الجمعة، 20 سبتمبر 2024

تهديد جديد لأمننا الصحي


قضية صحية جديدة وعاجلة بدأت أبعادها الخطيرة تتضح وتنضج يوماً بعد يوم، وتبينت انعكاساتها المهددة لحياة الملايين من البشر في كل أنحاء العالم، سواء أكانت هذه الدول فقيرة تعاني من ضعف في الأنظمة الصحية، أو غنية وثرية تتوافر فيها الخدمات الطبية الحديثة والمتطورة.

 

وهذه القضية ستتحول إلى وباء مزمن يصعب علاجه مهما أنفقنا من أموال وبذلنا من جهود إذا تجاهلت دول العالم تحدياتها الواقعية العصيبة، وإذا لم تتحد جميعاً وتتعاون مع بعض، وتتبادل المعارف والخبرات في التصدي لها مبكراً قبل أن تتفاقم وتستفحل وتتجذر في أعماق النظام الصحي البشري. ولذلك لا بد من المجتمع البشري ممثلاً في منظمة الصحة العالمية والمنظمات الأممية ذات العلاقة، إضافة إلى وزارات الصحة في جميع الدول أن تُشمر عن ساعديها من اليوم لفرض الحلول العملية المناسبة والكفيلة بمحوها من مجتمعنا. 

 

وقد تنبهتْ البحرين إلى جدية هذه القضية الحيوية المتعلقة بانكشاف وظهور الميكروبات التي تقاوم وتُبْطل عمل المضادات الحيوية التي تستخدم للإنسان والحيوان، ومردوداتها الحالية والمستقبلية على صحة البشر، فاستضافت في الفترة من 19 إلى 22 سبتمبر 2024 المؤتمر العالمي الخاص بمواجهة هذه القضية العقيمة تحت عنوان: " المؤتمر الدولي للميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية والأمراض المعدية" (antimicrobial resistance or AMR).

 

وتزامناً مع انعقاد هذا الحدث الدولي الصحي الهام، نُشْر بحث علمي دولي شامل يسبر غور هذه القضية والظاهرة الصحية الخطيرة لأكثر من 31 عاماً وغطى 204 دول، فيؤكد هذا البحث على واقعية وخطورة التهديدات الكبيرة التي تُشكلها هذه الظاهرة الصحية المتفاقمة حالياً ومستقبلاً على جميع دول العالم بدون استثناء. وقد نُشرت هذه الدراسة الجامعة في مجلة "اللانست" الطبية المرموقة في 16 سبتمبر 2024 تحت عنوان: "العبء الدولي لمقاومة مضادات الميكروبات البكتيرية 1990 إلى 2021: تحليل منهجي وتنبؤات بحلول عام 2025"، إضافة إلى دراسة أخرى صدرت في مجلة "الطبيعة" الموثوقة في 17 سبتمبر 2024 تحت عنوان: "40 مليون وفاة بحلول عام 2050: ارتفاع نسبة العدوى المقاومة للأدوية إلى 70%".

 

وتكونت عينة البحث الدولي من 520 مليون إنسان، وغطت فترة زمنية أكثر من ثلاثة عقود، وبالتحديد في الفترة من 1990 إلى 2021، كما ركزت على 22 نوعاً من الميكروبات المرضية و 11 نوعاً من الأمراض، حيث خلصت الدراسة إلى الاستنتاجات العامة التالية:

أولاً: يقدر إجمالي عدد الوفيات المتعلق بالجراثيم المقاومة للعدوى والأمراض المصاحبة لها في عام 2021 بنحو 4.71 مليون، ويتضمن هذا العدد 1.14 مليون وفاة لها علاقة مباشرة بهذا النوع من البكتيريا المقاوم لوظيفة المضادات الحيوية. ثانياً: خلال فترة الدراسة، وهي 31 عاماً تغيرت نسبة أنماط الوفيات حسب الأعمار والمناطق. ففي الفترة من 1990 إلى 2021 انخفضت أعداد الوفيات بنسبة أكثر من 50% بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات بسبب تطعيم الأطفال في سن مبكرة، ولكن في الوقت نفسه ارتفعت النسبة أكثر من 80% للذين تتجاوز أعمارهم السبعين سنة لأنهم أقل قدرة وقوة على المناعة من العدوى، وهذا النمط من الوفيات في ارتفاع أكثر في كل عقد من الزمن.

ثالثاً: تشير الدراسة إلى أن إجمالي عدد الوفيات من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية والأمراض التي لها علاقة بها ستصل إلى 10.13 بحلول عام 2025، معظمها ستكون في دول شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والكرايبين.

رابعاً: تتنبأ الدراسة أنه في الفترة من 2025 إلى 2050، سيشهد العالم وفاة أكثر من 39 مليون إنسان بسبب الالتهابات والميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، والتي تُطلق عليها وسائل الإعلام(Superbug).

خامساً: معظم الوفيات كانت بسبب التعرض للعدوى من نوع من البكتيريا هو (Staphylococcus aureus) الذي يُعدي الجلد، والدم، والأعضاء الداخلية لجسم الإنسان، حيث كانت الزيادة بنسبة 90.29%. إضافة إلى مجموعة من أنواع البكتيريا المقاومة للمضادات والعدوى، ويُطلق عليها (gram-negative bacteria)، مثل (Escherichia coli) و (Acinetobacter baumannii).  

 

فهذه الحالة المرضية المعقدة، وهذه الظاهرة الصحية المتشابكة المتعددة الأبعاد والموجودة حالياً والتي ستتفاقم في المستقبل، تُحذر منها منظمة الصحة العالمية، وتصفها في وثائقها الرسمية بأنها "واحدة من أكبر التهديدات العالمية للصحة العامة والتنمية". ولذلك فالعلاج الجذري لهذا المرض يكمن في تظافر الجهود على المستوى الدولي، والتنسيق والتعاون في وضع خطة موحدة على المستويين الدولي والإقليمي. فقد تبنت دول العالم الخطة التنفيذية الدولية (Global Action Plan) في عام 2015 أثناء اجتماع "جمعية الصحة العالمية"، وتعهدت في الاجتماع الأممي على تطوير وتنفيذ خطة قومية متعددة القطاعات، وتنفيذ مدخل صحي واحد لمواجهة الظاهرة. ومن أجل نجاح هذه الخطة تعاونت عدة منظمات دولية في التخطيط لها ووضعها للدول منها منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الغذاء والزراعة، والمنظمة الدولية لصحة الحيوان، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وعلاوة على ذلك، فقد انبثق عن الخطة برنامج توعوي وتثقيفي، حيث أقرت الأمم المتحدة أسبوعاً كاملاً لنشر الوعي بهذه الحالة الصحية في الفترة من 18 إلى 24 نوفمبر من كل عام، كما أن على دول العالم تطوير خطتها التنفيذية القومية.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء بروز هذه الظاهرة الصحية العقيمة التي تضر بالإنسان، والحيوان، والنبات في وقتٍ واحد، من أهمها سوء إدارة المضادات الحيوية للإنسان والحيوان، سواء أكانت مضادات حيوية للبكتيريا، أو الفيروسات، أو الفطريات، أو الطفيليات. وسوء الإدارة يعني بالتحديد كثرة وتكرار استخدام هذه المضادات ولحالات لا تستدعي وصف المضادات الحيوية للمريض، سواء الإنسان أو الحيوان. كذلك من الأسباب التخلص غير السليم من هذه المضادات، حيث إنها تصرف مع مياه المجاري، وهذه في نهاية المطاف تصل إلى الإنسان أو الحيوان مرة ثانية وترفع من قدرة الجراثيم بجميع أنواعها على تطوير آليات لمواجهة الأدوية ومقاومة تأثيرها، كما تزيد من كفاءتها في منع دخول وغزو الأدوية على داخل الخلايا، مما يعني عدم فاعلية المضاد الحيوي في قتل الجراثيم، فلا تموت هذه الجراثيم وإنما تستمر في التكاثر والنمو والانتقال إلى إنسان آخر.

 

ومن الجدير بالذكر ومن حسن الحظ أن هذا الوباء الصحي القادم واضح ومعروف المعالم، من حيث الأسباب والعلاج، ولذلك على الدول الإسراع في تنفيذ خطة العلاج حتى نُجب المجتمع البشري مثل هذه الأمراض المهلكة للإنسان والحيوان.

 

 

الأحد، 15 سبتمبر 2024

متى ستنتهي حرب غزة؟

 

لكل بداية نهاية مهما طال الزمن أو قصر، ولكل واقعة تنزل على البشر سواء أكانت طبيعية أو من صنع أيدينا فإنها ستنتهي في نهاية المطاف، ولذلك فإن حرب غزة لا بد وأن تنتهي حسب مفهوم معظم الناس، وهو إلقاء الجنود للسلاح والرجوع إلى ثكناتهم، وعودة الدبابات والطائرات إلى قواعدها.

 

ولكن هناك جانباً آخر للحروب عامة وحرب غزة خاصة، فهناك البعد العقيم الذي عادة ما يتم تجاهله ونسيانه ويبدأ بعد توقف الحرب فوراً وبعد رجوع الناس إلى مساكنهم، أو ما تبقى منها، وعند الشروع في أعمال إزالة الركام، والأنقاض، والمخلفات الصلبة. وهذا النوع من الحروب في الكثير من الحالات لا يتوقف ولا ينتهي سريعاً، ويبقى خالداً مخلداً في أعماق المدن، ويستمر متجذراً في مكونات البيئات التي خاضت الحرب وعانت من ويلاتها وقسوتها، سواء أكانت التربة والأراضي السهلة المسطحة، أو البيئات المائية من بحار وبحيرات. فتداعيات هذه الحرب الصامتة الجديدة بعد سكوت وصمت أفواه المدافع والطائرات لا تقل خطورة على الإنسان وبيئته، وتستمر في تهديداتها في قتل وجرح المئات من الناس لعشرات السنين واصابتهم بالإعاقات الجسدية المزمنة.

 

فأثناء شدة اندلاع الحرب واتساع رقعتها الجغرافية، يتم القاء عشرات الآلاف من القذائف والقنابل المختلفة في قوتها وشدتها، ويتم دك المباني والناس بآلاف الصواريخ المحملة بالمتفجرات السامة والقاتلة. ولكن كل هذه القنابل والذخائر لا تنفجر بعد سقوطها والتماسها باليابسة، فيبقى نحو 9 إلى 14% منها عبارة عن مخلفات خطرة، أو قنابل موقوتة جاثمة على الأرض، أو في المكان الذي سقطت عليه، أو في باطن المسطحات المائية بدون أن تشتعل أو تنفجر، ولذلك تستمر في نشاطها وفاعليتها التدميرية الداخلية، وتحتاج فقط إلى من يحركها، أو يهزها، أو يدوس عليها دون أن يعلم، فتنفجر في وجهه وتقتله وكل من حوله من بشر، وشجر، وحجر. كما أن هذه الحرب الجديدة مكلفة جداً، وتستغرق وقتاً طويلاً للانتصار فيها بسبب طبيعة العملية، كذلك هي تحتاج إلى رعاية أممية دولية متخصصة وإلى فنيين أكفاء في إزالة الألغام وتعطيل القنبلة قبل أن تنفجر، إضافة إلى أجهزة ومعدات متطورة وحديثة للتخلص من كل نوع من هذه الذخائر النشطة والقنابل الموقوتة والألغام التي لم تنفجر.

 

وهذه ليست فرضية قد تحدث أو لا تحدث، وإنما هي حقيقة واقعة تُسندها الشواهد والأدلة والحوادث المأساوية التي وقعت في كل مواقع الحروب، ومازالت حتى يومنا هذا تنزل على الكثير من دول العالم التي تجرعت كوارث الحروب وتداعياتها العقيمة، كالحرب العالمية الأولى والثانية، أو الحروب العدوانية على غزة اليوم وفي السنوات الماضية.

 

فبالرغم من انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية منذ عقود طويلة، وبالرغم من نسيان الأجيال المتلاحقة لانعكاسات هذه الحروب المدمرة والشرسة، إلا أن هناك تداعيات المخلفات العسكرية النشطة من قنابل وذخائر وصواريخ الموجودة في المدن التي أُلقيت عليها، فهي تحيي في ذاكرة كل إنسان، حتى من الملايين الذي لم يشهدوا الحرب كلياً بآلام الحرب ومعاناتها الجسيمة الواسعة النطاق، بأن هذا الجانب من الحرب لن ينتهي ويمكث حياً ينبض بالحياة والروح بين الحين والآخر في قلوب الناس ونفوسهم. كذلك الحال بالنسبة لحرب أمريكا الظالمة على الشعب الفيتنامي والأفغاني، ثم حرب لبنان وسوريا وغيرها، ففي كل هذه الحالات نجد بأن قضية الحرب الجديدة المتمثلة في وجود المخلفات الحربية من ذخائر، وألغام، وصواريخ في هذه الدول حتى يومنا هذا ماثلة أمامنا، وتُشكل تحديات وتهديدات للتخلص منها والقضاء كلياً عليها.

وسأضرب لكم آخر الأمثلة على اكتشاف مثل هذه المخلفات المتفجرة في مدن أوروبا على الأرض وفي البحر بعد أكثر من 90 عاماً على انتهاء الحرب. ففي 27 أغسطس 2024 نشرت وسائل الإعلام خبراً حول اكتشاف قرابة 40 ألف طن من الذخائر والقنابل الكيميائية والتقليدية الجاثمة في أعماق بحر البلطيق في بولندا من مخلفات الحرب العالمية الثانية، منها قنابل كيميائية، ومنها قنابل يدوية، ومنها ألغام بحرية، والبعض من هذه القنابل النشطة ظهر على سواحل البحر والشواطئ العامة، وبعضها اصطادها الصيادون في شباكهم بدلاً من صيد الأسماك. وفي مقاطعة "داون" في ألمانيا تم اكتشاف قنبلة ضخمة تزن 500 كيلوجرام في موقع للبناء في 20 أغسطس 2024، حيث أفاد الخبراء بأن هذه القنبلة أُلقيت في مايو 1941، أي قبل 83 عاماً. كذلك في 14 مارس 2024 وفي مركز مدينة ساوث هامتون البريطانية الساحلية المكتظة بالسكان، تم اكتشاف قنبلة من زمن الحرب العالمية، حيث تم اخلاء المباني والطرقات والمتنزهات، وأُعلنت حالة الطوارئ من أجل ابطال مفعولها والتخلص منها قبل أن تنفجر فتقتل الناس.

وفي غزة فالمشكلة مزمنة ومستمرة، قديمة ومتجددة، فغزة الصامدة مازالت تعاني من مخلفات الحروب السابقة الناجمة عن عدوان الكيان الصهيوني على قطاع غزة الضيق والمحاصر منذ 17 عاماً والكثيف بالسكان، حيث قصف الصهاينة القطاع في الأعوام 2008، 2014، 2018، 2021، ومخلفات تلك الحروب مازالت موجودة في أرض غزة ولم يتم التخلص منها بعد.

وأما الإبادة الشاملة اليوم في القطاع فتُضيف إلى الأزمة السابقة المتجددة، وتمثلت في ضرب أكثر من 45 ألف هدف، وإلقاء ما لا يقل عن 50 ألف طن من المتفجرات بمختلف أحجامها وشدتها وأنواعها، مما خلَّف حتى اليوم أحجاماً غير مسبوقة في تاريخ البشرية من المخلفات الصلبة، حسب تقرير دائرة "خدمات الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام"( United Nations Mine Action Service) في 26 أبريل 2024. فقد أفاد بيان هذه الدائرة بأن حجم المخلفات الخطرة وغير الخطرة، إضافة إلى القنابل الموقوتة التي لم تنفجر بأكثر من 42 مليون طن، وهذا الحجم في ارتفاع مستمر كل ساعة. 

 

ولذلك حتى لو انتهت حرب غزة، ولا بد أن تنتهي يوماً ما، فسيدخل القطاع في حرب أخرى لا تقل تهديداً لسلامة البشر والحجر والشجر من الحرب التقليدية الحالية، ولا يستطيع أحد أن يقدر نهايتها وخاتمتها، فقد تطول مئات السنين دون النجاح في التخلص منها كلياً، وستبقى تهدد كل طفل، وكل شاب، وكل شيخ، وكل امرأة، فلا يعلم أحد أين ستضرب هذه القنبلة، ومتى سيكون موعد انفجارها، فلن يكون أي غزاوي في مأمن عنها.

