الخميس، 19 أغسطس 2021

الشعوب الغنية أكثر تلويثاً للبيئة من الفقيرة


دراسة علمية فريدة من نوعها من حيث أهدافها ونتائجها، وتهم كل رجال السياسة  والنفوذ وكل متخذ قرار في جميع دول العالم، فهذه الدراسة تربط بين تدهور البيئة، وبالتحديد تلوث الهواء وارتفاع أعداد الوفيات من هذا التلوث، كما أنها تبين العلاقة الإيجابية الحميمية بين تدهور جودة الهواء المتمثل في انبعاث الملوثات من حرق الوقود الأحفوري عامة والذي يؤدي على انكشاف ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض وازدياد حالات الموت بين البشر في كل دولة من دول العالم.

 

وإثبات هذا الربط الواقعي بين التلوث عامة وموت الإنسان من المفروض أن يقنع ويحفز المعنيين بسن القوانين ومتخذي القرار ويشجعهم على اتخاذ القرارات المستدامة التي تضرب عصفورين بحجر واحد، فهي من ناحية تحمي صحة البيئة وتقي مكونات البيئة من شر الملوثات السامة والخطرة، وفي الوقت نفسه عندما تقوم بذلك فأنت تحافظ على الأمن الصحي للإنسان والكائنات الحية الأخرى التي تعيش معنا.

 

فهذه الدراسة التي قامت بها جامعة كولومبيا الأمريكية بالتعاون مع جامعات أخرى ونُشرت في مجلة "اتصالات الطبيعة"( Nature Communications)في 29 يوليو 2021، بحثتْ في قضية تداعيات التغير المناخي التي تشهدها الكرة الأرضية الآن من ناحية "الكلفة الاجتماعية للكربون"، وبالتحديد دخلت بالتفصيل في العلاقة بين أحد هذه التداعيات فقط للتغير المناخي، وهو المتعلق بسخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها، والتي تنتج منها الموجات الحارة القاتلة التي تضرب الكثير من الدول في أشهر الصيف، وبخاصة في الدول الغربية الباردة.

 

وقد تمخضت عن الدراسة عدة استنتاجات لها جوانب متعددة يمكن الاستفادة منها في التعرف على حجم الضرر الكبير الواقع على البشرية جمعاء من ظاهرة التغير المناخي ورفع حرارة الأرض، إضافة إلى دور سلوك البشر في مختلف دول العالم ونمط حياتهم اليومي في تفاقم هذه الظاهرة المهلكة للحرث والنسل والحجر والشجر، كما أوجدت الدراسة بأن التغير المناخي المتمثل في ارتفاع حرارة الأرض يؤدي إلى موت البشر.

 

ومن هذه الاستنتاجات الفريدة تلك التي تُبرز تهديد التغير المناخي وسخونة الأرض لصحة الناس ومن ثم الموت المبكر، كما تشير الدراسة إلى أن سلوك البشر وممارساتهم وتصرفاتهم اليومية من ناحية استهلاك الإفراط في استخدام الكهرباء والسيارات وغيرهما من الأنشطة التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري هي التي ترفع أو تخفض من أعداد الوفيات.

 

فعلى سبيل المثال، الإنسان في الدول الغربية والصناعية المتقدمة والغنية مثل الولايات المتحدة الأمريكية يستهلك موارد الطاقة أكثر من غيره من الدول في توليد الكهرباء وسياقة السيارات والطائرات والقطارات، ويستنزف وقود أكبر، مما يزيد من انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول في سخونة الأرض، وبالتالي فإن مسؤولية الإنسان الأمريكي أكبر وأشد من الإنسان في الدول الفقيرة والنامية في حدوث ظاهرة التغير المناخي وموت البشر وتدهور الثروات الطبيعية لكوكبنا من الناحيتين النوعية والكمية. فهذه الدراسة تُقدم أيضاً تحليلاً كمياً رقمياً لهذه الفرضية، فتفيد بأن ثلاثة من المواطنين الأمريكيين يولِّدون ويُطلقون طوال سنوات حياتهم كميات وأحجام من ثاني أكسيد الكربون الناجمة من حرق الوقود والمسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض تكفي لقتل إنسان واحد، وفي المقابل فإن عدد البشر الذين يسببون موت إنسان واحد في الدول الفقيرة منخفضة الاستهلاك للوقود يرتفع كثيراً، فعلى سبيل المثال، 25 برازيلياً و 146 نيجيرياً يُطلقون غاز ثاني أكسيد الكربون طوال عمرهم ليتسببوا في موت إنسان واحد!

 

كذلك فإن الدراسة توصلت إلى حجم غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث إلى الهواء الجوي والمسؤول عن قتل إنسان واحد وموته مبكراً وهو في ريعان شبابه، حيث قدَّرت بأن هذا الحجم هو 4434 طناً من ثاني أكسيد الكربون الذي يسهم في حدوث هذه الموجات الحرارية القاتلة في مواسم الصيف خاصة، كما شهدنا هذا العام وعاصرنا موت الآلاف من البشر وإصابتهم بنوبات الحر الشديدة.

 

وجدير بالذكر فإن هذه الأرقام والتقديرات التي توصلت إليها الدراسة حول دور التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض في حصد أرواح البشر، تُعد تقديرات منخفضة جداً وأقل من الواقع المشهود، حيث إن البحث أخذ في الاعتبار عند عملية التحليل أحد الانعكاسات والتداعيات الناجمة عن التغير المناخي، وهو ارتفاع حرارة الأرض فقط، ولم يأخذ في الحسبان، ولم يقم بدراسة التداعيات الأخرى الكثيرة التي يسببها التغير المناخي، مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة المياه السطحية، والفيضانات في المناطق الساحلية، والأعاصير والعواصف البحرية الساحلية، وتدهور المحاصيل الزراعية، وحرائق الغابات، فجميع هذه التداعيات لو أُخذت عند إجراء التحليل لرفعت وزادت من أعداد الوفيات الناجمة من تداعيات التغير المناخي.

 

وبعد هذه الدراسة العملية، فإننا بحاجة ماسة إلى دراسات وأبحاث أكثر شمولية وأعمق تركز على جانبين مهمين يؤثرون على رجال النفوذ والسياسة والتشريع عند اتخاذ القرار ووضع التشريعات، وهذان الجانبان هما أولاً أن تدهور البيئة عامة يؤدي إلى تعريض الناس للأمراض المزمنة والحادة والموت المبكر نتيجة لهذا التدهور البيئي، مما يعني بأن فساد مكونات البيئة من ماء وهواء وتربة يكلف الإنسان غالياً فهو يحصد أرواح البشر بعد أن يوقعهم أولاً في شباك الأمراض التي لا علاج لها. وأما الجانب الثاني فهو الكلفة المالية الباهظة لهذا التدهور البيئي، فيجب على الجميع أن يعلم بأن تلوث البيئة لن يكون مجانياً وإنما ينعكس اقتصادياً على ميزانية الدول ويرهق كاهل مصروفاتها، فعندما نلوث الهواء الجوي فلهذه الممارسة كلفة نقدية عالية، وعندما نلوث البيئة البحرية فهناك مردودات اقتصادية كبيرة تنعكس على ميزانية الدولة، وعندما ندمر أشجار القرم الساحلية، أو الشعاب المرجانية في البيئة البحرية بسبب أعمال الحفر والدفان وتلوث مياه البحر، فإن لهذه العمليات خسائر اقتصادية عظيمة يجب حسابها وضمها في بند الخسائر الناجمة عن المشروع التنموي البحري، مما يؤكد بأن دراسات الجدوى الاقتصادية التي تُجرى لكل مشروع تنموي يجب أن تضم العنصر البيئي كجزء رئيس من هذه الدراسات.

 

فمكونات البيئة إذن ليست سلعاً مجانية لا قيمة لها ولا وزن اقتصادي، فيقوم الإنسان بتدميرها نوعياً وكمياً متى يشاء وكيفما يشاء دون حساب أو كلفة باهظة يتحملها، وإنما هي سلع غالية لها ثمنها، ولها قيمتها النقدية، وهي على المدى البعيد تعيق تحقيق التنمية المستدامة في كل دول العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق