الجمعة، 13 أغسطس 2021

سرقة من نوعٍ جديد


سرقة وقعت في البحرين، ومثلها في دول أخرى، ولها مدلولات بيئية وصحية واقتصادية واجتماعية كثيرة لا بد من التوقف عندها، وتحليلها، والتعرف على انعكاساتها المختلفة. فهذا النوع من السرقة الإبداعية غريب على الكثير من الناس، وربما لم يفكروا فيه قط. ولكن أصحاب الذمم الميتة، والمفسدين في الأرض من السراق الذين يشمون رائحة أي فرصة للتربح وجمع المال من على مسافة بعيدة، كما هو الحال بالنسبة لبعض الحيوانات والحشرات التي تشم رائحة الأكل عن بعد، فلا تفوتهم أية احتمالية موجودة أمامهم مهما كانت بسيطة وغير متوقعة لنا.

 

فهذه السرقة التي نُشرت في صحيفة أخبار الخليج البحرينية في التاسع من أغسطس من العام الجاري جاءت تحت عنوان: "حبس عامل كراج آسيوي وإبعاده بعد سرقة مادة البيئة من عادم سيارة"، وهذه المادة التي تمت سرقتها من جهاز العادم الموجود في أسفل ومؤخرة السيارة يطلق عليها علمياً بجهاز معالجة الملوثات التي تنبعث عند احتراق الوقود في السيارة باستخدام مواد العوامل المساعدة، أو نظام المحولات الحفازة(Three Way Catalyst).

 

وهذا الجهاز الذي يعالج ملوثات السيارات قبل انبعاثها إلى الهواء الجوي دخل إلى الأسواق من باب الولايات المتحدة الأمريكية بدءاً من عام 1975، بعد أن فرضت وكالة حماية البيئة الأمريكية معايير ومواصفات خاصة وحازمة متعلقة بانبعاثات الملوثات من عوادم السيارات، بحيث إنها تكون غير سامة، وغير ضارة بصحة الإنسان. ولذلك اضطر مصنعو السيارات إلى اختراع هذا الجهاز الخاص الذي يحول بعض الملوثات الناجمة عن حرق الوقود في السيارات إلى مواد غير ضارة، وبعضها أقل ضرراً، فيحول أول أكسيد الكربون، والملوثات العضوية الهيدروكربونية المتطايرة، وأكاسيد النيتروجين إلى ثاني أكسيد الكربون، والماء، والنيتروجين.

 

وهذا الجهاز يتكون من ثلاثة عناصر نادرة وغالية الثمن، بعضها أغلى من الذهب، وبالتحديد البلوتينيم، والروديم، والبليديم، وتعمل هذه العناصر كعوامل مساعدة تسمح بالتفاعل الكيميائي للملوثات للحدوث فوق سطحها وتحويلها إلى مواد أخرى غير ضارة نسبياً.

 

فوجود هذه العناصر الثمينة فرصة لا تُعوض لمن يريد أن يكسب من المال الحرام في كل أنحاء العالم، ولكن الرغبة في السرقة وتكرارها تعتمد على الفائدة التي يجنيها السارق من سرقة هذه العناصر، أي أنها تخضع لأسعار السوق لهذه المواد والتغيرات التي تطرأ عليها من عامٍ إلى آخر، إضافة إلى حاجة السوق إلى هذه المواد والطلب عليها من قبل مصانع التدوير وإعادة الاستعمال، فكلما ارتفع سعرها في السوق، ارتفعت الأرباح نتيجة لذلك، مما يؤدي إلى زيادة أعداد السرقات. 

 

فعلى سبيل المثال، وحسب إحصاءات "المكتب القومي لجرائم التأمين"( National Insurance Crime Bureau) في الولايات المتحدة الأمريكية والتي نشرتها المحطة الإخبارية الأمريكية إن بي سي في 22 يوليو من العام الجاري، فإن أعداد السرقات لهذه الأجهزة زادت من 108 في الشهر الواحد في عام 2018 إلى 2347 في ديسمبر 2020، وكان هذه الارتفاع المشهود في أعداد السرقات مرتبطاً مباشرة بارتفاع أسعار العناصر الثلاثة. كذلك فإن سعر كل جهاز يختلف حسب نوع السيارة وحجمها، فسعر هذه الأجهزة في بعض السيارات الغالية الثمن يصل إلى أكثر من 1400 دينار.

 

وجدير بالذكر فإن لفيروس وباء كورونا العصيب دوراً أيضاً في تغيير أسعار هذه العناصر، وزيادة الطلب عليها، وبالتالي ارتفاع أعداد السرقات، وقد أكد على هذه الظاهرة التحقيق المنشور في البلومبيرج في الثامن من مايو من العام الجاري تحت عنوان: "هناك مال وفير في سرقة أجهزة مكافحة التلوث في السيارات"، حيث أفاد بأن الازدياد في السرقات بلغ عشرة أضعاف في فترة كورونا نتيجة لتوقف العمال في بعض المناجم الخاصة بهذه العناصر عن العمل لإصابتهم بكورونا، فسعر الروديم، على سبيل المثال وصل رقماً قياسياً هو قرابة 380 ديناراً للجرام الواحد.

 

فهذه السرقة تؤكد لنا بأن للمخلفات عامة قيمة وسعر، ويجب أن نتعامل معها بأنها مواد خام تقوم عليها صناعات التدوير وإعادة الاستعمال وتشغل الكثير من الأيدي العاملة العاطلة عن العمل، فلا نعتبرها مواد لا فائدة منها نريد فقط التخلص منها بدفنها، كما أن هذه السرقة تُعلمنا بأن أسعار هذه المخلفات التي يتم تدويرها تتقلب يوماً بعد يوم حسب متغيرات السوق، ومتغيرات العرض والطلب على المستوى القومي والدولي، ولذلك يجب أخذ هذه النقطة في الاعتبار عند الشروع في إنشاء أي مصنع يقوم على تدوير أي نوع من أنواع المخلفات.

 

كما أن هذه السرقة تُنبهنا إلى قضية هامة جداً يجب أن لا نتجاهلها حفاظاً على صحتنا وسلامة بيئتنا، وهي أن هذا الجهاز الذي يعالج الملوثات قبل دخولها إلى الهواء الجوي، ويخلصنا من السموم والمواد الخطرة التي تنطلق عند حرق وقود السيارات، فهذا الجهاز مع الوقت، كغيره من الأجهزة والمواد التي تُستهلك في السيارة يفقد نشاطه، ولذلك يجب تغييره واستبداله بعد عدة سنوات من الاستعمال بجهاز آخر جديد وفاعل ونشط، لأن قدرة هذا الجهاز في معالجة الملوثات والتحكم فيها تنخفض مع الزمن، ثم تنتهي كلياً وكأنه غير موجود فعلياً فلا يعمل على إزالة الملوثات من عادم السيارات، وإذا لم نقم باستبداله فوراً فهذا يعني بأن ملوثات عادم السيارة السامة تنطلق كما هي إلى الهواء الجوي، فتعرضنا إلى الأمراض والعلل، كما تفسد في الوقت نفسه جودة الهواء الجوي.

 

ولذلك كما أن هناك أنظمة يجب تفعيلها بالنسبة للسماح بدخول أية سيارة إلى البلاد وهي تحمل معها جهاز معالجة الملوثات، علينا في الوقت نفسه إصدار نظام آخر يلزم صاحب السيارة إلى استبدال هذا الجهاز عند انتهاء فاعليته وعمره الافتراضي، إضافة إلى استحداث آلية عند الجهات المختصة لقياس فاعلية الجهاز أثناء الفحص السنوي للمركبات لضمان استمرارية عمله، وبالتالي الحفاظ على نوعية هوائنا، ووقاية أنفسنا من شر الأسقام والعلل الناجمة عن تلوث الهواء. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق