الخميس، 11 أبريل 2024

ظاهرة سرطانية جديدة لا تفسير لها!


من المعروف عند أطباء الأورام والسرطان بأن هذا المرض العقيم يصيب جميع البشر في مرحلة عمرية محددة ومتقدمة من حياتهم، وبخاصة عندما يبلغون من الكِبَر عتياً، ويشتعل رأسهم شيباً، فهناك اجماع قديم عند العلماء بأن السرطان مرض الشيوخ وكبار السن الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة.

 

ولكن هذا النمط في الإصابة والموت من السرطان بدأ يتغير خلال السنوات القليلة الماضية، فهناك الآن ظاهرة جديدة بدأت تظهر فوق السطح، وتتفشى في المجتمعات البشرية كلها، وتنكشف عند الأطباء بصفة خاصة، وتتمثل في ارتفاع أعداد المصابين بالسرطان من الشباب من متوسطي العمر بهذا المرض، وبالتحديد الذين ولدوا في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم. أي بعبارة أخرى قد وقع تحول غامض وغريب لا تفسير محدد له حتى الآن في نسبة الإصابة بالسرطان، إذ تحول من تعرض كبار السن والشيوخ للسرطان إلى الشباب والمتوسطين في العمر. وهذه الظاهرة أصبحت تحير العلماء والأطباء وكافة المعنيين بهذا المرض العضال، حيث شمَّروا جميعاً عن سواعدهم لمحاولة فك خيوط هذا اللغز الحديث، والولوج في أعماقه وتفاصيله، لعلهم يضعون أصابعهم على المتهم الرئيس في هذا التحول العمري للمرض.

 

وهناك الكثير من البيانات والإحصائيات، وبخاصة في بلد المعلومات والاحصائيات، الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، هناك التقرير السنوي الذي تنشره "جمعية السرطان الأمريكية"، إضافة إلى "المركز القومي للإحصائيات الصحية"، والتقرير الأخير جاء تحت عنوان: "احصاءات السرطان، 2024". فتشير التقديرات بأنه في عام 2024 ستكون هناك 2001140 حالة سرطان جديدة، ومن هؤلاء سيلقي  611720 نحبهم، كما يفيد التقرير بأن اجمالي عدد الوفيات من السرطان منذ عام 1991 حتى 2021 قد أخذ في الانخفاض بنسبة 33%، أي أن منحنى الوفيات من السرطان خلال الثلاثين عاماً الماضية في نزول مستمر في الولايات المتحدة. ويعزي الأطباء السبب في هذا الانخفاض الإجمالي إلى عزوف الكثيرين عن التدخين، إضافة إلى التشخيص المبكر للمرض، وتطور أساليب وإجراءات العلاج مثل العلاج المناعي والهرموني، وتوفر أدوية جديدة وأكثر فاعلية في العلاج والقضاء على الأورام السرطانية.

 

ولكن هذا الخبر السعيد والمشجع والتطور الإيجابي في انخفاض أعداد الوفيات من السرطان، تُعكر صفوه الإحصائيات الجديدة الأخرى التي تفيد بأن هناك في الوقت نفسه ارتفاعاً غامضاً بين الذين تقل أعمارهم عن 50 سنة، أي متوسطي العمر، في الإصابة بستة أنواع الأكثر شيوعاً من بين 10 أنواع من السرطان، منها الجهاز الهضمي أو القالون والمستقيم، والبروستات، والثدي، والحنجرة، والعنق، والجلد من نوع ميلانوما. فعلى سبيل المثال، حالات السرطان في الفترة من 2015 إلى 2019 ارتفعت بنسبة تراوح بين 0.6 إلى 1% سنوياً بالنسبة للثدي والبنكرياس والرحم والجلد، كذلك الحالات ارتفعت بنسبة 1 إلى 2% سنوياً بالنسبة لسرطان العنق(عمر المصابين 30 إلى 44)، والمستقيم والقولون(أقل من 55 سنة).

 

ومن أشد أنواع السرطان من ناحية أعداد المصابين والذين يقضون نحبهم في سنٍ مبكرة، وأكثرها غموضاً هو سرطان الجهاز الهضمي، أو سرطان القولون والمستقيم. فهذا النوع من السرطان بين أقل من 50 سنة، كان في التسعينيات من القرن المنصرم السبب الرابع للوفيات بين الرجال والنساء، والآن حدث تغير وتحول جذري غير مفهوم علمياً وطبياً، إذ أصبح هذا النوع هو السبب الأول للوفيات بين الرجال، والسبب الثاني بين النساء، علماً بأنني فقدتُ عزيزاً لي من أفراد عائلتي بسبب هذا المرض العضال ولم يتجاوز الأربعين من عمره. كما نُشر بحث في مجلة "المعهد القومي للسرطان" في 28 فبراير 2017 تحت عنوان: " أنماط حالات الإصابة بسرطان القولون والمستقيم في الولايات المتحدة، 1974 إلى 2013"، حيث أفاد بأن حالات الإصابة بسرطان القولون والمستقيم في انخفاض بشكل إجمالي، ولكن في المقابل حالات الإصابة بالمرض بين الشباب ومتوسطي العمر الذين هم أصغر من 50 سنة في ارتفاع مطرد.

 

ومن الأمور التي تحير الأطباء بصفة خاصة بالنسبة لهذا النوع من السرطان هي أن المصابين هم من الشباب الأصحاء الذين يتمتعون بصحة جيدة، ونمط حياة سليم، وأسلوب غذائي رفيع المستوى صحياً، ولا يعانون من أية تشوهات جينية وراثية!

 

وقد نُشرت القليل من الدراسات حتى الآن لسبر غور هذه الاحصائيات والمعلومات الجديدة، وتقديم التفسير العلمي لهذه الظاهرة الغامضة المتمثلة في زيادة حالات السقوط في فخ السرطان بين الشباب، والذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً.

 

فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في أكتوبر 2022 في مجلة "علم الأورام السرطانية"(Clinical Oncology) تحت عنوان:" هل يُعتبر السرطان المبكر وباءً عالمياً ناشئاً؟ الأدلة الحالية والآثار المستقبلية". فقد أفادت الدراسة بأن السرطان المبكر، أي الذي يتم تشخصيه قبل عمر 50 عاماً، أو عند الخمسين عاماً، قد زاد في معظم دول العالم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 2019، كانت نسبة التشخيص لأمراض السرطان 107.8 حالة لكل مائة ألف ممن أعمارهم أقل من 50%، وهذه النسبة أصبحت أعلى 12.8% في عام 2000.

 

وهذا البحث علاوة على الأبحاث الأخرى قدَّمت عدة تفسيرات نظرية لا دليل علمي عليها، ولا سند موثوق من التجارب السريرية، فهي عبارة عن محاولات أولية لإلقاء الضوء على مجموعة من التفسيرات التي قد تعطي مؤشرات على أسباب انكشاف هذه الظاهرة. ومن هذه التفسيرات أن هناك خللاً محدداً قد حدث في بيئتنا من حيث دخول مجموعة كبيرة من الملوثات الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل بمستويات مرتفعة جداً في الهواء والماء والتربة، فلم يتعرض لها الإنسان من قبل طوال سنوات حياته بجرعات عالية، ولم تدخل فتتراكم إلى أعضاء جسده ويرتفع تركيزها. ومن أهم هذه الملوثات المقلقة المستجدة هي المخلفات البلاستيكية، وبالتحديد الجسيمات البلاستيكية المتناهية في الصغر بحجم المايكرو والنانو، وهذه الجسيمات أصبحت الآن جزءاً من مكونات بيئتنا، وغزت واستقرت في كل عضو وكل خلية من أجسامنا، حسب اجماع الأبحاث العلمية، وقد تكون هذه الجسيمات البلاستيكية المجهرية هي المسؤولة عن احداث طفرات في الجينات ونمو الخلايا، وتَكَون الأورام التي تؤدي إلى ظهور السرطان المبكر في الأجيال الحالية.

 

كذلك من الأسباب التي يقدمها العلماء هي التغير في نمط وأسلوب الحياة من جيل إلى آخر من ناحية نوعية وكمية الغذاء، وشرب الخمر، وتدخين السجائر الإلكترونية الحديثة، وممارسة الأنشطة الرياضية، إضافة إلى ارتفاع معدل الإصابة بالسمنة والوزن المفرط، والذي بلغ قرابة مليار شخص، حسب الدراسة الدولية المنشورة في 29 فبراير 2024 في مجلة "اللانست"(The Lancet)، تحت عنوان:" الاتجاهات الدولية في حالات نقص الوزن والسمنة من عام 1990 إلى عام 2022: تحليل مجمع لـ 3663 دراسة ممثلة للسكان مع 222 مليون طفل ومراهق وبالغ". وهناك الكثير من الدراسات التي أوجدت بأن هناك علاقة بين البدانة ومخاطر الإصابة بالسرطان.

 

ومن أهم العوامل التي يقترحها الأطباء في نشوء وبزوغ ظاهرة السرطان المبكر هو حدوث تغيرات في محتوى النظام الميكروبي الطبيعي "ميكروبيوم" (Microbiome)، الموجود في الأمعاء خاصة، وفي جسم الإنسان عامة من الناحية النوعية والكمية، حيث يفيد العلماء بأنه قد تكون هناك علاقة بين هذا النظام الميكروبي والإصابة بالسرطان عند الشباب ومن هم في متوسط العمر.

 

وقد تكون أيضاً على حسب بعض التفسيرات، وجود مجموعة من هذه العوامل التي ذكرتُها، فتعمل مع بعض بشكل تعاوني في تدمير جسم الإنسان، فتعرضه مع الزمن للإصابة بالسرطان في سن مبكرة.

 

والأيام القادمة كفيلة بالكشف عن الأسباب الحقيقة وراء هذه الظاهرة المخيفة المستجدة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق