الاثنين، 23 أغسطس 2021

أزمة المياه الدولية

كارثة رهيبة تقع لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وانكشفت خيوطها في منتصف هذه الشهر الجاري، وبالتحديد في 16 أغسطس عندما نشرت بعض وسائل الإعلام تقارير وتحقيقات معمقة عنها وعن تداعياتها، ولكن هذا الحدث العصيب لم يأخذ حقه من التغطية الإعلامية والاهتمام من رجال السياسة والحكم على المستوى الاتحادي أو على مستوى الولايات، فقد نزلت على العالم في الوقت نفسه، وفي 15 أغسطس بالتحديد أحداث أفغانستان العجيبة والفريدة من نوعها وفي صورها في التاريخ البشري والمتمثلة في مشهد الدخول السلس والممهد لحركة طالبان في العاصمة كابل دون أية مقاومة بعد أن طُردوا منها قبل قرابة عشرين عاماً.

 

فهذه الحادثة الدولية وجهت البوصلة الإعلامية كلياً نحو أفغانستان، وتجاهلت وسائل الإعلام كلها جميع الأحداث الأخرى، أو جعلتها هامشية لا قيمة لها من الناحية الإخبارية، فاستصغرت كل الأخبار أمام ما وقع في أفغانستان من مظاهر فريدة لم يشهدها الإنسان من قبل، ومن تداعيات عظيمة كشفت حقيقة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

والآن بعد أن هدأت العاصفة وانتهينا من سخونة المشهد الأفغاني، الذي أشبعته وسائل الإعلام خبراً وتحليلاً وتحقيقاً، يحق لي أن أنتقل إلى المشهد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في الولايات الجنوبية الغربية من أمريكا، حيث تضرر أكثر من مليون أمريكي من هذه الكارثة العقيمة وفي أغلى وأهم شيء يحتاج إليه الإنسان وهو مياه الشرب، كما تأثرت ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية التي تُعتبر الرئة الغذائية لأمريكا، فأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة في تاريخها ممثلة في المكتب الأمريكي للاستصلاح(U.S. Bureau of Reclamation) في 16 أغسطس عن نقصٍ حاد مروع في تدفق مياه نهر كولورادو العظيم الذي ينبع من جبال روكي ويبلغ طوله 2333 كيلومتراً، ويغذي سبع ولايات، منها كولورادو، ونيفادا، وكاليفورنيا، ونيو مكسيكو، ويوتاه، ووُيومينج، وأريزونا، والذي هو بمثابة وأهمية نهر النيل بالنسبة لمصر والسودان وأثيوبيا، فلا حياة بدونه.

 

وهذا النقص والانخفاض في مستوى النهر أثر على أكبر مستودع وخزان يُجمع فيه الماء في أمريكا، وهو بحيرة ميد(Lake Mead) الواقعة بالقرب من مدينة لاس فيجس المشهورة في نيفادا، والذي نزل فيه مستوى الماء بدرجاتٍ خطيرة تهدد حياة الأربعين مليون من الشعب الأمريكي وتنذر بوقوع مجاعة عامة، حيث بلغ مستوى قياسي هو 1075 قدماً فوق مستوى سطح البحر، مما اضطرت الجهات المعنية بإدارة النهر وهذا المستودع المائي العظيم، ولأول مرة في أمريكا، إلى فرض آلية قطع وتقنين إمدادات المياه إلى المنازل والحقول الزراعية وغيرهما.

 

كما أن هذه الكارثة، وحوادث أخرى لها علاقة بها ووقعت في هذه الولايات، اضطر حكام هذه الولايات إلى إرسال خطاب التماس إلى الرئيس بايدن في 15 أغسطس يدعون فيه الرئيس بايدن إلى إعلان "كارثة الجفاف على المستوى الاتحادي"، حيث أكدوا فيه بأن الكارثة المائية التي تواجههم تتعدى وتفوق حدود قدراتهم وامكاناتهم في كل ولاية على حدة، وبحاجة إلى دعم ومساعدة اتحادية.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء نزول هذا الكرب العقيم على أكبر وأعظم وأغنى دولة في العالم وأكثرها تقدماً وتطوراً، ومن أهم هذه الأسباب هو عامل مشترك تعاني منه كل دولة من دول العالم الآن بدون استثناء، غنية كانت أم فقيرة، متقدمة ومتطورة كانت أم نامية ومتأخرة، فالجميع يقف سواسية أمام هذا السبب الذي يعُمُّ الآن الكرة الأرضية برمتها، فلا أحد بمنأى عن تأثيراتها السلبية الكبيرة، وهذا العامل الدولي المشترك هو التغير المناخي وتداعياته التي لا تعد ولا تحصى، والتي من أبرزها وأشدها وقعاً على المجتمعات البشرية هي سخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، والفيضانات في المناطق الساحلية، وحرائق الغابات، وزيادة نسبة الجفاف.

 

ومن أشد هذه الانعكاسات الناجمة عن التغير المناخي وطأة وتأثيراً هي ارتفاع حرارة الأرض، لما لها من مردودات تهدد حياة البشر بشكلٍ مباشر في كل شبرٍ من كوكبنا، وبخاصة بالنسبة للثروة المائية، وما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من فقرٍ مائي حاد في الولايات الواقعة في جنوب غرب أمريكا هو مثال واحد فقط قد يحدث في أية بقعة من الأرض، وهو الدليل الواضح والبيِّن أمام أعين الجميع لما ينجم عن أزمة التغيرات المناخية.

 

فارتفاع حرارة الأرض يغير من الدورة المائية الطبيعية للكرة الأرضية برمتها ويخل من توازنها، إضافة إلى تأثيراتها المحددة في كل منطقة جغرافية، فسخونة الأرض تؤثر على ذوبان الثلوج، وسخونة الأرض تزيد من مستوى تبخر الماء في الأنهار والبحيرات والمستودعات المائية التي تغذي المجتمعات بحاجاتها اليومية لشريان الحياة، فيزيد من نقصان الماء فيها. ففي حالة الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ارتفاع حرارة الأرض وزيادة درجة تبخر الماء أدى إلى فقدان قرابة ستة أقدام من الماء من خزان بحيرة ميد سنوياً، أي خسارة نحو 300 بليون جالون سنوياً من الماء الذي لا حياة بدونه بالنسبة للمجتمعات التي تعتمد عليه، حسب التقرير المنشور في مجلة "العلمي الأمريكي" في 19 مارس 2020 تحت عنوان: "نهر كولورادو يهدده مستقبل جاف".

 

إذن فأزمة الشح في المياه في بعض دول العالم ليست كما هو الانطباع السائد من قبل بأنها أزمة خاصة في المناطق الصحراوية والجافة والقاحلة، وإنما هي أزمة حقيقية واقعة بدأت تنكشف اليوم في كل دول العالم، الصحراوية وغير الصحراوية، بل وانكشفت في الدول التي تجري من تحتها الأنهار وتعج بالبحيرات العذب الفرات، فأزمة الفقر المائي تحولت مع اشتداد تداعيات التغير المناخي وسخونة الأرض من ظاهرة محلية أو إقليمية إلى ظاهرة دولية عامة.

 

والتقييم، أو التقرير السادس الذي يصدر منذ عام 1988 حول التغير المناخي يُشير إلى أن أزمة المياه أصبحت الآن دولية، وأخذت تتفاقم يوماً بعد يوم مع زيادة تداعيات التغير المناخي، مثل سخونة الأرض والموجات الحرارية، ونزول الفيضانات، وارتفاع درجات الجفاف وحرائق الغابات. فهذا التقييم الأخير المنشور في التاسع من أغسطس والصادر من "الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي"(Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC))، والذي يحتوي على 4000 صفحة، يؤكد على هذه الحقيقة والمظاهر الحية التي نشاهدها أمامنا.

 

كما أن هذا التقرير الجديد، والجزء الثاني من هذا التقرير المختص بتأثير الأزمة المناخية على الموارد المائية، والذي سيصدر في فبراير 2022، يؤكدان مرة ثانية على معادلة بسيطة قديمة مُلخصها أننا إذا استمرينا في اطلاق الملوثات بهذه النسبة والدرجة الحالية العالية فإن تأثيرات التغير المناخي ستتفاقم وستكون كارثية تهدد استدامة كوكبنا، وستكون هذه التأثيرات والأضرار الناجمة غير رجعية، أي لا يمكن إرجاع الحال إلى ما كُنَّا عليه في الماضي.

 

وهذا القرار المصيري في يد الدول الصناعية المتقدمة التي تتحمل مسؤولية تلوث الهواء منذ أكثر من قرنين من الزمان وهذا الوضع المناخي المأساوي الذي توصلنا إليه الآن، فماذا ستفعل هذه الدول تجاه هذه المسؤولية الأخلاقية؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق