الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

من سيُوفر اللقاح لنحو 7.8 مليار إنسان؟

سباقان دوليان سريعان نشاهدهما الآن أمامنا لمواجهة الريح الفيروسية الصرصر العاتية التي هبَّت على المجتمع البشري برمته. فالسباق الأول المحموم جداً وشديد التنافسية وغير المسبوق في التاريخ بين دول العالم ويحقق النجومية والمجد والثراء لمن يفوز به ويصل أولاً إلى خط النهاية، هو سباق ضد الوقت لمكافحة مرضٍ عصيب يشتكي منه حتى اليوم أكثر من 18 مليون إنسان، وأدخل قرابة 700 ألف إلى مثواهم الأخير، فلذلك هو سباق لتطوير وإنتاج اللقاح الآمن والسليم والفاعل لحماية الجنس البشري من الوباء الفتاك الذي مسَّ جسد كل كائنٍ حي يسير على وجه الأرض.

 

والسباق الثاني فهو أيضاً بين دول العالم، ولكن معظم المتسابقين والمتنافسين الرئيسين هم من الدول الغنية والدول الصناعية المتقدمة والمتنفذة التي تسير سفينة الكرة الأرضية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، واليابان. فهذا السباق بدأ واشتد حتى قبل إعلان صفارة البدء في السباق، حيث استحوذت واحتكرت الدول الثرية المتطورة معظم اللقاحات المستقبلية الواعدة التي مازالت في طور التطوير والتجارب السريرية، والتي قد تكون لها القدرة على إنهاء السباق والوصول إلى خط النهاية.

 

فحسب المقال المنشور في مجلة "العلمي الأمريكي"(Scientific American) في 31 يوليو من العام الجاري، هناك نحو 150 لقاحاً تحت التطوير في دول العالم، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، وأستراليا.

 

فجامعة أكسفورد البريطانية بالتعاون مع شركة أسترازينيكا السويدية(AstraZeneca) تُطوران لقاحاً دخل المرحلة السريرية الثالثة والأخيرة من التجارب تحت إسم(ChAdOx1 nCoV-19)، حيث أستُخلص الفيروس الذي يسبب الإنفلونزا للقردة، وتمت إضافة جينات من فيروس كورونا(SARS-CoV-2) المسبب لمرض كوفيد_19 (COVID-19) ، ثم أُجريت تعديلات جينية لهذا الخليط وجَعْلْ الفيروس ضعيفاً وغير نشط وليس له القدرة على العدوى والإصابة بالمرض.

كما بلَغتْ شركة مودرنا(Moderna) في مدينة كامبريدج بولاية ماساشوستس الأمريكية في 27 يوليو المرحلة الثالثة من تطوير لقاحها(mRNA-1273) باستخدام جينات من الفيروس(mRNA) وحقنه في الخلايا البشرية، بعد أن أجْرَتْ التجارب الأولى على القردة وأثبت فاعليته وسلامته. كذلك أعلنت شركة فايزر(Pfizer) لصناعة الأدوية في نيويورك بالتعاون مع شركة بيونتك الألمانية(BioNTech)في 27 يوليو عن البدء في المرحلتين الثانية والثالثة من لقاح اسمه (BNT162b2) وفحص أكثر من  30 ألف من 39 ولاية أمريكية ومن البرازيل. كذلك أفادت شركة نوفافكس للأدية(Novavax) في ولاية ميريلاند عن البدء في إجراء التجارب على لقاح ( NVX‑CoV2373). وهناك أيضاً شركة جونسون و جونسون التي أجرت تجارب ناجحة على القردة في مركز علم الفيروسات وأبحاث اللقاح في بوسطن في 30 يوليو حسب المنشور في مجلة "الطبيعة". وهناك في الوقت نفسه لقاحات تُطور في دول أخرى، فشركة سانوفوي الفرنسية بالتعاون مع شركة بريطانية (GlaxoSmithKline) تعملان على تطوير لقاح جديد، وشركات صينية وصلت إلى مراحل متقدمة في تطوير اللقاحات، مثل سينوفاك(Sinovac) التي أَسمتْ لقاحها(CoronaVac) بالتعاون مع البرازيل(research center Butantan)، وشركة سينوفارم(Sinopharm) التي تعمل على لقاح اسمه(CanSino) بالتعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة.

 

وفي المقابل قال وزير الصحة الروسي في الأول من أغسطس بأنهم سيبدؤون التطعيم التجريبي على الروس بأعداد كبيرة في أكتوبر بعد أن انتهوا من التجارب السريرية في موسكو، علماً بأن هذه اللقاحات الروسية قام بتطويرها معهد(Gamaleya center)بالتعاون مع وزارة الدفاع وشركة(BIOCAD)، إضافة إلى مختبر فيكتور للأبحاث (Vektor state research laboratory)في مدينة نوفوسيبرسك(Novosibirsk).

 

فكل هذه اللقاحات التي مازالت جميعها في مرحلة التجربة قد حُجزت مسبقاً قبل أن ينتهي السباق، وتم دفع ثمنها غالياً ومقدماً من الدول الثرية المتقدمة المهيمنة على العالم. فعلى سبيل المثال، دشنت الولايات المتحدة الأمريكية في 15 مايو مبادرة أُطلق عليها عملية السرعة الكبيرة(Operation Warp Speed) لمواجهة كورونا، وخصصت نحو 10 بلايين دولار لشراء أكبر كمية ممكنة من الجرعات بحلول يناير 2021، منها صفقة بقيمة بليون دولار لشركة جونسون و جونسون لتوفير مائة مليون جرعة، وشركة نوفافكس تلقت دعماً بقيمة 1.6 بليون دولار للحصول على مائة مليون جرعة من لقاحها، كذلك لقاح جامعة أكسفورد نال دعماً بـ 1.2 بليون قيمة مائة مليون جرعة، إضافة إلى دعم شركة فايزر بمبلغ 1.95 بليون دولار قيمة مائة مليون جرعة، وشركة موديرنا بمبلغ 1.3 بليون من أجل توفير 500 مليون جرعة.

كذلك أعلنتْ الحكومة البريطانية في 28 يوليو بأنها عقدت صفقة مع شركة سانوفي الفرنسية قيمتها 2.1 بليون دولار لتوفير مائة مليون جرعة، علماً بأنها دفعت أيضاً لثلاث شركات أخرى تُطور اللقاحات من أجل الاستحواذ عليها. وعلاوة على ذلك فإن الاتحاد الأوروبي استحوذ على 300 مليون جرعة للدول الأعضاء في الاتحاد ودفع قيمتها مقدماً، إضافة إلى اليابان التي حجزت حصتها من اللقاحات الواعدة من شركة فايزر وعددها 120 مليون جرعة ومن لقاح جامعة أكسفورد مائة مليون جرعة، حسب تقرير صحيفة اليابان تايمس في السابع من أغسطس.

 

ولذلك فالحقائق التي أُشاهدها أمامي تؤكد لي بأن دول العالم النامي والدول الفقيرة التي لا نفوذ دولي ولا وزن واقعي لها، ستكون حتماً في مؤخرة سباق الحصول على جرعات مكافحة فيروس كورونا، وستكون حصة الأسد، إن لم تكن الحصة كلها للدول الغنية التي دفعت من الآن واشترت الجرعات اللازمة لشعوبها.

 

 ولمواجهة هذه الظاهرة المؤسفة والمحزنة التي تكررت في التاريخ الحديث المعاصر مع أوبئة أخرى مثل مرض الإيدز وأنفلونزا الخنازير وغيرهما والتي حصلت فيها الدول الغنية على الدواء الشافي قبل الدول الفقيرة بسنواتٍ طويلة فمات الملايين من الناس بسبب عدم قدرتهم على شراء الدواء الباهظ الثمن، فقد أُطلقتْ عدة مبادرات من منظمة الصحة العالمية ومنظمات أخرى دولية لتجنب تفاقم تداعيات هذه الكارثة الصحية العقيمة على الشعوب الفقيرة. ومن هذه المبادرات نظام "كوفاكس" لتسهيل وتسريع توزيع اللقاح بشكلٍ عادل على دول العالم، وبخاصة الدول النامية والمستضعفة التي لا نفوذ لها على المستوى الدولي(COVID-19 Vaccines Global Access (COVAX))، كذلك إتلاف اللقاح الدولي(GAVI)، وإتلاف ابتكارات الاستعداد لمواجهة الأوبئة(CEPI).

 

فبالرغم من هذه المبادرات الدولية الخجولة والناقصة والتي تحتاج إلى دعمٍ مالي كبير، إلا أن أزمة عدم حصول الفقراء على اللقاح ستظل قائمة لعدة أسباب واقعية. أما السبب الأول فإن الأولوية لتوفير الجرعات من اللقاح بعد اعتمادها من قبل الجهات المعنية في كل دولة ستكون للدول المتقدمة والغنية التي حجزت البلايين من الجرعات ودفعت مقدماً قيمتها من الآن. والسبب الثاني فإن شركات إنتاج اللقاح لها قدرة سنوية محدودة على إنتاج وتوفير الجرعات للسوق الدولية، وهذه قد لا تكون أصلاً كافية لتغطية كافة حجوزات وطلبات الدول المتقدمة والتي لا ينقصها المال لشراء هذه الجرعات مهما كانت الأثمان، علماً بأن عدد سكان العالم يبلغ حالياً نحو 7.8 بليون، وهذا يحتاج إلى عشرات السنين من الإنتاج المستمر لجرعات اللقاح حتى يشملهم كلهم. والسبب الثالث فيكمن في وجود مشكلات ومعوقات أخرى لها علاقة في فاعلية وسرعة وسائل توصيل اللقاحات، سواء بين دول العالم، أو داخل الدولة الواحدة، وبخاصة الدولة الواسعة المترامية الأطراف وفي المناطق الفقيرة النائية والبعيدة. فمن المعلوم بأن كورونا تسبب في تعطيل عمل وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية، وألحق بها أضراراً فادحة غير مسبوقة، كما أثر على طاقتها الاستيعابية وقدرتها على نقل البشر والبضائع والأدوية، حسب ما ورد في تحقيق وكالة البلومبرج في 27 يوليو، مما يعني تأخر وصول اللقاحات إلى الدول البعيدة والفقيرة.

 

فهذه الحالة الواقعية المتكررة في التاريخ تعني بأن على الدول النامية والفقيرة وعلى الشعوب الضعيفة الانتظار كالعادة سنواتٍ طويلة في نهاية الطابور وآخر الصف وفي مؤخرة الركب حتى يحين دورها في التطعيم ضد كورونا بعد أن تفرغ الدول المتطورة والغنية من تحصين ووقاية شعوبها من الوباء.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق