الأحد، 1 أغسطس 2021

مائة دولار لكل من يأخذ اللقاح؟

لم أكن أتصور بأن شعباً واعياً ومثقفاً ومتقدماً مثل الشعب الأمريكي يحتاج إلى حوافز مالية وإدارية لكي يُقبل على التطعيم ضد هذا الوباء العصيب المنتشر في شرايين العالم أجمع، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ خاص!

 

فكنت أتوقع من هذا الشعب المتحضر الذي يعيش في أكثر دول العالم رقياً وتطوراً أن يكون مُقبلاً طواعية ورغبة واقتناعاً من نفسه على أخذ اللقاح ضد الفيروس كورونا، ولم أتوقع من هذا الشعب الذي يقود العالم في العلم والمعرفة والتكنلوجيا أن يكون مُدبراً عازفاً عن التلقيح، بل وفي بعض الحالات يكون محارباً لكل من يعتزم أن يقي نفسه ضد المرض بأخذ اللقاح، ويقف حجر عثرة يعرقل عملية التلقيح الشعبي.

 

فهذا الواقع غير الحضاري والرجعي والذي أدى إلى انتشار الفيروس في كل ولايات ومدن أمريكا، وبخاصة هذه الأيام التي تفشى فيها الفيروس المتحور دلتا، اضطر الرئيس الأمريكي بايدن في 29 يوليو إلى الأمر بمجموعة من الحوافز المالية والإدارية والمعنوية وتقديم إجراءات محددة لتشجيع الناس على أخذ اللقاح.

 

فعلى سبيل المثال، ألزم موظفي الحكومة الاتحادية والمقاولين العاملين للحكومة على أخذ اللقاح، ومَنَحَ يوم إجازة لكل من يريد التطعيم ومواصلات مجانية إلى مواقع التطعيم، إضافة إلى دعوة حكومات الولايات إلى دفع مبلغ مائة دولار لكل من يأخذ اللقاح، وفي هذه المناسبة قال بايدن في البيت الأبيض: "اللقاح أفضل دفاع يمنعك من التعرض للمرض الشديد من كوفيد_19".

 

وهنا أريد أن أُجيب عن سؤالين متعلقين بهذه الظاهرة الغريبة التي نشهدها الآن في الولايات المتحدة الأمريكية،  الأول: لماذا اضطر بايدن إلى اتخاذ هذه الإجراءات المتعلقة بفيروس كورونا عامة، وبأخذ اللقاح بصفة خاصة؟ والسؤال الثاني فهو ما هي أسباب تردد الناس وعزوفهم عن أخذ اللقاح في الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر تقدماً وثقافة ووعياً؟

 

أما السؤال الأول فالإجابة عنه بسيطة ولا تحتاج إلى جهدٍ كبير، فالولايات المتحدة الأمريكية تحولت إلى بؤرة العالم بالنسبة لفيروس كورونا، وحققت الرقم القياسي في أعداد الوفيات والمصابين، ومن المعروف علمياً الآن إن استئصال هذا الوباء لا يكون إلا بتوسيع دائرة الأفراد الذين يأخذون اللقاح، حتى يتحصن المجتمع برمته ويقي نفسه من شر الإصابة بالفيروس.

 

وأما السبب الثاني ففي تقديري هو دخول السياسة في هذه القضية الصحية منذ المرحلة الأولى من ظهورها في المجتمعات البشرية، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى نشر المعلومات الخاطئة والمضللة حول الفيروس من رأس الهرم في أمريكا، وعدم الاهتمام بهذه القضية وتجاهلها منذ البداية، وبالتحديد من ترمب الرئيس السابق لأمريكا. فترمب سيس القضية، وتهاون معها، وقدَّم معلومات لا أساس لها من الصحة وليست لها أي دليل علمي، منذ أن كانت فيروساً مجهولاً انكشف في مدينة ووهان في الصين في ديسمبر 2019، ثم عندما تحول إلى وباء دولي في 13 مارس، وأخيراً عندما دخل مرحلة استخدام اللقاح كأداة فاعلة لمحاربة المرض. ومن المعلوم أن رئيس دولة كبرى ذي نفوذ قوي على العالم عندما يتكلم في التويتر، أو يلقى خطاباً، فستكون الآذان صاغية وسيسمعه كل إنسان في العالم، وربما يتأثر به، ويكون التأثير عادة أقوى وأشد في أمريكا، وبخاصة بين أنصاره في الحزب الجمهوري.

 

فعندما ظهر الفيروس أمام الملأ وكشف عن نفسه في الصين ثم في دول قريبة منها، كان موقف ترمب هو التجاهل واستصغار القضية، والتصريح مراراً وتكراراً بأن الفيروس "تحت السيطرة التامة". فعلى سبيل المثال قال في تغريدة في 24 فبراير 2020 بأن "فيروس كورونا تحت السيطرة في أمريكا"، وعندما وطأت أقدام الفيروس أرض الولايات المتحدة الأمريكية، قال في 26 فبراير 2020: "الـ 15 حالة في أمريكا ستنتهي خلال يومين وستصبح صفراً"، وأضاف: "إنه إنفلونزا. إنه يشبه الإنفلونزا". ثم أخذ يطمئن الأمريكيين ويقلل من شأن المرض ودور اللقاح في الوقاية منه، فقال عدة مرات بأن المرض سيختفي قريباً، منها في 10 مارس عندما صرح: "إنه سيختفي"، وفي 30 مارس 2020 قال: "إنه سيختفي..أنت تعلم بأنه سيختفي"، ثم ادعى قائلاً عندما زاد عدد الوفيات عن 80 ألف في 8 مايو 2020:"إن هذا سيختفي بدون اللقاح، إنه سيختفي ولن نراه مرة أخرى". ومع هذه التصريحات كان يعطي المواطن الأمريكي خاصة، والعالم أجمع، علاجات مضللة لا تستند إلى أي دليل، منها عندما قال في السابع من أبريل 2020 بأن دواء هيدروكسي كلوروكوين فاعل وآمن، بالرغم من تناقض هذا الادعاء مع آراء أطباء أمريكا، كما قال في 23 أبريل بأن تعريض الجسم للأشعة البنفسجية يقي الإنسان من الفيروس.

 

فكل هذه الأمثلة البسيطة لتصريحات أقوى رجل في العالم، والتي من المفروض أن تكون موثوقة وذو مصداقية عالية، كانت سبباً رئيساً في نشر المعلومات المضللة، وتكوين رأي عام يقلل من العدوى من الفيروس ويستهين به، كما أدت إلى تغيير المواقف والاتجاهات نحو أخذ اللقاح، وبخاصة بين أعضاء الحزب الجمهوري، وبالتحديد بين اليمين المسيحي المتطرف من البيض. بل وتحول الامتناع عن أخذ اللقاح إلى ثقافة عامة بين أعضاء هذا الحزب ومؤيديه، وبلغ درجة من العيب الاجتماعي والأخلاقي، بحيث إن من يقوم بأخذ اللقاح يعمل ذلك في السر والخفاء بعيداً عن أنظار العائلة حتى لا يقع في حرج معهم ولا يلام على فعلته، حسب التحقيق المنشور في المحطة الإخبارية سي إن إن في 29 يوليو.

 

وهناك عامل آخر سبَّب تردد الأمريكيين في أخذ اللقاح، وبالتحديد بين الأمريكيين من أصول أفريقية، نتيجة للتجارب والخبرات التاريخية السابقة التي عانوا منها. فعلى سبيل المثال، استخدمت الحكومة الأمريكية الفيدرالية في الفترة من 1932 إلى 1972 المئات من المواطنين الأمريكيين من الفقراء والمستضعفين وغير المتعلمين من السود كفئران تجارب لمتابعة ومراقبة تداعيات مرض السفليس على أجسادهم حتى آخر رمق من أرواحهم، ودون السماح لهم للعلاج من المرض في أي مستشفى في الولاية، بل وتوجيه كافة المراكز الصحية الحكومية إلى الامتناع عن تقديم المساعدة لهم في علاج هذا المرض الجنسي الخطير(لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في أخبار الخليج في الخامس من مارس 2021 تحت عنوان:" لماذا يخاف الأمريكي من أصول أفريقية من أخذ اللقاح؟.

 

فهذه هي بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف إقبال الأمريكيين على اللقاح، وبخاصة في المراحل الأولى من تقديمه للناس، ولذلك لا ألوم الرئيس بايدن إذا اضطر إلى تقديم حافر المائة دولار لتشجيعهم ورفع مستوى قبولهم للقاح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق