الخميس، 24 مايو 2018

سياحة من نوعٍ جديد


في عام 1992 عندما زرتُ اليابان كُنت حريصاً جداً وأتوق شوقاً ورغبة إلى زيارة موقعٍ تاريخي عظيم سمعتُ عنه الكثير في وسائل الإعلام، وقرأتُ حوله المئات من الدراسات والأبحاث العلمية التي بيَّنت مكانة هذا الموقع الأثري في قلوب ونفوس اليابانيين خاصة، والبصمات العميقة التي تركها في أرشيف المجتمع الدولي عامة.

هذا الموقع الأثري البيئي كان في منطقة بحيرة ميناماتا المشهورة التي نزلت عليها كارثة بيئية صحية في الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت آثارها وتداعياتها بارزة وماثلة أمام الشعب الياباني، فقد أصبحت هذا الطامة الكبرى مخلدة في ذاكرة وكتب التاريخ الياباني المعاصر كالحروب العالمية التي دخلت فيها اليابان، فانعكاساتها لم تعد بيئية وصحية فحسب وإنما تحولت إلى حدثٍ سياسي سنوي يُحتفل به كل سنة منذ أكثر من خمسين عاماً، وشيِّد من أجلها نُصب تذكاري خاص بضحايا هذه الكارثة العصيبة.

فقد تمثلت هذه المصيبة العصيبة في صرف أحد المصانع لمخلفات الزئبق في البحيرة، ومع الزمن بدأ الزئبق السام في التراكم في مكونات البحيرة بدءاً من الكائنات النباتية العالقة، ثم الكائنات الحيوانية الصغيرة، ومنها انتقل هذا العنصر الخبيث الخطر إلى الأسماك بحيث بلغ عندئذ مستويات مرتفعة حرجة، ووصلت أخيراً إلى الإنسان الذي أكل هذه الأسماك السامة، فتعرض جسمه لمرض غريب قاتل لم يعرفه الطب من قبل، وزاد مع الزمن أعداد هؤلاء المرضى عندما انتقل السُم من الآباء إلى الأبناء والأحفاد، أي من جيلٍ إلى آخر، حتى إنك ونحن في عام 2018 تجد بعض اليابانيين الذي يحملون هذا السم في أعضاء أجسامهم بعد مرور أكثر من ستين عاماً.

فقد أصبح الآن زيارة مواقع الكروب العظيمة والحوادث البيئية المؤلمة نوعاً مهماً ومستجداً من أنواع السياحة التي تجذب الناس عامة، والمهتمين والمختصين بالشأن البيئي والصحي عامة. فهناك اليوم موقع احتراق المفاعلات النووية في مدينة تشرنوبيل في أوكرانيا التي عانت، بل وكل دول العالم عانت من أكبر وأوسع تسربٍ نووي للمواد المشعة في العالم في 26 أبريل من عام 1986، فآثارها وانعكاساتها مازالت باقية حتى يومنا هذا، وستظل باقية آلاف السنين. فهذا الموقع الأثري البيئي تحول الآن إلى مزارٍ سياحي يقصده عشرات الآلاف من البشر، حيث أكدت التقارير المنشورة في مايو من العام الجاري بأن عدد زوار منطقة كارثة تشرنوبيل بلغ نحو 50 ألف زائر في عام 2017، وبارتفاع مشهود بلغ 35% عن عام 2016، وهذه الأعداد المتزايدة من السياح أنعشت الاقتصاد المحلي وخلقت العديد من الوظائف وفرص العمل الجديدة لسكان المدينة، إضافة إلى شركات الطيران التي فتحت خطوطاً جديدة خاصة لزيارة هذا الموقع.

فكما أن الإنسان يزور الحدائق والمنتزهات والبحار والأسواق للترفيه عن النفس وقضاء وقت ممتع، أو أنه يزور الآثار التاريخية الثقافية للتعلم والاستفادة من الحضارات القديمة الغابرة، فإن السائح يمكنه زيارة الآثار والمواقع التي نزلت عليها كوارث تلوثٍ بيئي، فيتعظ منها، ويعتبر من الوقوف قريباً أمامها.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق