الأربعاء، 23 سبتمبر 2020

تسييس اللقاح

إذا أردتَ أن تعرف عن آخر التطورات المتعلقة بإنتاج اللقاح الخاص لمواجهة فيروس كورونا، فلا تستمع إلى رجال السياسة، ولا تأخذ الأخبار منهم، فكل كلمة يتفوهون بها تكون محسوبة زمانياً ومكانياً، وكل تصريح يدلون به له أهداف سياسية تخدمهم في زمن الانتخابات، وتفيدهم على المستويين الشخصي والحزبي، ولذلك فأقوالهم ووعودهم قبل وأثناء الانتخابات تختلف عن تصريحاتهم ومواقفهم بعد الانتخابات.

 

ولقاح فيروس كورونا هو آخر مثال، وليس الأخير، يمكن أن نضربه لبيان صحة هذه الظاهرة في الدول الديمقراطية خاصة. فنظراً للكارثة الوبائية التي هزَّت البشرية جمعاء فأسقطت نحو 31 مليون مريض وقرابة مليون نقلوا إلى مثواهم الأخير، فإن دول العالم كلها تعيش في دوامة عصيبة لا تعرف كيف تخرج منها بأقل عدد من الضحايا والمصابين، ولذلك فأية دولة، أو رجل سياسية ينجح في التوصل إلى الدواء العاجل والعلاج الشافي لهذا الفيروس العقيم فإنه في نظر شعبه والبشرية جمعاء سيكون بطلاً قومياً وعالمياً مغواراً قد حقق إنجازاً غير مسبوق للإنسانية، وبالتالي لا بد وإنه يستحق أن يُصوت له ليكون الحاكم الرشيد والمنقذ لذلك البلد.

ونتيجة لذلك تجد بأن التصريحات حول تطوير وإنتاج اللقاح لم تتوقف من رجال السياسة منذ أكثر من سبعة أشهر، ووعودهم لتقديم العلاج الكافي للناس لا تنتهي، وكلها تهدف وتصب إلى أن تكون تصريحاتهم ومزاعمهم بالنسبة لتاريخ إنتاج هذا اللقاح قبل موعد الانتخابات. فمع الأسف الشديد تحول إنتاج اللقاح من عملٍ إنساني يخدم الناس أجمعين إلى تجارة وورقة سياسية انتخابية يساوم عليها رجال السياسة، ويتنافسون في سرعة توصيلها إلى الناس في موعدٍ هم يحددونه، حتى ولو كان بطرق ووسائل غير علمية، وغير منهجية، وغير آمنة لصحة الناس، ولا تتبع الإجراءات الطبية السليمة المعروفة، والمراحل المعتمدة من المجتمع الطبي الدولي لإنتاج أي لقاح.

وهناك الكثير من الأدلة والبراهين من الواقع الحالي والتي أستطيع أن أُقدمها لكم لكي أُثبت بأن عملية تطوير وإنتاج اللقاح وتقديمه للاستعمال للناس قد أصابها داء التسييس إلى درجة كبيرة، ويلعب فيها رجال السياسة من أجل كسب الأصوات وإيهام الناس بأنهم حققوا إنجازاً تاريخياً غير مسبوق، يستحقون عليها أن يجلسوا على كراسيهم فترة أطول من الزمن، وأن يختارهم الناس لولاية ثانية. ومن أقوى هذه الأدلة تصريح الرئيس الأمريكي ترمب في 18 سبتمبر من العام الجاري عندما أفاد في معرض حديثة عن موعد إنتاج اللقاح وجاهزيته للاستخدام من قبل الناس قائلاً:" ستكون هناك مئات الملايين من الجرعات جاهزة للأمريكيين كل شهر، ونحن نتوقع أن يكون لدينا ما يكفي من اللقاح لكل أمريكي بحلول أبريل 2021". فهذه الثقة المطلقة بموعد الانتهاء من اللقاح وتسليمه للاستعمال ليست مبنية على تطورات ميدانية متعلقة بتجارب اللقاح السريرية، فلا يوجد لقاح آمن وسليم وفاعل حتى الآن، ولا توجد شركة من الشركات التي تجري تجارب تطوير وإنتاج اللقاح قد أعطت موعداً نهائياً لتوافر اللقاح للجميع للاستعمال المباشر، ولكن ما يدَّعيه ترمب هو يقع ضمن "تسييس إنتاج اللقاح"، ويُطلقْ  كل هذه التصريحات كدعاية انتخابية فارغة لا أساس لها من العلم والعلماء والمختصين، فيُوحي للشعب الأمريكي بتحقيق إنجازٍ شخصي قبل نوفمبر، أي قبل الانتخابات الرئاسية.

 

والأدهى من هذا كله والأمر هو الإجابات التي قدَّمها ترمب في المؤتمر الإعلامي في البيت الأبيض، والتي تؤكد بما لا يوجد أدنى مجالٍ في الشك على "تسييس عملية إنتاج اللقاح"، حيث سأله إعلامي من محطة أي بي سي الإخبارية(abc News):" كيف لا تثق بخبرائك؟ هل تظن بأنك تعلم أكثر منهم؟"، فأجاب: "نعم، في الكثير من الحالات أنا أعلم أكثر منهم"!

 

فكيف لشخصٍ أمضى حياته في الأعمال التجارية، وبيع وشراء العقارات، ويصرح وبكل بساطة وفي بلدٍ يعج بالعلماء والخبراء الأكثر تقدماً وتطوراً في العالم في جميع التخصصات، بأنه أكثر علماً وخبرة منهم وفي مجالٍ بعيدٍ جداً عن عمله وخبرته، وبالتحديد في القضايا العلمية المتخصصة جداً وفي غاية الدقة؟

 

فهذه المواقف والتصريحات تؤكد بأن السياسات التي يتبناها والآراء والأفكار التي يؤمن بها ترمب في مجال مكافحة فيروس كرونا عامة، وبخاصة في عملية تطوير وإنتاج اللقاح وتحديد البرنامج الزمني لتطعيم الناس ستكون مسيسة، ومستندة على أهواء شخصية وأهداف انتخابية بحتة. فإذا كانت مواقف ترمب لا تعتمد على النتائج العلمية، ولا تستند إلى أقوال العلماء والخبراء والمختصين الحكوميين الذين يعملون في حكومته، فلا بد إذن أنها تكون آراء شخصية وحزبية ومسيسة وتهدف لتحقيق مكاسب آنية.

 

وعلاوة على ذلك كله، ومما يؤكد تسييس ترمب لإدارته لوباء كورونا، وبخاصة بالنسبة لجدول مواعيد توفير اللقاح للشعب الأمريكي، هو ما قاله روبرت رد فيلد(Robert Redfield) مدير مراكز منع والتحكم في المرض عند إدلائه بشهادته أمام لجنة التثمين في مجلس النواب(Appropriations Committee) في 16 سبتمبر 2020، حيث أفاد بأن "اللقاح للشعب الأمريكي عامة لن يكون جاهزاً للاستخدام إلا في 2021". كذلك قال بأن: "كمامات الوجه هي الوسيلة الأكثر ضماناً لحمايتنا من كورونا، كما إنها أيضاً أكثر ضماناً من اللقاح نفسه وأشد فاعلية لحماية الصحة العامة"، وأضاف بأن الكمامات هي: "دفاعنا الأفضل ضد الفيروس". وما أن انتهت جلسة الاستماع، وإذا بترمب يقف أمام وسائل الإعلام في البيت الأبيض ويعكس ويناقض كلياً رأي مدير هذه المراكز الصحية الحكومية المتخصصة في إدارة الأمراض المعدية والمستعصية لعقود طويلة من الزمن، فضرب بكلام المتخصصين من أفضل علماء أمريكا عرض الحائط في قضية موعد اللقاح وقضية أهمية وضع الكمامات، فقال:" لقد أخطأ في القضيتين، إنها معلومات خاطئة"، وأضاف:"الكمامات ليست ذات أهمية كاللقاح"، كما اتهم مدير هذه المراكز بأنه لم يفهم السؤال الذي طُرح عليه من لجنة الكونجرس وأن "فكره مشوش"!   

 

فلا ريب إذن بأن ترمب لا يُعير أي اهتمام لرأي علماء بلاده، ولا يأخذ باستنتاجات الدراسات والأبحاث العلمية الميدانية من الأجهزة الحكومية المختصة ومن أساتذة الجامعات والمعاهد البحثية، وإنما يُسيس قراراته ومواقفه انطلاقاً من الفوائد السياسية التي يجنيها من كل موقف عام يتخذه، وبما ينعكس أيضاً ايجابياً على نتائج الانتخابات.

ولذلك هل نثق بسلامة وفاعلية أي لقاح يُعلن عنه ترمب، أو أي رئيس دولة آخر؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق