الجمعة، 11 سبتمبر 2020

هل تحول العلماء إلى أداة في يد رجال السياسة؟

سباق الماراثون الشاق والمعقد الذي تشارك فيه نخبة من الدول العظمى المتطورة والمتقدمة من أجل تطوير وإنتاج لقاحٍ خاص لمكافحة فيروس كورونا، أفرز عن عدة ظواهر، وكشف النقاب عن بعض الحقائق القديمة والمتجددة.

 

فالظاهرة الأول تتمثل في انكشاف مراكز أبحاث وعلماء من غير علماء "الدين" على استعدادٍ تام لتحريف المعلومات العلمية وتطويعها لتتناسب مع أهواء ومصالح رجال السياسة والحكم والسلطة. فقد تعودنا في القرون السابقة واليوم أن نقرأ ونسمع عن فتاوي واجتهادات من بعض علماء "الدين"، سواء الدين الإسلامي، أو المسيحي، أو اليهودي، أو البوذي أو غيرها من الأديان بما يتوافق أو يتماشى مع سياسات الحكام والسلاطين ورجال الدولة والنفوذ، فكلما أراد حاكم أن يقوم بعملٍ غير سوي ومختلف عليه، أو أن يتخذ إجراءً لا يَرضى عنه الناس، فيلجأ إلى رجال "الدين" لتحليل هذا العمل، وتطويعه، وجعله يتطابق مع بعض الآيات الواردة في الكتب السماوية المقدسة. وفي الوقت نفسه، هناك من الحكام من يجنِّد رجال الإعلام، سواء الإعلام التقليدي من صحافة ومجلات وإذاعة وتلفزيون، أو وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي المعروفة، من أجل تلميع صورتهم، وتزيين سياساتهم وتوجهاتهم، إضافة إلى محاربة منتقديهم ومن لا يتفق معهم في الرأي.

 

ولكن اليوم، ومع نزول وباء كورونا على المجتمع الإنساني برمته في كل بقاع العالم بدون استثناء، ومع ازدياد حاجة جميع دول العالم لمكافحة هذا الفيروس العقيم واستئصاله من المجتمعات كلها، فقد استعان بعض رجال السياسة والسلطة بأدوات ووسائل جديدة لدعم سياساتهم، ومساندة توجهاتهم وإجراءاتهم التي يتخذونها لمحاربة فيروس كورونا، مثل المراكز البحثية، والجامعات والمعاهد الفنية، والمختبرات العلمية، بل وفي بعض الحالات استخدموا أسلوب الترهيب والضغط الشديد على العلماء في هذه المؤسسات العلمية والأكاديمية للموافقة على سياساتهم ومدحها وتأكيد صحتها ومصداقيتها أمام الناس، حتى ولو كانت لا تتوافق كلياً مع التحاليل المخبرية، ونتائج الدراسات والأبحاث العلمية الموثقة، ولا يوجد إجماع علمي حولها.

 

ولإثبات واقعية هذه الظاهرة المستجدة، سأضرب لكم أمثلة من الولايات المتحدة الأمريكية والضغوط التي يمارسها الرئيس الأمريكي ترمب على العلماء من جهة، وعلى إدارة المراكز والوكالات الصحية والبحثية من جهةٍ أخرى لنيل موافقتهم ودعمهم لأي نوعٍ من أنواع العلاج ضد فيروس كورونا قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية، وبذلك يكون قد حقق نصراً مُبيناً على هذا الفيروس الخبيث، وقدَّم للبشرية جمعاء إنجازاً دولياً غير مسبوق على مستوى دول العالم، مما يرفع من حظوظه في الفوز في الانتخابات، وقد يحصل على مقعد متقدم في سجل التاريخ.

 

ففي الأشهر الأولى من غزو هذا الوباء للولايات المتحدة الأمريكية أعلن ترمب بأنه قد حصل على الدواء الشافي والعلاج الكافي لهذا المرض العصيب، حيث صرح قائلاً بأنه يتناول العقار المعروف بهيدروكسي كلورا كوين(hydroxychloroquine) بشكلٍ يومي وأنه يقي الإنسان من شر التعرض للعدوى من فيروس كورونا، ولكن بدون تقديم الدليل العلمي الميداني الذي يدعم ادعاءه. وفي الوقت نفسه وضع يده على إدارة الغذاء والدواء للسماح باستخدام هذا العقار لعلاج المرض على المستوى الاتحادي، مما اضطر الإدارة الرضوخ لهذه الضغوط السياسية وإعطاء رخصة سماح طارئة( Emergency Use Authorization) لاستخدام هذا الدواء في مايو من العام الجاري، ثم بعد أن تراكمت الأدلة الطبية وأجمعت على عدم جدوى هذا الدواء وارتفعت وتيرة شكاوى بعض العلماء المخلصين حول عدم الجدوى الفعلية للدواء، بل أكدت على ظهور أعراض جانبية تهدد حياة المرض، اضطرت هذه الإدارة في يونيو على تغيير قرارها وسحب هذه الرخصة.

 

ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في أمريكا في الثالث من نوفمبر، زاد توتر وقلق الرئيس الأمريكي ترمب من الخسارة في الانتخابات، فهو بحاجة إلى إنجازٍ فوري تاريخي عظيم يرفع من شعبيته، ولذلك أعلن في العشرين من أغسطس بأنه يُقدم للمجتمع الأمريكي العلاج الفوري لكورنا من خلال استخدام الأجسام المضادة الموجودة في البلازما في المرضى السابقين(convalescent plasma)، ووصف هذا العلاج بأنه "علاج قوي"، وأنه يمثل "اختراقاً تاريخياً"، كما قال بأننا "سننقذ أرواحاً لا تُعد ولا تحصى"، ثم وجه ضغوطاً شخصية وهجوماً عنيفاً على إدارة الغذاء والدواء للسماح بصفة طارئة لتعميمه في أمريكا، مما جعل بعض الإداريين والعلماء في هذه الإدارة تقديم المبررات والفوائد الجمة التي تنعكس على صحة المريض من استخدام هذا العلاج "السحري". وجدير بالذكر، فإنه لا توجد أبحاث علمية موثقة ومنشورة وتُجمع على فاعلية هذا النوع من العلاج لجميع المرضى المصابين. فعلى سبيل المثال، أعلنت "المعاهد الوطنية للصحة" في الثاني من سبتمبر بأنه لا توجد أدلة قوية وحاسمة ضد أو مع فوائد استخدام البلازما، كذلك نُشر مقال في مجلة "العلوم" في 28 أغسطس تحت عنوان: "في استخدام البلازما للعلاج، المنتقدون يعتبرنه سياسياً وليس علمياً"، كذلك نشرت صحيفة النيويورك تايمس في 24 أغسطس تحقيقاً تحت عنوان: "تسييس العلوم الطبية يضحي بحياة الأمريكيين"، واستندت فيه على مقابلات شخصية مع بعض العلماء والمختصين في العلاج بالبلازما وأكدت بأن الأدلة على فوائد هذا النوع من العلاج ضعيفة وغير مؤكدة ومثبتة ميدانياً.

 

والآن يستغل ترمب سلطته ومنصبه بالترغيب تارة بتقديم التبرعات المالية السخية للشركات المطورة والمنتجة للقاحات، وتارة بالترهيب وإثارة الرعب والضغط السياسي لإنجاز مهمة إنتاج اللقاح قبل الثالث من نوفمبر بكل الوسائل والطرق ومهما كلف الأمر، حتى ولو كانت ملتوية وقصيرة، ولا تتبع الخطوات العلمية المنهجية المعتمدة لتطوير أي نوع من اللقاحات. وقد تنبهت شركات صناعة الأدوية وإنتاج اللقاحات إلى كل هذه الممارسات السياسية المفروضة عليها من البيت الأبيض وإلزامها إلى غض النظر عن بعض الخطوات المطلوبة لإنتاج اللقاح السليم والفاعل والآمن، مما يؤثر مستقبلاً على مصداقيتها أمام الناس، ويُضعف من ثقة الناس بها وبأدويتها ولقاحاتها ومنتجاتها الأخرى، ولذلك اتحدتْ تسع شركات مطورة للقاح للتخفيف من حدة التدخلات والضغوط السياسية، ووقعتْ على بيانٍ مشترك في الثامن من سبتمبر تتعهد فيه بالتزامها بكل اشتراطات ومواصفات الأمن والسلامة المتبعة والمعتمدة في تطوير اللقاحات، إضافة إلى تأكيدها على توثيق ونشر المعلومات المتعلقة بالاختبارات التي تجريها ونتائج هذه الاختبارات قبل تحويلها إلى السلطات الرسمية لنيل الموافقة النهائية والسماح لاستخدامه.

 

كذلك كشف مرض كورونا عن ظاهرة جديدة أخرى تتمثل في "المخابرات الصحية"، أو سرقة وقرصنة المعلومات والبحوث العلمية الصحية التي تقوم بها الشركات في بعض دول العالم من أجل نيل المركز الأول في سباق إنتاج لقاح فيروس كورونا. فقد تسبب هذا السباق المحموم في حربٍ خفية وسرية تجري تحت الأضواء الخافتة وفي ظلام الليل الحالك، وكلما مرَّت ساعة كلما زادت حدة الحرب الاستخباراتية الضروس، وارتفعت وتيرة التجسس وسرقة المعلومات العلمية، وزادت أعمال قرصنة الأبحاث والدراسات من أجهزة الكمبيوتر في المختبرات البحثية وشركات الأدوية والعقاقير التي دخلت في خضم هذا السباق، إضافة إلى معرفة المرحلة التي وصلت إليها كل شركة في تطوير وإنتاج اللقاح وبُعدها عن خط النهاية. فهذه المعلومات كلها مهمة جداً من الناحية العلمية والبحثية، إضافة إلى أهميتها السياسية والاقتصادية والمعنوية.

 

وقد نبه تحقيق منشور في النيويورك تايمس في الخامس من سبتمبر إلى واقعية هذه الظاهرة، تحت عنوان: "السباق لإنتاج اللقاح ضد كورونا جعل وكالات التجسس في مواجهة بعضها البعض"، وهذا التحقيق شمل مقابلات مع مسؤولين حالين وسابقين في المخابرات ووكالات التجسس والمراقبة في بعض الدول المعنية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق