الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

أيهما أشد تهديداً للولايات المتحدة الأمريكية، الإرهاب الخارجي أم الداخلي؟(2 من 2)

في الجزء الأول من المقال عرجتُ على حقيقة ظاهرة تفاقم الإرهاب الداخلي، أو الإرهاب المحلي في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد أعمال العنف والتطرف النابعة من الأفراد الأمريكيين البيض الذين وُلدوا في أمريكا وتربوا فيها طوال سنوات حياتهم من جماعات القوميين البيض المتشددة، أو مجموعات اليمين المسيحي المتطرف، أو الجماعات التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، كما قدَّمت أيضاً أمثلة على التحقيقات والمقالات الإعلامية التي ظهرت في الصحف والمجلات الأمريكية، إضافة إلى الدراسات العلمية المنشورة حول تعاظم هذا النوع من الإرهاب وتهديده للأمن والاستقرار في أمريكا أكثر من تهديد الإرهاب الخارجي القادم من خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية.

 

واليوم أتناول هذه القضية من وجهة نظر المسؤولين عن الأمن في أمريكا من خلال بياناتهم، وتصريحاتهم، والتقارير التي ينشرونها، إضافة إلى جلسات الاستماع التي يحضرونها للإدلاء بشهاداتهم أمام لجان الكونجرس الأمريكي المعنية بهذه الظاهرة القديمة الجديدة.

 

ففي الرابع من يونيو 2019 عُقدت جلسة استماع للجنة الحقوق المدنية والحريات المدنية في مجلس النواب الأمريكي، شارك فيها مساعد مدير قسم مكافحة الإرهاب، ومساعد مدير قسم التحقيقات الجنائية في مكتب التحقيقات الفيدرالية، حيث عرض المكتب بياناً تحت عنوان: "مواجهة جماعات تفوق العرق الأبيض"، وأفاد البيان بأن المكتب يُقَسم مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية إلى برنامجين، الأول الإرهاب على المستوى الدولي والثاني الإرهاب المحلي الداخلي، كما استخلص البيان إلى نتيجة هامة جداً هي: " أنه خلال السنوات الماضية أعداد القتلى من الأمريكيين بسبب الهجمات الإرهابية النابعة محلياً أعلى من الإهاب الدولي". فمنذ الحادي من سبتمبر 2011، فإن جماعات تفوق العرق الأبيض والمجموعات والمنظمات اليمينية تتحمل مسؤولية الهجمات الإرهابية داخل أمريكا ثلاث مرات أكثر من الإرهاب الدولي، فالإحصاءات الرسمية تؤكد بأنه من عام 2009 إلى 2018 ارتكب اليمين المتطرف ما نسبته 73% من حوادث القتل الجماعي. كما أدلتْ جيل سانبورن(Jill Sanborn) مساعدة مدير قسم مكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفيدرالية بشهاداتها أمام لجنة "المخابرات ومكافحة الإرهاب" (Intelligence and Counterterrorism) الفرعية في الكونجرس في 26 فبراير 2020، حيث قدَّمت ورقة تحت عنوان: "مواجهة نمو الإرهاب المحلي ضد السامية"، ولخصت فيها الجماعات الإرهابية التي تواجهها أمريكا، وهي أولاً "المنظمات الإرهابية الأجنبية"( foreign terrorist organizations)، وثانياً جماعات التطرف العنيف المتنامي والمتزايد محلياً(HVE)، وثالثاً المتطرفون العنيفون محلياً، أو الإرهاب الداخلي(DVE)، حيث حذرت بشكلٍ خاص من تهديد الإرهاب المحلي، وقالت بأن "أعداد الموتى من التطرف العنيف الداخلي والمحلي أعلى من الإرهاب الدولي في السنوات الأخيرة". كما جاء في تقرير مكتب وزارة الداخلية في ولاية نيو جيرزي والمنشور في 24 فبراير من العام الجاري حول تقييم التهديد الإرهابي بأن مستوى التهديد من المتطرفين البيض من داخل أمريكا حصل على أعلى نسبة، وتم تصنيفه بالأحمر، أو "مرتفع"، علماً بأن التهديد من داعش، أو تنظيم الدولة والقاعدة جاء في المرتبة الثالثة أو الأخضر، والمستوى "منخفض".

 

كما نشرت مجلة أمريكية شَهْرية هي وايَردْ (WIRED) في 19 أبريل 2020 مقابلة مع مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي تحت عنوان:"25 عاماً بعد مدينة أوكلاهوما، والإرهاب الداخلي في ازدياد"، حيث أكد فيها على واقعية هذه الظاهرة ونموها وتفاقم تأثيرها، واعتبارها أشد وطأة وتنكيلاً بالمجتمع الأمريكي مقارنة بالإرهاب الدولي. كذلك نشرت صحيفة الواشنطن إكزمينر(Washington Examiner)في 17 أبريل 2020 تحقيقاً تحت عنوان: "إِف بِي آي تُحذر من التهديد المستمر من التطرف الداخلي تزامناً مع الذكرى الـ 25 لتفجير مدينة أوكلاهوما"، حيث نقل التحقيق بأن الوكالات الاتحادية مثل الـ إف بي آي، ووزارة الداخلية، والمركز القومي لمكافحة الإرهاب، قد أصدرت منشوراً مشتركاً تحذر فيه من تهديدات جماعات التفوق العرقي للبيض والمناهضة للحكومة الفيدرالية، كما أكدت فيه بأن التهديد من المتطرفين الأمريكيين مثل جماعات تفوق العرق الأبيض، أو القوميين البيض مستمر ويتزايد سنة بعد سنة. وقد اعترفت الحكومة الأمريكية ممثلة في "المركز القومي لمكافحة الإرهاب" في تقريرٍ خاص نقلته الصحيفة الإخبارية الإلكترونية الإنترسبت(The Intercept) في 29 يونيو 2020 بفشلها في التصدي ومكافحة الإرهاب الداخلي بسبب بوصلتها الموجهة بشكلٍ كبير نحو محاربة الإرهاب الإسلامي الخارجي.

 

والآن يحق لنا أن نسأل: هل جماعات تفوق العرق الأبيض المتطرفة، أو اليمينيين المسيحيين المتشددين، أو القوميين المسيحيين البيض تُعد جماعات محلية، أي موجودة فقط في الدولة نفسها، أم أنها جماعات "دولية" كالتنظيم الإسلامي والقاعدة ولها شبكة من العلاقات مع بعض، وتربطها مثل هذه الأفكار المتطرفة والعنيفة؟

للإجابة عن هذا السؤال سنتطرق إلى بعض العمليات الإرهابية التي ارتكبتها أيدي اليمين المتطرف، ونُحلل البيانات(المنِفيستُو) التي نشرها المتطرفون الذين ارتكبوا هذه المذابح في عدة دول. فعلى سبيل المثال، قام نرويجي مسيحي يميني متشدد اسمه أندرز بريفيك(Anders Breivik) بتفجير مجمعٍ حكومي في العاصمة أوسلو في 22 يوليو 2011 وقتل 8 بسيارة مفخخة، ثم ارتكب مذبحة جماعية بالهجوم على مخيمٍ صيفي في جزيرة أوتويا فأعدم 77 شاباً جرح أكثر من مائتين.

وأما المذبحة الثانية فكانت في 15 مارس 2019 في مدينة كرست شريش(Christchurch) في نيوزلندا، حيث قام إرهابي مسيحي متطرف من أستراليا يدعى برنتون تارانت(Brenton Tarrant) بقتل 51 مسلماً يتعبدون في مساجدهم، وسجَّل هذه المجزة الكبرى على الهواء مباشرة من خلال هاتفه النقال وشاهده الملايين في كل أنحاء العالم، كما نشر بياناً من 74 عبر الإنترنت قدَّم فيه أفكاره الإرهابية المتطرفة واعترف بدون ندم على هذا العمل البشع في 25 مارس 2020، وقال بأنه كان ينوي أيضاً حرق المساجد.   

 

وفي هذا السياق، نشرت المجلة الأمريكية "شؤون أجنبية"(Foreign Affairs ) في 23 يونيو 2020 دراسة تحت عنوان: "التهديد المتعاظم للبيض المؤمنين بتفوق الجنس الأبيض"، حيث استنتج الباحث بأن التهديد من جماعات تفوق العرق الأبيض على المستوى الدولي لا يختلف عن جماعة تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) أو القاعدة، فجماعات اليمين المسيحي المتطرف لها أفكار عدائية متشددة، وتربطها مع بعض شبكة تعاون وتبادل الخبرات عبر الإنترنت، وتؤمن بالقيام بالأعمال العنيفة الإرهابية لتحقيق أهدافها، فقد أكدت الدراسة بأن هذه الجماعات لديها مخيمات تدريب عسكرية على السلاح في عدة دول منها أوكرانيا، وبولندا، وبلغاريا، وبريطانيا ونشاطهم يتعدى الحدود الجغرافية المحلية والقومية.

وبعد كل هذه الأدلة على تعاظم واستمرار تأثير الجماعات الإرهابية المسيحية اليمينية المتطرفة على المستويين القومي والدولي، هل ما زال تفكيرنا وتصورنا نمطياً كالسابق، فنعتبر أن الإرهاب نابع فقط من بعض التنظيمات الإسلامية المتشددة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق