فتقوم بحبس هذه الحرارة في تلك الطبقة، مما يؤدي إلى سخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها وحدوث التغيرات المناخية.  

 

ومن جانب آخر هناك من هذه الملوثات المستقرة وغير المتحللة التي تعرج في السماء العليا فتؤثر على الطبقات المرتفعة فوق سطع الأرض، مثل طبقة الأوزون، أو طبقة الاستراتسفير وتوقع أضرارها هناك، مثل مركبات الفلورين العضوية المعروفة بالفريون أو مركبات الـ سي إف سي التي لا يحدث عليها أي تغيير في طبقات الجو السفلى كطبقة التروبسفير، وإنما تتحلل في طبقة الأوزون المرتفعة، وتحدث خللاً عظيماً في تلك الطبقة، وينجم عنه انخفاضَ تركيز غاز الأوزون الذي يعمل على امتصاص الأشعة البنفسجية القاتلة ويمنعها من الوصول إلى سطح الأرض.

 

كذلك هناك من الملوثات التي بعد انطلاقها إلى الهواء الجوي، أو إلى المسطحات المائية تقوم بالتحول إلى ملوث آخر أشد شراسة وأكبر فتكاً بصحة الإنسان كالزئبق الذي يتحول من الزئبق اللاعضوي إلى الزئبق العضوي في التربة القاعية للبحر، وهناك يبدأ رويداً رويدا في التراكم في السلسلة الغذائية البحرية حتى يصل إلى الإنسان عندما يتغذى على الأسماك الملوثة، فيُوقع له كارثة بيئية عقيمة، ككارثة مرض ميناماتا الذي نزل على الشعب الياباني في الخمسينيات من القرن المنصرم. وفي حالات أخرى يتفاعل الملوث الذي ينتقل إلى الهواء مع ملوثات أخرى موجودة في الهواء فيكون ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، التي هي عبارة عن سحب صفراء بارزة للعيان ولا يمكن أن تخفى على أحد، وتحتوي هذه السحب على خليط سام وقاتل من عشرات الملوثات، فتكشف عن نفسها في طبقات الجو السفلى التي يتعرض لها الإنسان.  

 

فكل هذه الأمثلة الحية الواقعية تحذرنا وتنبهنا إلى ضرورة التعامل السليم مع الملوثات، وإدارتها بطريقة مستدامة، وتجنب صرفها إلى البيئة إلا بعد معالجتها والتخلص منها كلياً قبل ولوجها إلى مكونات بيئتنا، فهي إذا دخلت إلى بيئتنا فلن تموت أبداً، وستصل إلينا عاجلاً أم آجلاً، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق