الخميس، 24 سبتمبر 2020

نظرية مؤامرة جديدة تخرجُ من ظلمات الإنترنت إلى أضواء البيت الأبيض

في أحد التجمعات والحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد التجمعات التي يُنظمها أتباع الرئيس الأمريكي ترمب، لفتت انتباهي عدة صور منشورة في الصحف الأمريكية للناس المجتمعين في هذه المسيرات من عدة ولايات. ففي إحدى الصور شاهدتُ أحد الأشخاص في هذا التجمع الانتخابي وهو يحمل لافتة كبيرة مكتوب عليها حرف "كيُو"(Q). وصورة أخرى لتجمع آخر لاحظت لافتة كبيرة يحملها أحد المشاركين من أنصار ترمب على شكل حرف "كيو"(Q) أيضاً، ومكتوب عليها بالخط العريض والكبير(QANON.PUB). كذلك شاهدتُ في تجمعٍ دعائي وإنتخابي ثالث للرئيس ترمب، أحد مناصري ترمب وهو يحمل لوحة كبيرة مكتوب عليها حرف "كيو"، إضافة إلى عبارة "اجعل أمريكا عظيمة مرة ثانية". وعلاوة على ذلك، كان يمكن ملاحظة المئات من مؤيدي ترمب في هذه التجمعات وهم يرتدون قمصان وفانيلات وقبعات تُبرز كلمة "كيو". وهذه المشاهد الغامضة والغريبة بالنسبة لي، رأيتها أمامي متكررة في عدة تجمعات في معظم الولايات الأمريكية، وكلها تحمل اللافتات المكتوب عليها حرف "كيو"، أو كلمة كيو أَنُونْ(QAnon).

 

وفي الحقيقة لم أعرف معنى هذا الحرف، ولم أدرك إلى ماذا ترمز هذه الكلمة غير المعروفة، فلم أشاهدها من قبل في السنوات الماضية في الحملات الانتخابية الرئاسية وغير الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك فهي ظاهرة مستجدة لم تكن موجودة سابقاً. فبدأتُ في دراسة هذه الظاهرة وأبحث عن معنى ومصدر هذه الكلمة في وسائل وأدوات البحث المعروفة، وفي المراجع العلمية، وفي التحقيقات الصحفية في الجرائد والمجلات المعروفة والواسعة الانتشار.

 

وقد استغربتُ مما وجدتْ، وتفاجأت كثيراً من معنى هذه الكلمة ودلالاتها وتعمق مفهومها في السياسة الأمريكية. فهذه الكلمة التي تُشير إلى نظرية المؤامرة، أخذت في الانتشار والتجذر في المجتمع الأمريكي خاصة، وفي دول العالم بشكلٍ عام، فهي تدَّعي بأن هناك شبكة ظلامية سرية من شياطين الإنسان من سياسي الحزب الديمقراطي الأمريكي، ومن ممثلي ومشاهير هوليود، ومن أغنياء العالم ورجال النفوذ المالي، مثل بيل جيتس، ومن رجال الدين مثل البابا فرنسيس، الذين يسيطرون على الحُكم من خلال تغلغلهم في وزارات "الدولة العميقة"، ويهاجمون ترمب ويتآمرون ضده، فينشرون الفساد الأخلاقي بين الناس بالإتجار بالجنس بين الأطفال خاصة، كما أن هؤلاء يؤمنون بأن الله خصَّهم بالرئيس ترمب ليُنقذ أمريكا والعالم من هؤلاء الشياطين الأشرار، وأن ترمب قد تم اختياره، كالمسيح عيسى عليه السلام، ليُخلص المجتمع الأمريكي منهم، فيحاربهم، وسيقضي عليهم جميعاً في المستقبل القريب في عملية قادمة قريباً يُطلقون عليها بالعاصفة(storm).

 

وبالرغم من سذاجة هذه الأفكار الرجعية المتشددة في مجتمعٍ متطور ومتقدم كثيراً عن سائر دول العالم، إلا أن هذه الآراء الغريبة وجدتْ آذاناً صاغية، وإيماناً راسخاً من بعض شرائح المجتمع الأمريكي من الحزب الجمهوري خاصة، وبالتحديد من قبل اليمين المسيحي المتطرف، ومن جماعات "الإنجيليين" أتباع ترمب الموجودين اليوم في أضواء البيت الأبيض، حسب التحقيق المنشور في 18 سبتمبر "، في صحيفة "يُو إِس أيه تُوداي(USA TODAY)، تحت عنوان: "نظرية مؤامرة "كيو أنون" بدأت تنتشر في وسائل الاتصال الاجتماعي"، إضافة إلى مقال النيويورك تايمس في 17 سبتمبر تحت عنوان: "الإنجيليون يتولون كيو أنون".

 

فهذه الأفكار الغامضة والمتطرفة وُلدت أولاً في الظلمات الحالكة في العالم الافتراضي للإنترنت وشبكة المعلومات الدولية، وبالتحديد في أكتوبر 2017 عندما نَشر مجهول "القطرة" الأولى من هذه الأفكار تحت إسم(Q Clearance Patriot)، مُدعياً بأنه عميل استخباراتي سابق مُطلع على معلومات سرية حكومية، وعُرف من قبل مناصريه بحرف "كيو". فأولى هذه الرسائل الضالة والمجهولة والمستخلصة من آيات الإنجيل كانت في منتدى للإنترنت تحت مسمى(4chan)، ثم أخذت رويداً رويداً في الازدياد، وتوسعت دائرة انتشارها وتغطيتها، وارتفعت شعبيتها وأعداد المعتقدين بمصداقيتها في المجتمع الأمريكي، وبخاصة بين اليمين المسيحي المتطرف الذين معظمهم من أنصار وأتباع ترمب، فخرجت من عباءة وظلمات الإنترنت إلى ميدان وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي المعروفة كالفيس بوك والتويتر واليو تيوب، حسب تحقيق مجلة التايم في 3 أغسطس 2018، ومقال النيويورك تايمس في 18 سبتمبر 2020، ثم تحولتْ مع الوقت من مرحلة الغموض والسرية إلى المرحلة العلنية والظهور المكشوف في تجمعات يراها كل الناس، بل ورُفعت شعاراتها المتطرفة في كل هذه التجمعات الانتخابية دون خوفٍ أو خجل، إلى أن وصلت إلى أضواء وبهرجة البيت الأبيض بشكلٍ علني، حتى أن ترمب نفسه لم ينحرج أو يتردد في الدفاع عن هذه الأفكار البدائية وتبنيها أمام الملأ، وبالتحديد بالنسبة لفكرة تجذر "الدولة العميقة" في المجتمع الأمريكي، حيث وصف إدارة الغذاء والدواء بهذا الوصف، واتهمها بأنها جزء من الدولة العميقة، وأنها عمداً تُعرقل وتبطء من تطوير وإنتاج اللقاح، حسب المقال المنشور في الواشنطن بوست في 15 سبتمبر. كما إنه قال في معرض حديثة عن نظرية المؤامرة: "نحن في الواقع، نحن نُنقذ العالم من الفلسفة اليسارية المتطرفة التي ستدمر هذا البلد"، وقال واصفاً الأشخاص الذين يدافعون عن هذه النظرية: "إنهم أشخاص يحبون بلادنا".

 

وجدير بالذكر، فإن وسائل الإعلام نشرتْ خبراً في 17 سبتمبر تؤكد على أنه قد تم التعرف على مسؤول كبير عن "تقنية المعلومات" يعمل في مجموعة بنك ستي(Citigroup) بأنه هو الشخص المجهول الذي يحرك ويكتب سرياً في أحد المواقع المشهورة والأكثر شيوعاً وشعبية لنظرية "كيو أنون"، وهو موقع(Qmap.pub) وموقع(8kun)، وهذا الشخص اسمه جيسون جيلينس(Jason Gelinas) من ولاية نيو جيرسي(New Jersey)، حيث قال هذا الرجل الذي يخضع الآن للتحقيق الداخلي من البنك لوسائل الإعلام بأن ما يقوم به يقع ضمن "حركة وطنية لإنقاذ البلاد".

 

ومما سبق أستطيع أن أستنتج من تحليلي لتصريحات ومواقف ترمب واعتماده كلياً على قاعدة إنتخابية من الإنجيليين واليمينيين المتشددين بأن هذه النظرية(QAnon conspiracy theory) تحوم حول فلك ترمب مباشرة، وكأنها من صُنع عقل ترمب نفسه، ومن إنتاج يد أتباعه ومريديه من المسيحيين الإنجيليين الذين يجلسون معه الآن في البيت الأبيض، وذلك بهدف الفوز بولايةٍ ثانية والاستمرار في البقاء في البيت الأبيض أربع سنوات أخرى للاستمرار في مهمته الربانية المقدسة، والتي تتمثل في محاربة الإخطبوط المتجذر في المجتمعات من الأشرار والشياطين من بني البشر في أمريكا أولاً وحول العالم ثانياً، ولا غرابة في ذلك فقد أعلن ترمب نفسه في لقاء صحفي في 21 أغسطس 2019 وهو ينظر إلى السماء قائلاً: "أنا الشخص المـُخْتار "!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق