الخميس، 17 سبتمبر 2020

البيت الأبيض يغض الطرف عن تهديدات اليمين المتطرف

اطلعتُ على البيان الصحفي المنشور من "لجنة الاستخبارات"(House Intelligence Committee) التابعة لمجلس النواب الأمريكي في التاسع من سبتمبر من العام الجاري حول "الشكوى" المقدمة من براين ميرفي(Brian Murphy) الوكيل المساعد في وزارة الأمن الداخلي، مكتب الاستخبارات والتحليل(Office of Intelligence and Analysis) في الثامن من سبتمبر إلى مجلس النواب.

فهذه الشكوى تُعرِّي وتكشف عن بعض الممارسات الطاغية في وزارة الأمن الداخلي من موظف مسؤول يعمل بداخل هذه الوزارة، ويَشْهد بنفسه هذه السلوكيات، ويعاني من تداعياتها على الأمن القومي الأمريكي ومسيرة الديمقراطية فيها، ولذلك يُطْلقْ على هذا الشخص الذي يُظهر مثل هذه الحقائق المخفية عن الرأي العام الشعبي والتجاوزات السرية بداخل الوزارات الحكومية، ويلفت الأنظار إليها بـ "مُطْلق الصَافِرة"، أو الذي ينفخ في الصافرة(whistle-blower)، علماً بأن هناك قانون خاص في الولايات المتحدة الأمريكية يحمي مثل هؤلاء الأشخاص ويدافع عنهم.

ومن أجل التعرف على تفاصيل هذه الشكوى الخاصة، والولوج في أعماقها بحثتُ عن نسخة من هذه الشكوى، ونص هذا التقرير المقدم إلى "لجنة الاستخبارات". فهذا التقرير المنشور في الثامن سبتمبر يغطي الممارسات التي عاصرها شخصياً هذا المسؤول الكبير في وزارة الأمن الداخلي من مارس 2018 إلى أغسطس 2020.

ونظراً لأهمية وخطورة هذه الشكوى بالنسبة للشعب الأمريكي، فإن الصحافة الأمريكية اهتمتْ كثيراً بهذا التقرير ونشرت عدة تحقيقات حوله، منها المقال المنشور في العاشر من سبتمبر في جريدة الواشنطن بوست تحت عنوان: "مسؤول سابق في وزارة الأمن الداخلي يعترف بأن السياسة تحرك الاستخبارات"، ومنها أيضاً تحقيق النيويورك تايمس في التاسع من سبتمبر تحت عنوان: "وزارة الأمن الداخلي تُقلل من شأن تهديدات روسيا وجماعات تفوق العرق الأبيض".

فهذا المسؤول الأمريكي الكبير في مكتب الاستخبارات الداخلية في وزارة الأمن الداخلي، يتَلخصْ عمله في جمع المعلومات الواردة من الوكالات والهيئات الأمنية والاستخباراتية ذات العلاقة بالأمن القومي، ومع التركيز على عوامل ومصادر تهديد الأمن الداخلي، فيقوم بتحليلها وتقييمها وإصدار التقارير الخاصة حولها، ورصد الاستنتاجات العامة التي يستخلصها من هذا الكم الكبير من المعلومات التي يُزود بها دورياً. وتكون هذه التقارير الاستخباراتية السرية واستنتاجات هذا المكتب عادة ما تكون غير مُسيسة، أي أنها لا ترتبط بأجندات ومصالح الأحزاب والتجاذبات السياسية، وبالتحديد الحزبين اللذين يتناوبان الحكم في أمريكا منذ تأسيسها، وهما الحزبان الديمقراطي والجمهوري، فالاستنتاجات من المفروض أن تكون محايدة، وموضوعية، ومستقلة، ولا تقف مع جهة ضد الجهة الأخرى، ولا تستجيب للضغوط السياسية والحزبية من أية جهة، أو شخص مهما كان نفوذه، ولا تخضع لتعليمات أحد من جماعات الضغط المعروفة.

ولكن ما حدثتْ من وقائع وممارسات خلال السنتين اللتين يغطيهما التقرير، حسب ادعاءات المسؤول عن المكتب، تتنافى مع هذه السياسة العامة، وتتعارض مع توجهاته وأهدافه الرئيسة.

فالسيد براين ميرفي، الوكيل المساعد في وزارة الأمن الداخلي، مكتب الاستخبارات والتحليل، أفاد في تقريره بأنه يواجه ضغوطاً شديدة من كبار المسؤولين المعَينين من الرئيس ترمب، سواء من داخل الوزارة نفسها، وبالتحديد من القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي، تشاد ولف(Chad Wolf)، أو من خارج الوزارة مثل مستشار الأمن القومي، روبرت أوبرين(Robert O’Brien  لتغيير تقاريره الاستخباراتية لأسباب سياسية، بحيث يتم تطويع استنتاجات هذه التقارير لتحوم في فلك الرئيس ترمب، وتتماشى مع توجهاته الشخصية، والسياسية التي يتبعها. 

فعلى سبيل المثال، جاءته تعليمات وتوجيهات بأن يُقلل من شأن التهديدات الصادرة عن روسيا ومن جماعات تفوق العرق الأبيض، أو جماعات اليمين المسيحي المتشدد، وفي حالات أخرى تم إبلاغه بالتوقف عن إصدار تقارير تبين تدخل روسيا في الشأن الأمريكي، والتركيز بدلاً من ذلك على إيران والصين، إضافة إلى تغيير وتحريف التقارير الاستخباراتية لصالح جماعات اليمين المسيحي المتطرف، والجماعات التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض لكي تبدو وكأنها "أقل خطورة وشدة على الأمن القومي"، أو في الأقل تخفيف لهجة ولغة هذه التقارير الاستخباراتية لصالح هذه الجماعات. وفي الوقت نفسه كانت تصل إليه التعليمات المباشرة لتوجيه الأنظار والتركيز نحو جماعات اليسار والجماعات التي يُطلق عليها أنتيفا(antifa)، وهي اختصار لكلمة ضد الفاشية(anti-fascistوهي مجموعات متعددة تعمل ضد العنصرية، والرأسمالية، وتدافع عن حقوق المرأة، إضافة إلى العمل على تضخيم وتهويل دور هذه المجموعات في التأثير على الأمن القومي.

وفي حالات أخرى ذكرها المسؤول الكبير في وزارة الأمن الداخلي، صاحِب الشكوى، بأنه تم منع أحد تقاريره وحجبها من النشر الداخلي، وبالتحديد تقرير مارس 2020، حيث إن هذا التقرير كان يؤكد على التهديدات العظيمة التي تمثلها جماعات "القوميون"، و "اليمينيون البيض المتطرفون" على الأمن القومي الأمريكي لأن مثل هذه الحقائق تُشوه سمعة الرئيس ترمب، ولا تتوافق مع أهوائه ونظراته الشخصية التي تميل دائماً نحو هذه الجماعات، فيتردد كثيراً في انتقادها، أو توجيه كلمة قوية ضدها، مهما فعلت من أعمال عنف وإرهاب وقتل.

وفي الحقيقة فإن الوقائع التي شهدتُها شخصياً من حياة ترمب خلال الأربع سنوات الماضية، والتصريحات التي أدلى بها خلال فترة حكمه، كلها تعكس صحة شكوى هذا المسؤول في وزارة الأمن الداخلي، فمنذ دخوله إلى البيت الأبيض وهو يصب كُرهه وغضبه على المهاجرين، والمجنسين، ويُقيِّد ويقلل من دخول المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد من الدول العربية الإسلامية، إضافة إلى تهويله وتضخيمه لدور المسلمين في الإرهاب الدولي، ومنذ دخوله إلى البيت الأبيض وهو يقف سداً منيعاً ضد أية انتقادات، أو إدانات تُوجه نحو الجماعات المسيحية اليمينية المتشددة والعنيفة والتي تتحمل مسؤولية عدة عمليات إرهابية ارتكبت على أرض بلده، فهذه المجموعات الإنجيلية واليمينية المسيحية هي تُعتبر القاعدة الانتخابية التي اعتمد عليها في الوصول إلى الحكم قبل أربع سنوات، فهذه القاعدة لا تُمس بسوء من قبله ولو بكلمة، فهو يتَّكئ عليها مرة ثانية للبقاء في البيت الأبيض. وهذه المواقف النابعة من قلب ترمب هي التي أعطت الضوء الأخضر لليمين المسيحي العنيف والمتشدد للظهور علناً في مسيرات عامة "مسلحة" شاهدتها بنفسي من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، وهي التي نالت الغطاء السياسي الشرعي من ترمب من عدم الخوف من الإعلان عن سياسة الكره لجميع الأقليات، سواء أكانوا مسلمين، أو يهود، أو من أصول أفريقية، والقيام بأعمال قتل جماعي إرهابي ضدهم.

وجدير بالذكر فإن هناك جلسة استماع للجنة الاستخبارات في مجلس النواب في 21 سبتمبر، وستُخصص هذه الجلسة كلياً لمناقشة هذه الادعاءات الخطيرة من هذا المسؤول السابق في وزارة الأمن الداخلي.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق