الاثنين، 23 سبتمبر 2024

غيِّرْ نَمَطْ حياتك وتجنب السرطان

 

من حسن الحظ أن العلماء بعد عقود طويلة وشاقة من الزمن، وبعد دراسات معمقة ومستفيضة أُجريت في مختلف دول العالم، أجمعوا على بعض العوامل التي تُشكل خطراً مشهوداً وتهديداً لصحة الإنسان، وتُعتبر من الأسباب التي تُسهم في سقوط الإنسان في هذا المرض العضال، وهو السرطان بأنواعه الكثيرة المختلفة.

ولذلك من الضروري التعرف عن كثب على جميع عوامل الخطر والتهديد الصحي للإصابة بالسرطان من أجل درء هذا الوباء العقيم عن أنفسنا وأهلنا ومجتمعنا، ومنع أجسادنا من الوقوع ضحية وفريسة سهلة لهذا المرض العقيم.

ومن الأسباب والعوامل الرئيسة والموثقة التي بيد الإنسان التحكم فيها، والسيطرة عليها، ومنعها كلياً من حياته وممارساته وعاداته اليومية هي التدخين، سواء السجائر التقليدية، أو السجائر الإلكترونية، وسواء كانت تحت مسمى الشيشة، أو غير ذلك من المسميات الأخرى الكثيرة. والتدخين كما هو معروف عند الأطباء لا يؤثر على المدخن نفسه فيصيبه بالسرطان، وبالتحديد سرطان الرئة والفم والحنجرة، وإنما يمتد تأثيره على الجالسين والمرافقين مع المدخن، والذي يُطلق عليه بالتدخين القسري، أو التدخين السلبي.

كما أن هناك العامل الثاني المرتبط أيضاً بسلوك الإنسان، والذي بإمكانه أن يتجنبه ويقطعه كلياً من حياته وهو شرب الخمر، علماً بأن المجتمع الطبي يؤكد بأن شرب الخمر يسبب عدة أنواع من السرطان منها الكبد، والفم، والبلعوم، والحنجرة، والمريء، والعنق. ومن عوامل الخطر والتهديد الصحي للوقوع في السرطان هو التعود على نمط حياة الكسل والخمول وقلة الحركة، وعدم ممارسة أي نوع من أنواع الرياضة الكثيرة والمتنوعة، أو عدم القيام بأي نشاط جسدي وعضلي بشكلٍ يومي مستدام.

كذلك من الأسباب الأخرى التي بقدرتنا أن نتعود على القيام بها يومياً في حياتنا هو تناول الوجبات الصحية من حيث الكمية والنوعية، إضافة تناول الخضروات والفواكه الطازجة والألياف، إضافة إلى تجنب استهلاك اللحوم الحمراء والخضروات المعالجة. ومن العوامل التي بدأت تتفشى في الكثير من المجتمعات، وبخاصة بين الأطفال والشباب هو الوزن الزائد المفرط، أو السمنة والبدانة نتيجة لقلة الحركة والنشاط الرياضي وسوء التغذية من الناحيتين النوعية والكمية، والإفراط والإسراف في الأكل والشرب. وعلاوة على ما سبق، هناك التعرض للأشعة فوق البنفسجية سواء من الشمس كمصدر طبيعي لهذه الأشعة الضارة والمسرطنة، أو المصدر الذي من إنتاج وصنع البشر، ومن أخطره تهديداً للصحة هو مصابيح "التانينج"(Tanning) التي يتعرض لها الفرد طواعية وبإرادته الكاملة لتغيير لون جلده وبشرته إلى اللون البرونزي الذهبي، مما يسبب لنفسه مخاطر الإصابة بسرطان الجلد، وبالتحديد النوع الأشد خطورة وهو الميلانوما.

وآخر دراسة طبية سبرت غور هذه القضية الصحية العامة الخاصة بكل إنسان يعيش على سطح الأرض، وتعاني منها كل مجتمعات العالم، نُشرت في 11 يوليو 2024 في مجلة "الجمعية الأمريكية للسرطان" تحت عنوان: " نسبة وعدد حالات السرطان والوفيات التي تُعزى إلى عوامل الخطر المحتملة القابلة للتغيير في الولايات المتحدة في عام 2019". فقد قام هذا البحث إلى تقييم "عوامل الخطر" التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان، وتُسهم في ارتفاع أعداد المصابين حول العالم. والهدف هو معرفة هذه العوامل الخطرة، ونسبة مساهمة كل منها في احتمال الإصابة بثلاثين نوعاً من أنواع السرطان المعروفة عند المجتمع الطبي. فالتعرف على هذه العوامل تساعد الإنسان على اتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لمنع وتجنب السقوط في السرطان والوقاية منه، وحماية الجسم من المعاناة من هذا المرض الخبيث.

 

وقد شملت عينة الدراسة الشباب الأمريكيين الذين تبلغ أعمارهم 30 عاماً فما فوق في عام 2019، و 30 نوعاً من السرطان منها: سرطان تجويف الفم، الحنجرة، المريء، المعدة، القولون والمستقيم، الكبد، الرئة، البنكرياس، تجويف الأنف، الرحم، المبيض، المثانة، الدم، العنق، الثدي، الجلد، الكلية، المخ.

 

وقد تمخضت عن الدراسة النتائج التالية:

أولاً: قرابة 40% من جميع حالات السرطان، أي 713340 حالة من اجمالي الحالات السرطانية، والتي بلغت  1781649، باستثناء سرطان الجلد غير الميلانوما، و 44% من الوفيات من جميع أنواع السرطان، أي 262120 من إجمالي 595737 بين الشباب، كانت لها علاقة بعوامل الخطر التي يستطيع كل إنسان تجنبها والابتعاد عنها. وهذه النتيجة تؤكد بأن الإنسان يستطيع وقاية نفسه من هذا المرض إذا تجنب العوامل والمسببات التي ذكرناها سابقاً، أي أن الإنسان إذا غيَّر نمط وأسلوب حياته، وترك العادات والممارسات السيئة غير الصحية وغير السليمة للجسم، فإنه يستطيع تجنب هذا المرض العقيم إن شاء الله.

 

ثانياً: أما بالنسبة لأشد العوامل السابقة الذكر خطورة وتهديداً لصحة الإنسان من شر الوقوع في السرطان فهو التدخين بكل أنواعه وصوره ومسمياته، حيث أسهم في 19.3% من حالات السرطان، وتسبب في وفاة 28.5%، ثم في المرتبة الثانية من ناحية المخاطر فقد جاء الوزن المفرط والبدانة والسمنة، حيث تمثل في 7.6% من الحالات، و 7.3% من الوفيات. وفي المرتبة الثالثة كان شرب الخمر، بنسبة 5.4% من حالات السرطان و 4.1% من الوفيات.

 

ثالثاً: أما بالنسبة لأكثر حالات السرطان علاقة بعوامل الخطر، فقد كان الأول والأعلى سرطان الرئة من حيث عدد الحالات، حيث بلغت 201660 حالة مرضية، و 122740 وفيات، ثم جاء ثانياً سرطان الثدي عند النساء وعدد الحلات 83840 حالة، وثالثاً كان سرطان الجلد(ميلانوما) بـ 82710 حالة، وسرطان القولون والمستقيم 78440 حالة، والوفيات بالنسبة لسرطان القولون والمستقيم بلغت 25800 حالة وفاة، والكبد 14720، والمريء 13600 حالة وفاة.

 

ومثل هذه الدراسة، ودراسات كثيرة أخرى حول أسباب مرض السرطان تَخْلُص إلى عدة استنتاجات، منها أن نسبة معينة من الذين يصابون من السرطان تكون لأسباب الجينات الوراثية التي تنتقل عبر الأجيال، وأُطلق عليها بالقضاء والقدر، وتقدر بأكثر من 40% من حالات السرطان غير معروفة الأسباب، ونسبة ثانية مرتفعة تصل إلى نحو 50% من حالات السرطان لها علاقة مباشرة بنمط حياة الإنسان، وعاداته اليومية، ونوعية شرابه وغذائه. وهذا الجانب يجب التركيز عليه كثيراً في المجتمع من أجل أن يأخذ كل إنسان بالأسباب والوسائل التي تقيه من السقوط في شر هذا المرض. وفي الوقت نفسه على الجهات الصحية والتعليمية القيام بحملات توعوية مكثفة واسعة النطاق حول عوامل الخطر التي تسبب السرطان، سواء على مستوى المناهج الدراسية، أو وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، أو منظمات المجتمع المدني.

 

الجمعة، 20 سبتمبر 2024

تهديد جديد لأمننا الصحي


قضية صحية جديدة وعاجلة بدأت أبعادها الخطيرة تتضح وتنضج يوماً بعد يوم، وتبينت انعكاساتها المهددة لحياة الملايين من البشر في كل أنحاء العالم، سواء أكانت هذه الدول فقيرة تعاني من ضعف في الأنظمة الصحية، أو غنية وثرية تتوافر فيها الخدمات الطبية الحديثة والمتطورة.

 

وهذه القضية ستتحول إلى وباء مزمن يصعب علاجه مهما أنفقنا من أموال وبذلنا من جهود إذا تجاهلت دول العالم تحدياتها الواقعية العصيبة، وإذا لم تتحد جميعاً وتتعاون مع بعض، وتتبادل المعارف والخبرات في التصدي لها مبكراً قبل أن تتفاقم وتستفحل وتتجذر في أعماق النظام الصحي البشري. ولذلك لا بد من المجتمع البشري ممثلاً في منظمة الصحة العالمية والمنظمات الأممية ذات العلاقة، إضافة إلى وزارات الصحة في جميع الدول أن تُشمر عن ساعديها من اليوم لفرض الحلول العملية المناسبة والكفيلة بمحوها من مجتمعنا. 

 

وقد تنبهتْ البحرين إلى جدية هذه القضية الحيوية المتعلقة بانكشاف وظهور الميكروبات التي تقاوم وتُبْطل عمل المضادات الحيوية التي تستخدم للإنسان والحيوان، ومردوداتها الحالية والمستقبلية على صحة البشر، فاستضافت في الفترة من 19 إلى 22 سبتمبر 2024 المؤتمر العالمي الخاص بمواجهة هذه القضية العقيمة تحت عنوان: " المؤتمر الدولي للميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية والأمراض المعدية" (antimicrobial resistance or AMR).

 

وتزامناً مع انعقاد هذا الحدث الدولي الصحي الهام، نُشْر بحث علمي دولي شامل يسبر غور هذه القضية والظاهرة الصحية الخطيرة لأكثر من 31 عاماً وغطى 204 دول، فيؤكد هذا البحث على واقعية وخطورة التهديدات الكبيرة التي تُشكلها هذه الظاهرة الصحية المتفاقمة حالياً ومستقبلاً على جميع دول العالم بدون استثناء. وقد نُشرت هذه الدراسة الجامعة في مجلة "اللانست" الطبية المرموقة في 16 سبتمبر 2024 تحت عنوان: "العبء الدولي لمقاومة مضادات الميكروبات البكتيرية 1990 إلى 2021: تحليل منهجي وتنبؤات بحلول عام 2025"، إضافة إلى دراسة أخرى صدرت في مجلة "الطبيعة" الموثوقة في 17 سبتمبر 2024 تحت عنوان: "40 مليون وفاة بحلول عام 2050: ارتفاع نسبة العدوى المقاومة للأدوية إلى 70%".

 

وتكونت عينة البحث الدولي من 520 مليون إنسان، وغطت فترة زمنية أكثر من ثلاثة عقود، وبالتحديد في الفترة من 1990 إلى 2021، كما ركزت على 22 نوعاً من الميكروبات المرضية و 11 نوعاً من الأمراض، حيث خلصت الدراسة إلى الاستنتاجات العامة التالية:

أولاً: يقدر إجمالي عدد الوفيات المتعلق بالجراثيم المقاومة للعدوى والأمراض المصاحبة لها في عام 2021 بنحو 4.71 مليون، ويتضمن هذا العدد 1.14 مليون وفاة لها علاقة مباشرة بهذا النوع من البكتيريا المقاوم لوظيفة المضادات الحيوية. ثانياً: خلال فترة الدراسة، وهي 31 عاماً تغيرت نسبة أنماط الوفيات حسب الأعمار والمناطق. ففي الفترة من 1990 إلى 2021 انخفضت أعداد الوفيات بنسبة أكثر من 50% بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات بسبب تطعيم الأطفال في سن مبكرة، ولكن في الوقت نفسه ارتفعت النسبة أكثر من 80% للذين تتجاوز أعمارهم السبعين سنة لأنهم أقل قدرة وقوة على المناعة من العدوى، وهذا النمط من الوفيات في ارتفاع أكثر في كل عقد من الزمن.

ثالثاً: تشير الدراسة إلى أن إجمالي عدد الوفيات من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية والأمراض التي لها علاقة بها ستصل إلى 10.13 بحلول عام 2025، معظمها ستكون في دول شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والكرايبين.

رابعاً: تتنبأ الدراسة أنه في الفترة من 2025 إلى 2050، سيشهد العالم وفاة أكثر من 39 مليون إنسان بسبب الالتهابات والميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، والتي تُطلق عليها وسائل الإعلام(Superbug).

خامساً: معظم الوفيات كانت بسبب التعرض للعدوى من نوع من البكتيريا هو (Staphylococcus aureus) الذي يُعدي الجلد، والدم، والأعضاء الداخلية لجسم الإنسان، حيث كانت الزيادة بنسبة 90.29%. إضافة إلى مجموعة من أنواع البكتيريا المقاومة للمضادات والعدوى، ويُطلق عليها (gram-negative bacteria)، مثل (Escherichia coli) و (Acinetobacter baumannii).  

 

فهذه الحالة المرضية المعقدة، وهذه الظاهرة الصحية المتشابكة المتعددة الأبعاد والموجودة حالياً والتي ستتفاقم في المستقبل، تُحذر منها منظمة الصحة العالمية، وتصفها في وثائقها الرسمية بأنها "واحدة من أكبر التهديدات العالمية للصحة العامة والتنمية". ولذلك فالعلاج الجذري لهذا المرض يكمن في تظافر الجهود على المستوى الدولي، والتنسيق والتعاون في وضع خطة موحدة على المستويين الدولي والإقليمي. فقد تبنت دول العالم الخطة التنفيذية الدولية (Global Action Plan) في عام 2015 أثناء اجتماع "جمعية الصحة العالمية"، وتعهدت في الاجتماع الأممي على تطوير وتنفيذ خطة قومية متعددة القطاعات، وتنفيذ مدخل صحي واحد لمواجهة الظاهرة. ومن أجل نجاح هذه الخطة تعاونت عدة منظمات دولية في التخطيط لها ووضعها للدول منها منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الغذاء والزراعة، والمنظمة الدولية لصحة الحيوان، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وعلاوة على ذلك، فقد انبثق عن الخطة برنامج توعوي وتثقيفي، حيث أقرت الأمم المتحدة أسبوعاً كاملاً لنشر الوعي بهذه الحالة الصحية في الفترة من 18 إلى 24 نوفمبر من كل عام، كما أن على دول العالم تطوير خطتها التنفيذية القومية.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء بروز هذه الظاهرة الصحية العقيمة التي تضر بالإنسان، والحيوان، والنبات في وقتٍ واحد، من أهمها سوء إدارة المضادات الحيوية للإنسان والحيوان، سواء أكانت مضادات حيوية للبكتيريا، أو الفيروسات، أو الفطريات، أو الطفيليات. وسوء الإدارة يعني بالتحديد كثرة وتكرار استخدام هذه المضادات ولحالات لا تستدعي وصف المضادات الحيوية للمريض، سواء الإنسان أو الحيوان. كذلك من الأسباب التخلص غير السليم من هذه المضادات، حيث إنها تصرف مع مياه المجاري، وهذه في نهاية المطاف تصل إلى الإنسان أو الحيوان مرة ثانية وترفع من قدرة الجراثيم بجميع أنواعها على تطوير آليات لمواجهة الأدوية ومقاومة تأثيرها، كما تزيد من كفاءتها في منع دخول وغزو الأدوية على داخل الخلايا، مما يعني عدم فاعلية المضاد الحيوي في قتل الجراثيم، فلا تموت هذه الجراثيم وإنما تستمر في التكاثر والنمو والانتقال إلى إنسان آخر.

 

ومن الجدير بالذكر ومن حسن الحظ أن هذا الوباء الصحي القادم واضح ومعروف المعالم، من حيث الأسباب والعلاج، ولذلك على الدول الإسراع في تنفيذ خطة العلاج حتى نُجب المجتمع البشري مثل هذه الأمراض المهلكة للإنسان والحيوان.

 

 

الأحد، 15 سبتمبر 2024

متى ستنتهي حرب غزة؟

 

لكل بداية نهاية مهما طال الزمن أو قصر، ولكل واقعة تنزل على البشر سواء أكانت طبيعية أو من صنع أيدينا فإنها ستنتهي في نهاية المطاف، ولذلك فإن حرب غزة لا بد وأن تنتهي حسب مفهوم معظم الناس، وهو إلقاء الجنود للسلاح والرجوع إلى ثكناتهم، وعودة الدبابات والطائرات إلى قواعدها.

 

ولكن هناك جانباً آخر للحروب عامة وحرب غزة خاصة، فهناك البعد العقيم الذي عادة ما يتم تجاهله ونسيانه ويبدأ بعد توقف الحرب فوراً وبعد رجوع الناس إلى مساكنهم، أو ما تبقى منها، وعند الشروع في أعمال إزالة الركام، والأنقاض، والمخلفات الصلبة. وهذا النوع من الحروب في الكثير من الحالات لا يتوقف ولا ينتهي سريعاً، ويبقى خالداً مخلداً في أعماق المدن، ويستمر متجذراً في مكونات البيئات التي خاضت الحرب وعانت من ويلاتها وقسوتها، سواء أكانت التربة والأراضي السهلة المسطحة، أو البيئات المائية من بحار وبحيرات. فتداعيات هذه الحرب الصامتة الجديدة بعد سكوت وصمت أفواه المدافع والطائرات لا تقل خطورة على الإنسان وبيئته، وتستمر في تهديداتها في قتل وجرح المئات من الناس لعشرات السنين واصابتهم بالإعاقات الجسدية المزمنة.

 

فأثناء شدة اندلاع الحرب واتساع رقعتها الجغرافية، يتم القاء عشرات الآلاف من القذائف والقنابل المختلفة في قوتها وشدتها، ويتم دك المباني والناس بآلاف الصواريخ المحملة بالمتفجرات السامة والقاتلة. ولكن كل هذه القنابل والذخائر لا تنفجر بعد سقوطها والتماسها باليابسة، فيبقى نحو 9 إلى 14% منها عبارة عن مخلفات خطرة، أو قنابل موقوتة جاثمة على الأرض، أو في المكان الذي سقطت عليه، أو في باطن المسطحات المائية بدون أن تشتعل أو تنفجر، ولذلك تستمر في نشاطها وفاعليتها التدميرية الداخلية، وتحتاج فقط إلى من يحركها، أو يهزها، أو يدوس عليها دون أن يعلم، فتنفجر في وجهه وتقتله وكل من حوله من بشر، وشجر، وحجر. كما أن هذه الحرب الجديدة مكلفة جداً، وتستغرق وقتاً طويلاً للانتصار فيها بسبب طبيعة العملية، كذلك هي تحتاج إلى رعاية أممية دولية متخصصة وإلى فنيين أكفاء في إزالة الألغام وتعطيل القنبلة قبل أن تنفجر، إضافة إلى أجهزة ومعدات متطورة وحديثة للتخلص من كل نوع من هذه الذخائر النشطة والقنابل الموقوتة والألغام التي لم تنفجر.

 

وهذه ليست فرضية قد تحدث أو لا تحدث، وإنما هي حقيقة واقعة تُسندها الشواهد والأدلة والحوادث المأساوية التي وقعت في كل مواقع الحروب، ومازالت حتى يومنا هذا تنزل على الكثير من دول العالم التي تجرعت كوارث الحروب وتداعياتها العقيمة، كالحرب العالمية الأولى والثانية، أو الحروب العدوانية على غزة اليوم وفي السنوات الماضية.

 

فبالرغم من انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية منذ عقود طويلة، وبالرغم من نسيان الأجيال المتلاحقة لانعكاسات هذه الحروب المدمرة والشرسة، إلا أن هناك تداعيات المخلفات العسكرية النشطة من قنابل وذخائر وصواريخ الموجودة في المدن التي أُلقيت عليها، فهي تحيي في ذاكرة كل إنسان، حتى من الملايين الذي لم يشهدوا الحرب كلياً بآلام الحرب ومعاناتها الجسيمة الواسعة النطاق، بأن هذا الجانب من الحرب لن ينتهي ويمكث حياً ينبض بالحياة والروح بين الحين والآخر في قلوب الناس ونفوسهم. كذلك الحال بالنسبة لحرب أمريكا الظالمة على الشعب الفيتنامي والأفغاني، ثم حرب لبنان وسوريا وغيرها، ففي كل هذه الحالات نجد بأن قضية الحرب الجديدة المتمثلة في وجود المخلفات الحربية من ذخائر، وألغام، وصواريخ في هذه الدول حتى يومنا هذا ماثلة أمامنا، وتُشكل تحديات وتهديدات للتخلص منها والقضاء كلياً عليها.

وسأضرب لكم آخر الأمثلة على اكتشاف مثل هذه المخلفات المتفجرة في مدن أوروبا على الأرض وفي البحر بعد أكثر من 90 عاماً على انتهاء الحرب. ففي 27 أغسطس 2024 نشرت وسائل الإعلام خبراً حول اكتشاف قرابة 40 ألف طن من الذخائر والقنابل الكيميائية والتقليدية الجاثمة في أعماق بحر البلطيق في بولندا من مخلفات الحرب العالمية الثانية، منها قنابل كيميائية، ومنها قنابل يدوية، ومنها ألغام بحرية، والبعض من هذه القنابل النشطة ظهر على سواحل البحر والشواطئ العامة، وبعضها اصطادها الصيادون في شباكهم بدلاً من صيد الأسماك. وفي مقاطعة "داون" في ألمانيا تم اكتشاف قنبلة ضخمة تزن 500 كيلوجرام في موقع للبناء في 20 أغسطس 2024، حيث أفاد الخبراء بأن هذه القنبلة أُلقيت في مايو 1941، أي قبل 83 عاماً. كذلك في 14 مارس 2024 وفي مركز مدينة ساوث هامتون البريطانية الساحلية المكتظة بالسكان، تم اكتشاف قنبلة من زمن الحرب العالمية، حيث تم اخلاء المباني والطرقات والمتنزهات، وأُعلنت حالة الطوارئ من أجل ابطال مفعولها والتخلص منها قبل أن تنفجر فتقتل الناس.

وفي غزة فالمشكلة مزمنة ومستمرة، قديمة ومتجددة، فغزة الصامدة مازالت تعاني من مخلفات الحروب السابقة الناجمة عن عدوان الكيان الصهيوني على قطاع غزة الضيق والمحاصر منذ 17 عاماً والكثيف بالسكان، حيث قصف الصهاينة القطاع في الأعوام 2008، 2014، 2018، 2021، ومخلفات تلك الحروب مازالت موجودة في أرض غزة ولم يتم التخلص منها بعد.

وأما الإبادة الشاملة اليوم في القطاع فتُضيف إلى الأزمة السابقة المتجددة، وتمثلت في ضرب أكثر من 45 ألف هدف، وإلقاء ما لا يقل عن 50 ألف طن من المتفجرات بمختلف أحجامها وشدتها وأنواعها، مما خلَّف حتى اليوم أحجاماً غير مسبوقة في تاريخ البشرية من المخلفات الصلبة، حسب تقرير دائرة "خدمات الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام"( United Nations Mine Action Service) في 26 أبريل 2024. فقد أفاد بيان هذه الدائرة بأن حجم المخلفات الخطرة وغير الخطرة، إضافة إلى القنابل الموقوتة التي لم تنفجر بأكثر من 42 مليون طن، وهذا الحجم في ارتفاع مستمر كل ساعة. 

 

ولذلك حتى لو انتهت حرب غزة، ولا بد أن تنتهي يوماً ما، فسيدخل القطاع في حرب أخرى لا تقل تهديداً لسلامة البشر والحجر والشجر من الحرب التقليدية الحالية، ولا يستطيع أحد أن يقدر نهايتها وخاتمتها، فقد تطول مئات السنين دون النجاح في التخلص منها كلياً، وستبقى تهدد كل طفل، وكل شاب، وكل شيخ، وكل امرأة، فلا يعلم أحد أين ستضرب هذه القنبلة، ومتى سيكون موعد انفجارها، فلن يكون أي غزاوي في مأمن عنها.

 

فمخلفات الحرب المتفجرة مجهولة من جميع المناحي، فلا يعرف أحد أماكنها بالتحديد، ولا يعرف أحد أعدادها، ولا يعرف أحد نوعيتها، فكل المواقع التي قُصفت قد تكون في الوقت نفسه مواقع وجود هذه القنابل الموقوتة المتفجرة.