الأربعاء، 26 يونيو 2024

الكيان الصهيوني ارتكب جميع أنواع الإبادة

 

هناك ثلاثة أنواع من الإبادة الشاملة والجماعية التي يمكن القيام بها ضد المجتمعات البشرية، وكل هذه الأنواع قام بها الكيان الصهيوني خلال أشهر الحرب الهمجية والبربرية على غزة، وبالتحديد منذ السابع من أكتوبر 2023. وهذا الإجرام الشامل والجماعي في حد ذاته سابقة تاريخية تُمثل صفحة سوداء مظلمة في تاريخ الإنسانية، فلم يشهد التاريخ قط في عمره الطويل، قيام أية جهة في أية بقعة من عالمنا الواسع الكبير بكل أنواع الإبادة لأي مجتمع من المجتمعات حول العالم في وقت واحد، وفي زمن محدود وقصير جداً من عمر الحروب.

 

فمن أكثر أنواع الإبادة الجماعية شيوعاً وتوثيقاً ووضوحاً هو الإبادة الجماعية للبشر(Genocide). حيث تم تعريفها بأنها: "التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم، أو جنسيتهم، أو دينهم، أو أصلهم"، وهذه الإبادة الجماعية للبشر صُنِّفت بإجماع كل دول العالم، كجريمة حرب على المستوى الدولي، كما أن هناك اتفاقيات دولية قد وثقت وعرَّفت بالتفصيل هذا النوع، وأولها اتفاقية جنيف لعام 1948.

 

فالأمم المتحدة اعترفْت رسمياً بعدة مجازر بشرية وقعت في العقود القليلة الماضية وصنفتها كجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، منها الكارثة الإنسانية الشاملة في رواندا، ومجرة صبرا وشاتيلا على يد الصهاينة، والإبادة الجماعية للمسلمين البوسنيين على يد الصرب في سربرنيشا.

 

واليوم نشهد إبادة جماعية للإنسان في غزة بالصوت والصورة وبالنقل المباشر حياً أمامنا دقيقة بدقيقة، وساعة بساعة، فلا يحتاج إثابتها إلى دليل علمي، أو تقارير من الأمم المتحدة، ولا يستطيع أحد أن ينكر وجودها، ويتجاهل وقوعها. وبالرغم من ذلك فإن محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة قد اعترفت رسمياً بهذه الإبادة الجماعية، كما اعترفت بها أيضاً منظمة أممية أخرى هي المفوضية السامية لحقوق الإنسان في تقريرها الأخير الصادر في 18 يونيو 2024.

 

والنوع الثاني من الإبادة الجماعية التي تعترف بها منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة هي الإبادة الشاملة للحجر والمرافق العامة والخاصة، حيث تُصنَّف كذلك كجريمة حرب دولية.

 

وهنا أستطيع أن أُقسم هذا النوع إلى صنفين رئيسين، الأول الإبادة الشاملة للسكن والعمارات والمباني التي يقيم فيها ويسكن فيها الإنسان، حيث لا يمكن للإنسان العيش حياة كريمة ومنتجة ومستدامة بدون هذه المساكن التي تأويه. والثاني فهو الإبادة الشاملة للتراث البشري، وتدمير المرافق العامة والخاصة التي لها بعد ثقافي وإنساني، ليس على مستوى الدولة نفسها فحسب، وإنما على مستوى البشرية جمعاء.

 

أما الصنف الأول فيُطلق عليه رسمياً مصطلح "دُوْمِيسَيدْ"( domicide)، وأصله عبارة لاتينية مكونة من كلمتين، الأولى (domus) بمعنى بيت ومنزل، والثانية (cide) أو (caedo)بمعنى القتل المتعمد، والتعريف الدولي هو: "التدمير المتعمد الشامل لأماكن السكن مما يجعل المنطقة غير صالحة وغير ملائمة للحياة"، كذلك هناك تعريف آخر: "التدمير المتعمد والمنهجي للمنازل والبنية التحتية الأساسية بحيث يصبح المكان غير قابل للسكن والحياة".