 

فمخلفات الحرب المتفجرة مجهولة من جميع المناحي، فلا يعرف أحد أماكنها بالتحديد، ولا يعرف أحد أعدادها، ولا يعرف أحد نوعيتها، فكل المواقع التي قُصفت قد تكون في الوقت نفسه مواقع وجود هذه القنابل الموقوتة المتفجرة.

 

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2024

المخلفات البلاستيكية تحتل كل شبرٍ من أجسادنا!

 

هل تُصدقونني إذا قلتُ لكم بأنكم لو تخلصتم من المخلفات بشكلٍ عام، وبخاصة المخلفات البلاستيكية التي لا تتحلل بطريقة غير سليمة بيئياً وصحياً فإنها سترجع إليكم مرة ثانية عاجلاً أم آجلاً، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، طال الزمن أو قصر، وتؤثر على صحتكم وتُصيبكم بالأمراض والعلل الغريبة التي لا يعلم عنها أحد؟

 

فهل تصدقونني في صحة هذا الادعاء، وتثقون بكلامي؟

 

لقد تحول هذا الادعاء الآن إلى حقيقة علمية واقعة تُسندها الدراسات المخبرية، وتدعمها الأبحاث الميدانية، وتؤكد صحتها التقارير الطبية، فأصبح هناك اليوم اجماع واتفاق عند العلماء على مصداقيتها وواقعيتها.

 

وسأُقدم إليكم الدليل الدامغ والشافي الذي تمخض عن آخر الأبحاث المنشورة التي سبرت بعمق غور هذه القضية الجديدة التي تعاني منها كل المجتمعات البشرية في كل أنحاء العالم بدون استثناء، سواء أكانت قريبة من المناطق والمدن الحضرية، أم كانت في الأرياف النائية وبعيدة عن الأنشطة البشرية الملوثة لمكونات البيئة.

 

أما الحقيقة الأولى المتعلقة بالمخلفات عامة، والمخلفات البلاستيكية خاصة فهي إنها أصبحت الآن جزءاً أصيلاً ومشهوداً من كل مكونات وعناصر بيئتنا، سواء الهواء الجوي، أو المسطحات المائية العذبة والمالحة، أو التربة الزراعية والصحراوية، بل وأصبحت بسبب عدم تحللها تتراكم في هذه العناصر البيئية. فهذه المخلفات البلاستيكية مع الوقت وبفعل الظروف المناخية من حرارة ورطوبة وأشعة الشمس، إضافة إلى التيارات المائية تبدأ في التكسر الحيوي(biofragmentation)، أي أن هذه المخلفات الكبيرة تتكسر وتتجزأ مع الزمن إلى قطع وجسيمات بلاستيكية أصغر فأصغر حتى تصل إلى الجسيمات التي لا تُرى بالعين المجردة، ويُطلق عليها "الميكروبلاستيك" و "النانوبلاستيك". 

 

والسؤال هو: هل هذه المخلفات والجسيمات البلاستيكية الصغيرة والمجهرية تبقى تراوح في مكانها في عناصر بيئتنا، أم أن لها القدرة على الحركة والتنقل وغزو جبهات جديدة أخرى لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد؟

 

والإجابة عن هذا السؤال تنقلنا إلى الحقيقة الثانية الموثقة مخبرياً وميدانياً، حيث أجمعت الدراسات على أن هذه الجسيمات البلاستيكية لا تَبْقى ثابتة في مكانها في مكونات بيئتنا وإنما تنتقل وتغزو أولاً بيئات جديدة نائية بعيدة عن أعين وأنشطة الإنسان كالقطبين الشمالي والجنوبي، وأعالي الجبال الشاهقة، وأعماق المحيطات المظلمة والشديدة البرودة، وثانياً لهذه الجسيمات الدقيقة القدرة على كسر جدار جسم الإنسان وغزو جميع أعضاء أجسادنا، الصغيرة منها والكبيرة، القريبة منها والبعيدة، حتى خلايا الإنسان لم تسلم من هذه الجسيمات البلاستيكية المجهرية.

 

وسأُقدم لكم بعض الأمثلة على غزوها أولاً للبيئات الفطرية البكر النائية، ثم كيفية دخولها لأعضاء أجسادنا. فقد نُشرت دراسة في مجلة "بيولوجيا التغيير العالمي"(Global Change Biology) في 21 أغسطس 2024 تحت عنوان: "المخلفات الطافية فوق سطح والكائنات الحية يمكن أن تغزو سواحل القطب الجنوبي من جميع البيئات البرية في نصف الكرة الجنوبية". وفي هذه الدراسة تمت مراقبة المخلفات البلاستيكية الكبيرة، مثل عبوات المياه والأكياس البلاستيكية، وكيفية تحركها وانتقالها عبر سطح مياه المحيط الهادئ من الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، وبالتحديد من أستراليا، ودولة جنوب أفريقيا، وأمريكا الجنوبية، ونيوزيلاندا، وقارة زيلانديا في المحيط الهادئ ووصولها بعد أشهر طويلة، أو سنوات إلى سواحل بحار القطب الجنوبي. فهذه الدراسة أكدت نتائج الدراسات الأخرى في أن المخلفات البلاستيكية بمختلف أنواعها وأحجامها تتحرك من موقعها الأصلي وتصل إلى مواقع تبعد آلاف الكيلومترات عنها، ثم إن هذه المخلفات تحمل على ظهرها كائنات حية نباتية وحيوانية وكائنات مجهرية دقيقة كالبكتيريا والفيروسات، فتنقلها إلى بيئات جديدة غريبة عليها، وتغزوها وتؤثر على الكائنات الفطرية الأصيلة التي تعيش فيها، وتهدد التنوع الإحيائي والنظام البيئي الفطري المتوازن والدقيق بشكلٍ عام.

 

 أما القضية الثانية فهي دخول هذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة إلى أعضاء جسم الإنسان وتراكمها واستقرارها أخيراً في هذه الأعضاء. فهذه الجسيمات المجهرية تدخل أولاً إلى جسم الإنسان من ثلاثة منافذ رئيسة هي استنشاق الهواء الملوث بهذه الجسيمات، أي عن طريق الأنف، أو شرب وأكل مواد غذائية ملوثة بالبلاستيك، أي عن طريق الفم، أو دخولها إلى الجسم عن طريق مسامات الجلد. ومن هذه المنافذ تدخل إلى مجرى الدم والدورة الدموية فتتخطى الحاجز الفاصل بين الدم وخلايا أعضاء الجسم فتغزوها وتنتقل إليها وتبدأ في التراكم فيها مع الوقت.

 

ومن هذه الأعضاء المخ، والكلية، والكبد حسب الدراسة المنشورة (Research Square) في 6 مايو 2024 تحت عنوان: "تقييم التراكم الحيوي للميكروبلاستيك في مخ الإنسان المتوفى". وقد اكتشفتْ الدراسة وجود الميكروبلاستيك في عينات من أنسجة المخ، والكلية، والكبد من الموتى من عام 2016 إلى 2024، كما أفادت بأن تركيز الميكروبلاستيك في تزايد مع الزمن، مما يؤكد تراكمها في هذه الأعضاء.

 

ودراسة أخرى ستُنشر في مجلة "المواد الخطرة"(Hazardous Materials)في 15 سبتمبر 2024، تحت عنوان: "اكتشاف وتحليل الميكروبلاستيك في نخاع العظم البشري". وهذه الدراسة أكدت وجود جسيمات المخلفات البلاستيكية في أعماق عظام الإنسان، وبالتحديد في نخاع العظام، حيث كان معدل التركيز 51.29 ميكروجرام من البلاستيك لكل جرام من نخاع العظام، وتراوح بين 15.37 إلى 92.05. وهذه الجسيمات البلاستيكية كانت من نوع بولي إيثلين، وبولي ستيرين، وبولي كلوريد الفينل، وبولي بروبلين، وتراوح الحجم بين 20 إلى 100 مايكرومتر.

 

كذلك نُشرت دراسة لها علاقة بالجهاز التناسلي للإنسان والحيوان في 2 أغسطس 2024 في مجلة "علوم السموم" (Toxicological Sciences) تحت عنوان: " وجود الميكروبلاستيك في خصية الكلاب والبشر وعلاقته بعدد الحيوانات المنوية وأوزان الخصية والبربخ". فقد تم اكتشاف 12 نوعاً من الميكروبلاستيك في خصية الإنسان والكلاب، حيث كان معدل التركيز في البشر 328.4 ميكروجرام من البلاستيك لكل جرام من أنسجة الخصية، وفي الكلاب 122.6.

 

ونشرت دراسة لها علاقة بالصحة الإنجابية للبشر وخصوبته في 19 يونيو 2024 في "المجلة الدولية لأبحاث العجز الجنسي" (International Journal of Impotence Research) تحت عنوان: "اكتشاف الميكروبلاستيك في القضيب البشري"، حيث تم أخذ عينات من بعض المرضى، وتم اكتشاف 7 أنواع من البلاستيك في أنسجة القضيب، منها بولي إيثلين ترباثاليت، وبولي بروبلين. ودراسة منشورة في أغسطس 2024 في مجلة "علم البيئة الكلية"(The Science of the Total Environment) تحت عنوان: " انتشار وآثار الملوثات المايكروبلاستيكية في السائل المنوي البشري العام في الصين"، حيث تم اكتشاف الميكروبلاستيك في جميع العينات، وهي جسيمين من الميكروبلاستيك في كل عينة، وتراوح حجم الميكروبلاستيك بين 0.72 إلى 7.02 ميكرومتر. وأنواع البلاستيك كانت بولي ستيرين، وبولي كلوريد الفينل. إضافة إلى دراسة أخرى منشورة في إيطاليا في المجلة نفسها في 25 نوفمبر 2023 تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في الحيوانات المنوية للإنسان".

 

كما تم اكتشاف الجسيمات الميكروبلاستيكية في أنسجة المشيمة، كالدراسة المنشورة في مايو 2024 في مجلة "علوم السموم" (Toxicological Sciences) تحت عنوان: " تحديد كمية واكتشاف تراكم الميكروبلاستيك في عينات المشيمة البشرية"، حيث تراوح التركيز في 62 عينة من المشيمة بين 6.5 و 685 ميكروجراماً من البلاستيك لكل جرام من أنسجة المشيمة، وبمعدل 126.8، والأكثر نوعاً من البلاستيك هو بولي إيثلين وبولي كلوريد الفينل. فهذه الدراسة تثير التساؤلات حول تأثير البلاستيك على الحمل، وعلى الجنين في رحم أمه، وعلى تعقيدات الولادة وصحة الجنين المولود.

 

أما بالنسبة للقلب فقد نُشرت دراسة في 6 مارس 2024 في مجلة "نيو إنجلند الطبية" (New England Journal of Medicine) تحت عنوان: "الميكروبلاستيك والنانوبلاستيك في الأورام وحالات القلب والأوعية الدموية"، حيث شملت العينة 304 من مرضى الشريان السباتي الموجود في طرفي العنق، وتم اكتشاف بولي إيثلين في "البلاك"(plaque)، أو ترسبات اللويحات الدهنية في عينة 150 مريضاً، وبمعدل 21.7 ميكروجرام لكل مليجرام من البلاك. واستنتجتْ الدراسة بأن المرضى الذين اكتُشفتْ المخلفات البلاستيكية في عينة لوحات الشريان السباتي أكثر عرضة للسقوط في أمراض القلب.

 

والآن وبعد كل هذه الدراسات، هل يشك أحد منا بأن المخلفات البلاستيكية وغير البلاستيكية التي نتخلص منها سترجع إلينا مرة ثانية فتُعرض أمننا الصحي للخطر، وتهددنا بنزول أمراض غريبة ومستعصية على العلاج؟

 

إن هذه الحالة البيئية الصحية المزمنة التي نعيش فيها الآن من المفروض أن توقظ كافة الجهات المعنية بالصحة والبيئة، فيُعلنون فوراً حالة الطوارئ الصحية العامة لغزو المخلفات البلاستيكية الدقيقة لبيئتنا وكافة أعضاء أجسامنا، والبحث في الأسقام والعلل الجديدة والغريبة التي سنسقط فيها لا محالة.