الخميس، 4 أبريل 2024

مرض هافانا: هل هو حقيقة أم أكاذيب المخابرات الأمريكية؟


منذ قرابة تسع سنوات واللغز العقيم المعروف بمرض هافانا الغريب الذي أصاب بعض الدبلوماسيين الأمريكيين يتعقد يوماً بعد يوم ويزداد غموضاً، وتتشابك خيوطه وتتأزم أكثر. فلا يعلم أحد حتى الآن عِلْم اليقين حقيقةْ وواقعية الأعراض المرضية التي أصابت هؤلاء الدبلوماسيين، كما لا يعلم أحد مصدر هذه الأعراض وسببها، فالنظريات التي تحاول سبر غور هذه الظاهرة الفريدة من نوعها وتقدم تفسيرات لمختلف جوانب هذا المرض تغيرت مع الوقت، بل وأصبحت متناقضة ومتضادة ولا اتفاق بينها.

 

واليوم، وبالتحديد في 31 مارس 2024 نقف أمام نظرية مثيرة جداً طرحتها وسائل إعلام مستقلة من روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا. فمن روسيا هي الصحيفة الإلكترونية(The Insider)، وهي مستقلة ومتخصصة في الصحافة الاستقصائية وتقصي الحقائق، ومن الولايات المتحدة المحطة الإخبارية العريقة "سي بِي إس" التي تبث برنامجاً معروفا هو "60 دقيقة"(60 Minutes)، ومن ألمانيا مجلة "دير شبيجل"(Der Spiegel). 

 

فهذا الفريق الإعلامي المستقل أجرى تحقيقاً سرياً استغرق عاماً كاملاً، اطلع فيها على وثائق سرية من روسيا، وسِجِلْ الهواتف النقالة لبعض رجال المخابرات العسكرية الروسية، إضافة على مقابلات وشهادات لبعض المتضررين والمتورطين في هذه الحالات الصحية الغريبة التي نزلت على بعض الدبلوماسيين الأمريكيين وعملاء المخابرات والعسكريين في عدة دول في العالم، بدءاً بالعاصمة الكوبية هافانا في مايو 2016، ثم في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، وألمانيا، والنمسا، والهند، وفيتنام، والصين، وجورجيا.

 

فهؤلاء المتضررون، والذين أصابتهم الحالة الصحية الغريبة والفريدة من نوعها كانوا في بداية الحالة يشتكون من تعرضهم لذبذبات عالية وحادة تصم الأذن، فتنعكس بعد ذلك على باقي الجسد مما يؤدي إلى الشكوى من مجموعة من الأعراض المختلفة كالصداع المزمن، والدوخة المزمنة، والشعور بالإرهاق، وفقدان السمع، والاكتئاب، وفقدان التوازن، وفقدان البصر.

 

ولذلك أُجري أخيراً هذا التحقيق لإلقاء الضوء على مصدر وأسباب هذا المرض العضال الذي لا يعرف العلماء والأطباء حتى الآن تفسيراً علمياً يشفي غليلهم ويرشدهم إلى الدليل الدامغ حول أسبابه. وقد توصل هذا التحقيق الصحفي إلى أن روسيا هي مصدر هذا التهديد الصحي للأمريكيين العاملين في وزارة الخارجية والبنتاجون. كما أشار التحقيق إلى أن هناك وحدة استخبارات عسكرية روسية متخصصة في مهمات محددة عنيفة، ويُطلق عليها الوحدة رقم (29155)، وهذه الوحدة العسكرية السرية الخاصة هي التي تحوم حولها الشبهات للهجوم الذي تعرض له الدبلوماسيون ورجال الاستخبارات الأمريكية. كما أفاد التقرير الاستقصائي بأن هذه الوحدة استخدمت أسلحة صوتية موجهة تُطلق موجات بترددات محددة تسبب هذه الحالات الصحية الغامضة التي بلغت أكثر من 1500 حالة، وتُعرف الآن بمرض هافانا (Havana Syndrome)، أو حسب الاسم الرسمي لهذه الحالة والظاهرة الغريبة وهو "حالات صحية غريبة"(Anomalous Health Incidents). ونظراً لواقعية هذه الحالات وازدياد أعداد المصابين، فقد أصدر الكونجرس ممثلاً في مجلس النواب في 21 سبتمبر 2021 قانوناً وقع عليه الرئيس بايدن في 8 أكتوبر 2021 تحت عنوان: "قانون عام 2021 حول دعم الضحايا الأمريكيين الذين تأثروا بهجمات عصبية"، حيث يعطي هذا التشريع الصلاحيات لوكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية والوكالات الأخرى لتعويض المتضررين.

 

فهذا التحقيق الصحفي الأخير يُقدم احدى النظريات لتفسير هذه الحالات، وهناك نظريات أخرى طُرحت منذ انكشاف هذه الحالات وبروزها على السطح الإعلامي في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

فهناك النظرية الأولى التي أفادت عن وجود سلاحٍ أجنبي خارجي وعدائي تعرض له الموظفون، مثل "السلاح الصوتي"، أو "سلاح الأشعة الكهرومغناطيسية"(pulsed electromagnetic energy) الذي تنبعث منه طاقة وموجات في مجال الميكروويف، أو ترددات الراديو(radio-frequency energy). ففي 30  أغسطس 2018 نُشرت دراسة في مجلة "الكهرومغناطيسية الحيوية"(Bio Electro Magnetics)، وخلصت إلى أن التعرض لأشعة الميكروويف الموجودة في أفران الميكروويف التي نستخدمها لتسخين الطعام وفي الهواتف النقالة قد يُفسر هذه الأعراض المرضية الغريبة التي أُصيب بها الوفد الأمريكي في كوبا والصين. فعندما يتعرض الإنسان لأشعة الميكروويف المُركزة والشديدة فإنه سيحس بالضوضاء العالية والأصوات المرتفعة، وينعكس هذا على الأمن الصحي من حيث الشعور بالصداع والإغماء والإرهاق ثم تلف وارتجاج في المخ، حسب الدراسة المنشورة في 20 مارس 2018 في "مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين" حول "بيانات عصبية للمسؤولين الحكوميين الذين أفادوا لتعرضهم لظواهر صوتية وحسية في كوبا". ففي هذه الدراسة تم فحص وتقييم 21 دبلوماسياً أمريكياً كانوا يعملون في كوبا، وأشارت إلى أن شكوى هؤلاء العاملين في السفارة الأمريكية في كوبا تفيد بتعرض هؤلاء الأفراد لخلل في شبكات المخ، وأفادت بأن هذه الأعراض تُشبه من تعرض لحادثة ارتجاج في المخ جراء حادثة سيارة، أو السقوط من مكان مرتفع، أو حدوث انفجار، ولكن الدراسة لم تحدد مصدر وأسباب هذه الحالة المرضية. كذلك قدم البحث المنشور في أكتوبر 2018 في مجلة الحسابات العصبية (Neural Computation) الإثباتات والدلائل العلمية التي تؤشر إلى أن "الهجوم بأشعة الميكروويف" هو السبب وراء مرض الأمريكيين.

 

كذلك نُشر تقرير في السادس من ديسمبر 2020 من "الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب"(National Academies of Sciences, Engineering, and Medicine) بعنوان: "تقييم مرض موظفي الحكومة الأمريكية وعائلاتهم في السفارات الخارجية". وهذا التقرير قام به فريق مكون من 19 خبيراً من تخصصات متعددة منها علم الأعصاب والإشعاع وغيرهما. وجاءت الاستنتاجات الختامية حسب ما ورد في التقرير بأن: "الأعراض التي تم كشفها على أول حالة في السفارة الأمريكية في مدينة هافانا بكوبا كانت تتمثل في الاستيقاظ من النوم والشعور بآلام شديدة وضغط شديد في الوجه، والاحساس بوجود صوتٍ حاد ومرتفع جداً في أحد الأذنين، ثم فقدان التوازن والإغماء. وبعد أيام انكشفت أعراض أخرى تتمثل في مشكلات واضطرابات في الرؤية، وصعوبات ذهنية وعقلية، وفقدان في السمع، وصداع مزمن، والشعور بالتعب والإرهاق، وفقدان الذاكرة". كما جاء في التقرير بأن: "لجنة الخبراء تَشعر بأن الأعراض التي أصابت الدبلوماسيين تتوافق مع التأثيرات للتعرض المباشر للأشعة الكهرومغناطيسية في مجال طاقة وترددات الراديو والميكروويف. كما جاء أيضاً في التقرير: "يبدو أن ذبذبات ترددات الراديو الموجهة هي الآلية الأكثر قبولاً لتفسير هذه الحالات المرضية التي تمت دراستها من قبل اللجنة، إضافة إلى تأثيرات الحالات النفسية لهؤلاء الموظفين، والعوامل البيئية غير المعروفة".