 

أما على مستوى الأمم المتحدة، ففي 28 أكتوبر 2022 نشرتْ "مفوضية الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان" تقريراً من إعداد "بالاكريشنان راجاغوبال"(Balakrishnan Rajagopal) المقرر الخاص بالحَقْ في السكن اللائق. وجاء التقرير تحت عنوان: "يجب الاعتراف بالـ "دُوْمِيسَايد" كجريمة دولية"، وأكد في التقرير الذي عُرض على الجمعية العمومية للأمم المتحدة على أهمية الاعتراف بهذا النوع من الإبادة الشاملة كجريمة حرب دولية انطلاقاً من القانون الدولي.

 

وفي 29 يناير 2024، نَشر هذا المقرر الأممي الخاص بالسكن اللائق مقالاً في صحيفة "النيويورك تايمس"، تحت عنوان: "لماذا يجب تصنيف "الدوموسيد" كجريمة ضد الإنسانية"، حيث أكد بأن ما حدث في غزة من تدمير شامل للسكن والبنية التحتية الخدمية للمدنيين يرقى إلى جريمة حرب، لما فيها التعدي الواضح على حقوق الإنسان الأساسية والتي منها حقه في السكان المناسب والملائم الذي يجعله يعيش حياة كريمة ولائقة. وعلاوة على ذلك، فقد تم تدمير البنية التحتية الخدمية بشكل كامل كمحطات توليد الكهرباء، والماء، ومعالجة مياه المجاري وغيرها.

 

وأما الصنف الثاني فهو الإبادة الشاملة للتراث الإنساني التاريخي، وهناك معاهدة أممية تُشرف عليها منظمة "اليونسكو" حول التراث الإنساني الطبيعي من جهة والتراث الإنساني الثقافي والتاريخي من جهة أخرى. فبالرغم من التدمير الشامل لهذا النوع من الإرث الإنساني الفريد من نوعه، إلا أن الأمم المتحدة لم تُصنفه بعد ضمن تصنيفات الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية. فما حدث في غزة خسارة ثقافية وتراثية إنسانية ليس للمجتمع الإسلامي العربي فحسب، وإنما للمجتمع المسيحي واليهودي الدولي على حدٍ سواء.

 

فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك "المسجد العمري العظيم" الذي تم تدميره، ولهذا الجامع الأثري أهمية كبيرة من الناحية التاريخية، والثقافية، والفنية المعمارية، حيث يُقدر عمره بأكثر من 1500 عام، وشهد تغييرات كثيرة في هويته. كذلك هناك الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي تقع في حي الزيتون القديم وتُعتبر ثالث أقدم كنيسة في العالم على الإطلاق، حيث تَعُود أصولها إلى القرن الخامس أو عام 407، وتُعرف بكنيسة القديس "برفيريوس"( Saint Porphyrius).

 

وأما النوع الثالث والأخير للإبادة الجماعية التي ارتكبتها أيدي الغدر والهمجية في غزة، فهو التدمير الشامل للبيئة الطبيعية الحية الأصلية، أو الإبادة الشاملة للتنوع الإحيائي الفطري من الأشجار القديمة المعمرة، والمزارع والحقول المثمرة، والمتنزهات والحدائق العامة، والبيوت الزجاجية. وهذا النوع من الإبادة يُطلق عليه(topocide) أو (ecocide ). ويُعرَّف هذا المصطلح بأنه "التغيير المتعمد، أو التدمير المنهجي الشامل للبنية الطبيعية، والبيئة الطبيعية الأصلية الفطرية التي خلقها الله من خلال التمدد والتوسع الصناعي، بحيث لا يمكن ارجاعها مرة ثانية إلى طبيعتها"، أو في حالة غزة من خلال العمليات العسكرية الممنهجة والمتعمدة. 

 ففي حالة غزة هناك تدمير متعمد للبنية التحتية الزراعية التي توفر الغذاء للشعب في غزة، وتدميرها يعني القضاء على مصدر فطري طبيعي للغذاء لسكان غزة، مما يهددهم بسوء التغذية والمجاعة، كما هو حاصل الآن(راجع تحقيق صحيفة الواشنطن بوست في 4 مايو 2024 تحت عنوان: "الهجمات الإسرائيلية دمرت قدرة غزة على زراعة غذائها"). وهذه البيئة الطبيعية الزراعية التي كانت تزود الناس بالغذاء تم تدميرها وجرفها وإزالتها إما عن طريق المتفجرات الحارقة والصواريخ المدمرة، أو عن طريق الجرافات والآليات الثقيلة التي دهستها فدمرت التربة الزراعية.

 

فهل بعد هذا العرض المقتضب هناك من يشك في أن هذا التدمير الشامل والجماعي في مكان واحد ووقت واحد للبشر، والشجر، والحجر، والتراث الثقافي الإنساني، والسكن لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية جمعاء؟

 

وهل يشك أحد بأن هذا الكيان الصهيوني البربري قام بما لم يقم به أحد في تاريخ الإنسانية من ارتكاب كل أنواع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضد الإنسانية في وقت واحد، ومكان واحد، وفي فترة زمنية قصيرة جداً؟

 

السبت، 22 يونيو 2024

الزيادة السكانية وتلوث أنهار أوروبا

 

سباق "الترياثِلُون" على نهر التايمز في ضواحي لندن في 9 يونيو 2024 لم يكن كباقي السباقات الرياضية التي أُجريت في المرات السابقة. فهذا النوع من أنواع الرياضات يتطلب التنافس في الوقت نفسه في ثلاثة أنواع من الرياضات المعروفة، وهي السباحة في البحر، أو النهر، أو البحيرة، ثم الجري، وأخيراً ركوب الدراجة.

 

فالأمر الغريب الذي وقع هذه المرة كان في الجزء المتعلق بالسباحة في نهر التايمز اللندني العريق الذي يُعد من أهم معالم لندن، حيث خرج أكثر من 35 متسابقاً مسرعين ومتألمين قبل الانتهاء من المسافة المطلوبة للسباحة، ولكن لم يكن بسبب التعب، أو الإرهاق من المسافة الطويلة التي يجب أن يقطعها المتسابق لينهي هذا الجزء من السباق، ولكن خرجوا متوجهين مباشرة إلى المستشفى، وهم يعانون من وعكة عقيمة وأعراضٍ مرضية حادة، تتمثل في الإسهال الشديد، والشعور بالدوار والغثيان، وآلام في البطن، وبعضهم تقيأ دماً، علماً بأن هذه الأعراض المرضية الحادة استمرت معهم عدة أيام.

 

وبعد إجراء التحاليل المطلوبة والاختبارات اللازمة لمثل هذه الحالات لمياه النهر من جهة، ودم المتسابقين المرضى من جهة أخرى، تأكد بأن المتسابقين كانوا يسبحون في مياه نهر التايمز التي كانت ملوثة ومسمومة بمياه المجاري الخام وغير المعالجة التي تصرف مباشرة في مياه النهر بشكل دوري مستمر منذ سنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، أفادت التقارير بأنه قرابة 72 بليون لتر من مياه المجاري تم صرفها في نهر التايمز في لندن خلال سنتين فقط. 

 

ولذلك مع السنوات الطوال من صرف مياه المجاري مباشرة إلى بطن النهر، تحول نهر التايمز التاريخي المعروف وطنياً وعالمياً إلى مستنقع آسن مشبع بمياه المجاري، حتى أن عمدة لندن، صادق خان، وصف هذه الحالة الصحية والبيئة الكارثية التي وصلت إليها مياه النهر بأنها "مصدر إحراج وطني"، كما أعلن بأن مياه النهر غير صالحه وغير آمنة كلياً للسباحة الآن، وأن جهود التنظيف وإعادة التأهيل ستستغرق قرابة عشر سنوات. أي أن الشعب البريطاني، وبخاصة أهل لندن وضواحيها سيكونون محرومون أكثر من عقد من الزمان بالتمتع بهذه الطبيعة النهرية الجميلة، وهذه الهبة الربانية لشعب بريطانيا.

 

وجدير بالذكر فإن هذه الحالة البريطانية ليست مقتصرة على بريطانيا العظمى فقط، وإنما أصبحت الآن ظاهرة تعاني منها بعض الدول المشهود لها تاريخياً بالرقي والتطور، كفرنسا العريقة على سبيل المثال لا الحصر.

 

فمدينة باريس هذه الأيام في سباق محتدم مع الزمن بسبب الاستعداد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي ستنطلق في 26 يوليو، فعليها تجهيز واعداد كافة الملاعب التي ستُقام عليها المنافسات والألعاب الرياضية وجعلها صالحة للرياضيين وتتوافق مع المعايير الأولمبية المعتمدة والاشتراطات الدولية. ومن بين هذه الملاعب هو نهر السين(Seine) الذي سيحتضن مختلف أنواع الرياضات المائية، وبخاصة السباحة. ولكن هذا الملعب الرياضي يعاني من مشكلة صحية وبيئية مزمنة، وهي عدم صلاحيته للمتسابقين. فهذا النهر العظيم يعاني من تدهور شديد في جودته ونقاوته، فهو غير آمن وغير صحي للسباحة فيه بسبب التلوث الحيوي البكتيري المزمن والمرتفع جداً منذ سنوات طويلة جداً والناجم عن صرف مياه المجاري.

 

ولكن لماذا تقوم دول متقدمة وعريقة في مجال البيئة والصحة العامة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وغيرهما من الدول المتطورة بمثل هذه الممارسات الرجعية التي لا نشاهدها إلا في الدول الفقيرة والمتأخرة التي تفتقر إلى الوعي والتعليم، وينقصها المال والقناعة السياسية لمعالجة مياه المجاري وإنشاء المحطات اللازمة لذلك؟ فلماذا تضطر هذه الدول إلى صرف مياه مجاري خام مشبعة بكافة أنواع الجراثيم المسببة للأمراض والعلل الحادة، إضافة إلى الملوثات الكيميائية الخطرة في قلب الأنهار؟

 

في تقديري فإن السبب الرئيس هو عدم مواكبة وملاحقة تطوير وإنشاء الخدمات الضرورية والأساسية للبرامج التنموية والعمرانية والصناعية، مما يعني بأن التنمية في هذه الدول كانت تسير بخطى أسرع بكثير، وتنمو بشدة أكبر من بناء وتحديث الخدمات العامة، والتي من المفروض أن تصاحب وتنمو مع نفس نمو البرامج التنموية جنباً إلى جنب، وخطوة بخطوة.

 

فإذا زاد عدد السكان، سواء من الذين يقيمون أصلاً في البلاد، أو من الزوار المقيمين فترة طويلة، أو من السياح والأجانب، فإن هذه الزيادة السكانية تُشكل عبئاً على المرافق والخدمات العامة الموجودة في البلاد، سواء أكانت خدمات معالجة مياه المجاري، أو توفير مياه الشرب، أو الطرق، أو العلاج الصحي، أو خدمات جمع ومعالجة المخلفات الصلبة، أو الخدمات التعليمية، أو خدمات الطرق وغيرها من المرافق الخدمية الضرورية.

 

ولذلك إذا كانت هذه الزيادة السكانية لا تصاحبها في الوقت نفسه زيادة وتحديث وتوسعة في الخدمات العامة، فستمثل ذلك ارهاقاً على جودة هذه الخدمات، وتسبب لها تشبعاً سلبياً، فتتحول مع الوقت إلى مرحلة ما فوق التشبع، فتتدهور كل هذه الخدمات، وتتحول التنمية إلى نقمة وبلاء بدلاً من أن تكون نعمة ورخاء.

 

فمع الزيادة السكانية، ترتفع أحجام مياه المجاري، وإذا لم توجد محطات معالجة ذات كفاء تشغيلية عالية، وبقدرتها استيعاب الأحجام المتزايدة من المجاري، فإن مصيرها سيكون بصرفها في المسطحات المائية، أو البرية، أو أية مسطحات أخرى. وهذا ينطبق على مياه الشرب، والقمامة المنزلية، والازدحام في الطرق وأمام المستشفيات والمراكز الصحية ومحطات المحروقات وكافة الخدمات الأخرى.

 

فهذا ما حدث في الدول العظمى المتقدمة التي لم تتمكن فيها الخدمات من استيعاب وتحمل ومواكبة أعباء البرامج التنموية المختلفة والمتنوعة المتزايدة والمتسارعة، سواء من ناحية تحديث وتأهيل المرافق الخدمية القديمة، أو توسعتها، أو بناء مرافق حديثة وجديدة، فكانت النتيجة عكسية ومَرَضية، وفساد صحي وبيئي عام.

 

فهذا الدرس من الدول الغربية المتطورة يجب أن نقف عنده كثيراً، ونعتبر منه، ونتجنب الوقوع فيه، حتى تصبح التنمية أداة بناء ورقي للجميع، وآلية لتحسين معيشة المواطن والمقيم على حدٍ سواء.