 

كذلك قامت دراسة بفحص الأعصاب، وإجراء تقييم وتحليل شامل لبناء وتركيبة كافة أجزاء المخ من خلال أخذ صور محددة للمخ باستخدام جهاز الرنين المغنطيسي المعروف(إم آر آي)، حيث نُشرت تفاصيل نتائج الدراسة في 23 يوليو 2019 في "مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين" تحت عنوان: "اكتشافات بعد التحليل العصبي لموظفي الحكومة في كوبا". وقد أشارت الدراسة إلى وجود فروقٍ جوهرية بين العينتين في المخ من ناحية حجم الجزء الكلي الأبيض، وحجم المنطقة البيضاء والرمادية، والبناء الميكروسكوبي للمخ، إضافة إلى اختلافات في الجزء المختص بالسمع والبصر. فعلى سبيل المثال، معدل الحجم الكلي للمادة البيضاء كان أصغر في المرضى مقارنة بالأصحاء، فالمرضى كان الحجم 542.22 سنتيمتر مكعب والأصحاء 569.61، أي أصغر بنحو 5%، كذلك كانت هناك اختلافات وفروق بين عينة المرضى والأصحاء بالنسبة حجم المادة البيضاء والرمادية.

 

وفي المقابل تدخل "مجتمع الاستخبارات" الأمريكي في محاول فك شفرات هذا اللغز وأصدر النشرة الإعلامية في الأول من مارس 2023، تحت عنوان: "بيان مدير الاستخبارات القومية حول تقييم مجتمع الاستخبارات عن الحالات المرضية الغريبة". فهذا التحقيق والتقييم الجديد شمل أكثر من 1500 حالة مرضية لموظفين أمريكيين يعملون خارج أمريكا في 96 دولة، واستغرق هذا التحقيق الذي أجرته سبع وكالات استخباراتية ست سنوات، وشمل دراسة شاملة ودقيقة لجميع الحالات التي وقعتْ بين عامين من 2016 إلى 2018، حيث وصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية(سي أي إيه)( Central Intelligence Agency) بيل بارنز(Bill Burns) هذا التقرير قائلاً: "إنه التحقيق الأكبر والأكثر شمولية في تاريخ الوكالة، وهو يعكس أكثر من عامين من جمع المعلومات والأعمال الاستقصائية وتحليل هذه المعلومات من مجتمع الاستخبارات لكل ما يحيط بالحادثة قبل وأثناء وبعد وقوعها". وهذا التقرير لمجتمع المخابرات عن الحالات المرضية الشاذة تم تصنيفه بأنه "سري"، حيث قُدم ملخص الاستنتاجات في البيان الصحافي الذي صرحت به مديرة الاستخبارات القومية، أفريل هاينز (Avril Haines) قائلة: "نحن اليوم نُشارككم جهود التحقيقات والاستنتاجات التي توصل إليها تقييم مجتمع الاستخبارات حول الحالات الصحية الغريبة"، كما ورد في النشرة: "معظم وكالات مجتمع الاستخبارات استنتج الآن بأنه "من المستبعد"(very unlikely) بأن هناك جهة أجنبية تتحمل مسؤولية الحالات المرضية الغريبة التي تعرض لها بعض الدبلوماسيين". كذلك استنتج التقرير حسب ما ورد في البيان بأن: "الأعراض التي انكشفت على الدبلوماسيين من المحتمل أن تكون لعوامل لا علاقة لها بجهات أجنبية عدائية، مثل الحالات المرضية التي كانوا يعانون منها سابقاً، أو أمراض معروفة مسبقاً، أو عوامل بيئية".

 

وأخيراً نشرت "المعاهد الوطنية للصحة" في 18 مارس 2024 تقريراً حول نتائج الأشعة التي أُخذت على مخ المصابين، حيث كشفت عن عدم وجود إصابات في المج تتوافق مع الأعراض، إضافة على عدم وجود ظواهر حيوية غير طبيعية، فأشعة المخ للمصابين مماثلة لأشعة مخ الإنسان الطبيعي غير المصاب، ولكنها أكدت واقعية الأعراض وأنها أثرت على مسيرة حياتهم اليومية. كما نشرت هذه الدراسة في "مجلة الجمعية الأمريكية الطبية" في 18 مارس 2024 تحت عنوان: "المرض العصبي والدروس التي يجب تعلمها في الأمن القومي".

 

فمما سبق نرى بأن هذه الحالة المرضية الغريبة للدبلوماسيين الأمريكيين تعقدت كثيراً وتشابكت في نظرياتها وتفسيراتها، سواء المتعلق بواقعية هذه الحالات وأسبابها ومصادرها، أو بالجهة التي تسببت في نزولها، كما أن دخول رجال السياسية والاستخبارات والإعلام على الخط جعلت تفسيراتهم ونظرياتهم غير نزيهة، وغير موضوعية، ولا مصداقية لها ولا يمكن الاعتماد عليها.

 

فمع كل هذه التعقيدات لا أظن بأن الحقيقة ستظهر قريباً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق