الخميس، 30 يناير 2025

جامعة هارفرد تعتمد تعريفاً لمعاداة السامية


استجابة لضغوط شديدة ومستمرة من الصهاينة الأمريكيين في البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق جو بايدن، ومن بعض أعضاء الكونجرس الصهاينة، اضطرت أقدم وأعرق جامعة حديثة على وجه الأرض، وهي جامعة هارفرد إلى الرضوخ لهذه الضغوط العاتية، والتي تتمثل في اعتماد تعريف جديد مُحدد خاص بالجامعة لمصطلح "معاداة السامية". كما أن من تداعيات الضغط الأمريكي الصهيوني أيضاً استقالة رئيسة الجامعة في يناير 2024 "كلايداين جاي"(Claudine Gay) بعد جلسة استماع شرسة وقاسية لمجلس النواب ضد هذه الرئيسة.

وهذا الرضوخ المذل جاء من خلال دعوة قضائية رفعتها مجموعتان طلابيتان يهوديتان في جامعة هارفرد في محكمة اتحادية في مدينة بوسطن بولاية ماساشوستس التي تقع فيها الجامعة. وتتلخص القضية المرفوعة في عدة اتهامات منها انحياز الجامعة نحو القضية الفلسطينية والسماح لأنشطة معادية للسامية في الحرم الجامعي، وبخاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، واجهاض حقوق الطلبة اليهود والتمييز ضدهم ومحاربتهم في الحرم الجامعي وإبداء الكره لهم، وبالتحديد الصهاينة من اليهود.

 

ولذلك توصلت الجامعة إلى تسوية مع الجماعات والمنظمات الطلابية اليهودية التي رَفعت القضية ضد الجامعة حول معاداة السامية في 21 يناير 2024. ومن بين بنود التسوية تَبَني الجامعة لأحد التعريفات الموجودة حالياً حول معاداة السامية، وإضافة بعض البنود الجديدة عليه. أما التعريف الذي اعتمدته الجامعة، وهو الأكثر شيوعاً واستخداماً حول العالم، فهو تعريف "الإتلاف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة"(International Holocaust Remembrance Alliance والذي صدر تحت عنوان: "التعريف العملي لمعاداة السامية". وهذا التعريف معتمد في 45 دولة حول العالم، و 37 ولاية أمريكية، إضافة إلى وزارة الخارجية والتربية، حسب الأمر التنفيذي الذي صدر من البيت الأبيض عام 2019 باعتماد هذا التعرف في التحقيقات المتعلقة بمعاداة السامية. فهذا التعريف العملي الذي تم إقراره في 26 مايو 2016 في "بوخارست" من قِبَل تحالف ولجنة يهودية دولية ينص على أن: "معاداة السامية هي تصور معين لليهود، والذي يمكن التعبير عنه على أنه كراهية لليهود. فيتم توجيه المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية تجاه الأفراد اليهود أو غير اليهود و / أو ممتلكاتهم، وتجاه مؤسسات المجتمع اليهودي والمرافق الدينية".

كذلك من بين بنود تسوية قضية الجامعة مع المجموعات الطلابية اليهودية، وهذا يعتبر في تقديري من البنود الخطرة جداً لأنها تساوي بين اليهود والصهاينة، وبين اليهودية كدين، والحركة الصهيونية العالمية العنصرية التوسعية كفكرة ومبدأ، والتي لا تعترف بحق الفلسطيني في أرضه ووطنه، وتعمل على تهجيره كلياً، إضافة إلى السعي وراء إنشاء "إسرائيل الكبرى" التي تضم دول عربية أخرى، مثل الأردن ولبنان وجزء من مصر وسوريا والسعودية. ومن أجل تنفيذ هذا البند من التسوية، تضطر الجامعة إلى نشر بيان صريح يقول فيه: "للكثير من الناس اليهود، الصهيونية هي جزء من هويتهم اليهودية"، أي أن الجامعة حسب هذا التوجه الجديد لا تميز ولا تفرق بين اليهود والصهاينة، فكما هو محظور التمييز ضد اليهود في الجامعة، فيمنع في الوقت نفسه التمييز ضد إسرائيل كدولة والصهيونية كفكرة عالمية، ويحظر انتقاد الصهاينة ودولة إسرائيل.

ومن البنود أيضاً تقديم توضيحات وأمثلة لمعاداة السامية يتم فيها التركيز على الصهاينة ودولة إسرائيل، منها "عدم اتهام إسرائيل بازدواجية المعايير، أو وصف إنشاء إسرائيل بأنه "مسعى عنصري". ففي المجمل يُقدم التعريف أكثر من 11 مثالاً ونموذجاً على معاداة السامية، منها 7 أمثلة تُركز على "دولة إسرائيل"، مما يعني في الواقع استغلال هذا التعريف لمنع وحظر أي انتقاد للممارسات الصهيونية من قَبْلْ، أو اليوم، والمتمثلة في الهجمات البربرية التي نشهدها اليوم على غزة، وتشريد الملايين من أهل غزة، وقتل أكثر من 46 ألف وجرح قرابة 110 آلاف، وهدم المواقع الأثرية التاريخية التراثية للإنسانية جمعاء. فكل هذه الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر لو تم انتقادها يعني في نظر هذا التعريف معاداة للسامية، وكراهية لليهود ودولة إسرائيل وعدم الاعتراف بحقها في الدفاع عن نفسها والعيش بسلام وحقها في تقرير المصير. ولذلك طوال العقود الماضية بسبب مثل هذا التعريف وتجريم معاداة السامية، نجح الكيان في الإفلات عن العقاب، وعدم محاسبته وملاحقته على جرائمه ضد الإنسانية على كافة المستويات.

ولذلك فإن التركيز في تعريف هارفرد لمعاداة السامية في اعتبار معادة الصهيونية هي كمعاداة السامية، يعني توسيع دائرة "معادة السامية"، وبالتالي تضيق حدود حرية الرأي والتعبير حول اليهود، وهذا التوجه الجديد، والسياسة الحديثة تتماشى مع سياسة الحكومة الاتحادية في اعتبار معاداة الصهيونية معاداة للسامية، ورجيمة يعاقب عليها القانون الأمريكي. فقد صادق الكونجرس الأمريكي ممثلاً في مجلس النواب في 6 ديسمبر 2023 على قرار ينص بأن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية". وفي تقديري فإن هناك خطوة أخيرة ستضاف إلى الخطوات السابقة، وستكون "معاداة الكيان الصهيوني جريمة كمعاداة السامية والصهيونية"، وهذا التوجه المستقبلي يعتمد على أساس بأن "دولة إسرائيل" كيان يهودي مقدس من شعب الله المختار ولا يجوز انتقاده، ولا إبداء الرأي حول سياساته، وممارساته وجرائمه التي امتدت أكثر من 80 عاماً، وبذلك يكون الكيان قد نال الغطاء الدولي الشرعي الذي يمنع أي أحد، سواء أكان فرداً، أو منظمة أممية حقوقية وإنسانية، أو دولة من ملاحقة تعدياته، أو محاسبته ومعاقبته على أي خطأ، أو جريمة مهما كان نوعها. وأخيراً من ضمن هذه الخطة هي تعميم مثل هذه القوانين على كل دول العالم التي لا توجد بها مثل هذه التشريعات بدون استثناء، بدءاً بفرضها على الدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني، ثم باقي دول العالم.

وجدير بالذكر فإن هناك التعريف الثاني لمعاداة السامية الذي صدر في القدس في 26 مارس 2021 من مجموعة من العلماء اليهود تحت مسمى: "إعلان القدس حول معاداة السامية"(Jerusalem Declaration on Antisemitism). وهذا الإعلان يُعرِّف معاداة السامية بأنها: "التمييز، أو التحيز، أو العداء، أو العنف ضد اليهود كيهود". وهذا الإعلان يحتوي على 15 بنداً استرشادياً حول تفاصيل تعريف معاداة السامية، ويُقدم توجهاً بديلاً نوعاً ما وجديداً، وهو بذلك يُعد أكثر عدلاً وتوازناً من التعريف الأول، حيث يهدف إلى التوازن والتوفيق بين محاربة معاداة السامية من جهة، وحماية حرية التعبير وحماية الحوارات الدائرة المفتوحة حول مستقبل إسرائيل وفلسطين من جهة أخرى.

كذلك هناك التعريف الثالث المتضمن في "وثيقة نكسيس"(Nexus Document)، والمُقدم من فريق عمل من كلية بارنارد(Barnard College) وجامعة جنوب كاليفورنيا(Nexus Task Force). وهذا التعريف يفيد بأن معاداة السامية تحتوي على: "المعتقدات والمشاعر السلبية تجاه اليهود، والسلوك العدائي الموجه ضد اليهود (لأنهم يهود)، والظروف التي تميز ضد اليهود، وتعيق بشكلٍ كبير قدرتهم على المشاركة على قدم المساواة في الحياة السياسية، أو الدينية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية". كذلك تتضمن الوثيقة بياناً بأن:" حتى الانتقادات المثيرة للجدل، أو الحادة، أو القاسية لإسرائيل بسبب سياساتها وأفعالها، بما في ذلك تلك التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، ليست في حد ذاتها غير شرعية، أو معادية للسامية".

 وأمام هذه الضغوط الصهيونية لإعطاء غطاء وشرعية دولية لممارسات الصهاينة، هناك جهود ضعيفة ومحاولات بسيطة لا ترقى إلى قوة ونفوذ واتساع سلطة الجانب الصهيوني الآخر. ومن هذه الجهود الخطاب الموجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 4 أبريل 2023 من 100 منظمة لرفض التعريفات السابقة لمعاداة السامية، لأنها تُستغل من قبل الصهاينة ومن والاهم واتبع خطاهم لإلقاء التهمة البغيضة لكل من ينتقد الكيان الصهيوني بأنه يعادي اليهود والسامية. ونُشر الخطاب تحت عنوان: "حقوق الإنسان ومجموعات المجتمع المدني الأخرى تحث الأمم المتحدة على احترام حقوق الإنسان في الحرب ضد معاداة السامية". وجاء فيه بأننا نُمثل 104 منظمات مجتمع مدني، لنؤكد لك دعمنا القوي لالتزامات الأمم المتحدة لمحاربة معاداة السامية، وفي الوقت نفسه يؤكد الخطاب بأن تعريف معاداة السامية قد: "تم استغلاله عمداً لتصنيف انتقاد إسرائيل بأنه عمل معاد للسامية، ولذلك أدى إلى قمع الاحتجاجات السلمية والأنشطة والخطابات المنتقدة لإسرائيل والصهيونية.

ومثل هذه الجهود الخيَّرة لمقاومة تيار الصهاينة الجارف الشديد القوة، والواسع النفوذ يجب أن يُدعم بقوة من قبل الحكومات، والمنظمات العربية والإسلامية، إضافة إلى المنظمات الإنسانية والمعتدلة حول العالم والمجموعات اليهودية التي تقف ضد الصهيونية، ويجب إنشاء تيار يساوي، بل ويزيد في شدته على تيار الشر الصهيوني في القوة والهيمنة حتى ينجح في إضعافه وكسره وتحوير مساره.

 

الثلاثاء، 28 يناير 2025

ثلاثون عاماً من تذبذب القرارات الدولية حول التغير المناخي

 

في قراءة متأنية لقضية التغير المناخي من ناحية القرارات الدولية التي اتخذتْ منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بدءاً بالمؤتمر التاريخي قمة الأرض في يونيو 1992 في مدينة ريو دي جانيرو، يتبين بأن هناك عدم استقرار في القرارات الدولية الجماعية المشتركة حول التغير المناخي. فهناك تذبذب قوي في القرار، بين مدٍ وجزر، وبين تقدم وتأخر، وبين تطور وتباطؤ، وبين قرارات تصب في مصلحة مواجهة قضية التغير المناخي والتصدي لتداعياتها، وبين قرارات أخرى دولية، أو من بعض الدول القوية والمتنفذة والتي تؤدي إلى شل وتجميد القرارات السابقة، وارجاع عقارب الساعة إلى الوراء سنوات طويلة.

 

كما تشير هذه القراءة التحليلية الطويلة لقضية التغير المناخي الدولية بأن الدولة الوحيدة التي تتحمل المسؤولية الكبرى في تأخر وتباطؤ المجتمع الدولي في تنفيذ قراراته والسير بقطار التغير المناخي نحو الاستقرار وبر الأمان، وتجنب الكوارث المناخية المترتبة عليه هي الولايات المتحدة الأمريكية.  

 

وهناك سببان لاتهام الولايات المتحدة الأمريكية على عرقلتها وإعاقتها لتحركات قطار التغير المناخي الدولي المشترك. أما السبب الأول فقد قرأ عنه الجميع وهو الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس دونالد ترمب تحت عنوان: "أمريكا أولاً في الاتفاقيات البيئية الدولية"، بعد أدائه القسم لتنصيبه رئيساً لأمريكا في 20 يناير 2025 في أقل من 8 ساعات والمتعلق بالانسحاب الفوري للولايات المتحدة الأمريكية رسمياً من تفاهمات باريس لعام 2015 حول التغير المناخي. وهذا الانسحاب يعني التهرب من جميع تعهدات والتزامات أمريكا في التعاون مع دول العالم لمواجهة مردودات التغير المناخي، والتنصل عن مسؤولياتها التاريخية في خفض انبعاثاتها من الغازات والملوثات المتهمة بالتغير المناخي، ورفع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، والكوارث المناخية التي تنزل نتيجة لهذه التداعيات. كذلك من تداعيات هذا الانسحاب الأمريكي هو وقف جميع المساعدات والمنح والمساهمات المالية الأمريكية لصندوق التغير المناخي المخصص للدول النامية الفقيرة للتكيف مع تداعيات الكوارث المناخية والأضرار الجسيمة الناجمة عنها.

 

وجدير بالذكر فإن هذا ليس هو الانسحاب الأول من معاهدة خاصة بالتغير المناخي سواء لترمب نفسه، أو حكام البيت الأبيض بشكلٍ عام. ففي يونيو 1992 وقع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب في البرازيل على أول معاهدة دولية مشتركة حول التغير المناخي، وأُطلق عليها بالاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي، بحيث تقوم الدول بالتفاوض على بنودها وتفاصيلها في اجتماعات سنوية للدول الأطراف في هذه المعاهدة الأولى بدءاً من عام 1993، وبالتحديد في مجال الحد من انبعاث الملوثات التي تسبب هذه الظاهرة المناخية التي تهم الكرة الأرضية برمتها. فبعد عدة اجتماعات توصلت الدول في كيوتو في اليابان في ديسمبر 1997 إلى "بروتوكول كيوتو" في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، حيث التزمت الدول الصناعية المتطورة، ومن بينها أمريكا، إلى خفض انبعاثاتها للملوثات بنسبٍ محددة كل سنة. وهذا البروتوكول يعد أول اتفاقية جماعية مشتركة تتعهد فيها الدول الصناعية إلى الحد من انبعاثاتها إلى الهواء الجوي، وتعد خطوة جبارة إلى الأمام للتصدي لتداعيات التغير المناخي. ولكن هذا البروتوكول لم ير النور، ولم يكتب له طول العمر، فقد رفضت أمريكا في عهد الرئيس جورج بوش الابن ومعه الكونجرس التصديق عليه، أي رفضت التعهد بخفض الانبعاث، مما أرجع جهود مواجهة التغير المناخي إلى النقطة صفر.

 

فما كان على المجتمع الدولي إلا إعادة الكرة مرة ثانية والمحاولة مرة أخرى، فبعد جهود دولية مضنية، واجتماعات ماراثونية عُقدت كل سنة في دول مختلفة، وكان آخرها في باريس عام 2015، وافقت أمريكا في عهد الرئيس أوباما على بنود تفاهمات باريس حول التغير المناخي، وتعهدت الإدارة الأمريكية على خفض انبعاثاتها بنسبة محددة سنوياً، مما يعني خطوة إيجابية إلى الأمام، وإن لم تكن كافية. وهذه التفاهمات لم يكتب لها البقاء طويلاً، فقد دخل ترمب لأول مرة البيت الأبيض وله سياسات ومواقف لا تعترف أصلاً بوقوع ظاهرة التغير المناخي، إضافة إلى عدم اعترافه بالمعاهدات والتشريعات الدولية. فقام في الرابع من نوفمبر 2020 بالانسحاب النهائي من تفاهمات باريس، وضرب بذلك عرض الحائط كل التعهدات والالتزامات التي قطعها أوباما على نفسه. ثم بعد خروج ترمب جاء جو بايدن بسياسات أكثر إيجابية مع التغير المناخي بشكلٍ عام، ومع الجهود الدولية بشكلٍ خاص، فأرجع أمريكا إلى دائرة المواجهة الدولية للتغير المناخي في فبراير 2021. ولكن مع الأسف فإن هذا لم يدم طويلاً، حيث تم انتخاب ترمب للمرة الثانية للبيت الأبيض، وقام فوراً وبدون أي تأخير بنسف كل ما قام به بايدن، وأصدر سيلاً من الأوامر التنفيذية في الساعات الأولى من حكمه، ومن بينها الانسحاب مرة ثانية من تفاهمات باريس. أي أن جهود العالم رجعت من جديد 180 درجة إلى الخلف، وخلق حالة من البلبلة والقلق الشديدين، وأوقع التذبذب وعدم الاستقرار في القرار الدولي المشترك لمواجهة قضية التغير المناخي التي تخص كوكبنا.

 

وعلاوة على تخليه عن التزامات أمريكا في خفض انبعاثاتها، فقد أصدر أوامر تنفيذية أخرى تزيد من الطين بله، فترفع من مستوى انطلاق غازات الدفيئة من المصادر المختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من المصانع ومحطات توليد الطاقة، أو من السيارات. فقد أصدر أمراً تنفيذياً أعلن فيه "حالة الطوارئ الاتحادية في قطاع الطاقة"، ومن بين بنود الأمر هو إطلاق سراح التنقيب واستخراج النفط والغاز في الأراضي الأمريكية، حتى في المناطق المحظورة كالمحمية الوطنية للحياة الفطرية في ألاسكا، إضافة إلى الغاء المواصفات التي أصدرها بايدن لخفض انبعاث الملوثات المسؤولة عن سخونة الأرض من مصادرها المختلفة الكثيرة، كمحطات توليد الكهرباء والسيارات. ومن المعروف بأن أهم مصدر للغازات المسؤولة عن التغير المناخي، وهو ثاني أكسيد الكربون ينبعث عند حرق الوقود الأحفوري، سواء الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي، أي زيادة نسبة انبعاثه من الولايات المتحدة الأمريكية، وزيادة حدة المشكلة على حرارة كوكبنا.     

 

وأما السبب الثاني لاتهام الولايات المتحدة الأمريكية لإفشالها للجهود الدولية المعنية بمكافحة التغير المناخي، فهو تخليها عن القيام بدورها وتحمل مسؤوليتها التاريخية في خفض انبعاثات أمريكا للغازات المعنية بالتغير المناخي ورفع سخونة الأرض. فالولايات المتحدة يقع على عاتقها المسؤولية العظمى في نزول هذه الكارثة الدولية العقيمة على كوكبنا، فهي تعد الأولى على المستوى الدولي تاريخياً من حيث اجمالي انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول عن وقوع التغير المناخي والناجم عن حرق جميع أنواع الوقود الأحفوري. ولذلك هروب أمريكا من المعاهدات الدولية والانسحاب منها أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في حرارة الأرض، حتى أن معدل درجة الحرارة في عام 2024 ارتفع إلى مستوى غير مسبوق ولأول مرة، بمعدل 1.55 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، أو ما بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر(الفترة من 1850 إلى 1900). ولذلك فمهما بذلت دول العالم مجتمعة من جهود جماعية مشتركة، ومهما اتخذت من إجراءات علاجية ووقائية لمنع بلوغ سخونة الأرض إلى نقطة اللاعودة والنقطة الكارثية، فلن يفلحوا أبداً بدون جهود ودعم الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية خفض الانبعاث أولاً، وثانياً من ناحية الدعم المالي للدول الفقيرة والنامية لمساعدتها في مواجهة تداعيات التغير المناخي وخفض انبعاثاتها.

 

ولذلك فالقرار الدولي المعني بمواجهة التغير المناخي يعاني من حالة من عدم الاستقرار والتوازن منذ 33 عاماً، أي منذ أن وُضعت النواة الدولية الجماعية المشتركة للتعامل معه كفريق واحد، وهذه الحالة من الجمود وعدم تقدم القرار المناخي للأمام انعكس ميدانياً على صحة كوكبنا، فحرارة الأرض في ارتفاع مستمر، ومستوى سطح وحموضة البحر في ازدياد، ودائرة الكوارث المناخية تزيد وتتوسع.

 

الاثنين، 20 يناير 2025

معجزة انتصار غزة

 

انتصرتْ غزة بعد أن صمدت، وصبرت، وصابرت أكثر من 15 شهراً ليس أمام جيش الكيان الصهيوني فحسب الذي يُعد من أقوي جيوش منطقة الشرق الأوسط، وإنما أمام قوات بعض الدول الغربية وغير الغربية المتصهينة التي دعمت هذا الكيان الهش الضعيف منذ الساعة الأولى عسكرياً بالسلاح والذخيرة والجنود على الأرض، إضافة إلى المدد المعلوماتي والاستخباراتي على الأرض وفي أعالي السماء، والمساعدة المالية اللامحدودة، والدعم الإعلامي والسياسي والدبلوماسي.

 

وانتصرت غزة عندما فشل الكيان الصهيوني في تحقيق جميع أهداف حرب الإبادة المعلنة. فقد فشل في تحرير الأسرى بقوة السلاح، فالمقاومة احتفظت بالأسرى تحت الضغوط العسكرية المدمرة، والضغوط السياسية والدبلوماسية العنيفة، وتحت التهديد والوعيد من الحكومات ومنظمات الأمم المتحدة، كما فشل في استئصال المقاومة بكل فصائلها والتخلص منها كلياً، وفي مقدمتهم حماس والجهاد الإسلامي.

 

وانتصرت غزة عندما أرهبتْ الشعب الصهيوني ولأول مرة في داخل الأرض المحتلة، وألقت في قلوبهم الرعب والفزع والألم الشديد، فجعلتهم يهربون من القرى والمدن والمستوطنات ومنازلهم المغتصبة خارج الكيان الصهيوني بحثاً عن الأمن والأمان والسلام، بل وهرب الكثير منهم خارج البلاد.

 

وانتصرت غزة عندما أعلن زعماء وقادة الكيان الصهيوني والدول الغربية بأنها حرب وجودية مصيرية بالنسبة لهذا الكيان، مما اضطر قادة الغرب للجري سريعاً خائفين ومذعورين لزيارة للكيان الصهيوني واحداً تلو الآخر لطمأنته ومواساته على ضمان وجوده ومصيره في المنطقة، وتعهدهم بدعمه بالسلاح والزاد والعتاد، والمال، إضافة إلى الدعم العسكري والإعلامي.

 

وانتصرت غزة عندما قتلت وجرحت وأسرت من الصهاينة في أيام قليلة أكثر مما قتلت كل الجيوش العربية في حروبها التي خاضتها ضد الكيان الصهيوني، ودمرت من المعدات الثقيلة والخفيفة ما لا يمكن حصره وعده. وكل هذا الانتصار كان بأسلحة تقليدية بسيطة محلية الصنع، وبمعدات قديمة غير متطورة. ولكن واجهت هذا العدو البربري برجالٍ أشداء أقوياء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووقفوا وقوف الجبال الشامخات التي لا تهتز ولا تتزحزح أمام جبروت الصهاينة والغرب وقوتهم العسكرية المتفوقة عدداً وعُدة.

 

وانتصرت غزة عندما أطلقت الآلاف من السجناء الفلسطينيين القابعين عشرات السنين في سجون الاحتلال، ولولا هذا النصر المبين للمقاومة لما خرجوا منها أحياء أبداً.

 

وانتصرت غزة عندما أدخلت الكيان الصهيوني ولأول مرة في أروقة المحاكم الدولية التي كان لا يعترف بها وبقراراتها، بل ويعتبر نفسه فوق أي قانون أو قرار دولي، وبالتحديد في محكمة العدل الدولية. فنال الكيان الصهيوني شهادة الإبادة الجماعية التاريخية للبشر والشجر والحجر. كما انتصرت غزة عندما طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في 20 مايو 2024 اصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع في الكيان الصهيوني، إضافة إلى طلب محكمة العدل الدولية في 24 مايو 2024 وبالأغلبية المطلقة ولأول مرة في تاريخ هذه المحكمة على وقف العملية العسكرية فوراً في رفح.

 

وانتصرت غزة عندما سحب الاتحاد الأفريقي صفة "العضو المراقب" الذي كان يتمتع به الكيان الصهيوني داخل الجمعية العامة للاتحاد الأفريقي، ما يعني أنه تم حظر "تل أبيب" بشكل نهائي بعد عَقْدٍ من الجهود الدبلوماسية وسنتين من اعتماد تلك الصفة في 19 فبراير 2024.

 

وانتصرت غزة عندما جعلت الولايات المتحدة الأمريكية، الأب الروحي للكيان الصهيوني تنتقد وبشدة ولأول مرة ممارسات "نتن ياهو" والحكومة اليمينية المتطرفة، بل وانتقل هذا الانتقاد إلى الدول الغربية الأخرى الداعمة الرئيسة والمستمرة لهذا الكيان الضعيف، كما جعلت قضية غزة تتصدر الانتخابات الرأسية في أمريكا وفي الدول الأوروبية الأخرى، مثل بريطانيا وفرنسا.

 

وانتصرت غزة عندما وجَّهت بوصلة اهتمام العالم أجمع نحو غزة ونحو القضية الفلسطينية المنسية والمهملة طوال العقود الماضية، والتي كانت في طريقها نحو التصفية النهائية والنسيان. فالمسيرات والتظاهرات المليونية عمَّت دول الكرة الأرضية برمتها دفاعاً عن غزة وضد الكيان الصهيوني وسياسة الفصل العنصري والإبادة الجماعية للبشر والشجر والحجر. وبعض هذه المظاهرات كانت في دول حكوماتها، ومازالت منحازة للظالم الصهيوني وسياساته المجرمة المعتدية، فغزة انتصرت عندما كسبت الرأي العام العالمي وتعاطف الشعوب، والتضامن القوي من رجال الفكر والسياسة والإعلام، ورجال الفن والرياضة، ومن أصحاب الضمائر الحية.

 

وانتصرت غزة عندما تبنى مجلس حقوق الإنسان في الخامس من أبريل 2024 وبأغلبية 28 صوتاً من أصل 47، قراراً يدعو لمحاسبة "إسرائيل" على "جرائم حرب مُحتملة" ارتكبتها خلال عدوانها على قطاع غزّة، إضافة إلى الدعوة إلى وقف أي مبيعات للأسلحة.

 

وانتصرت غزة عندما وافقت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 10 مايو 2024 وبالأغلبية الساحقة وهي 143 دولة، على إعطاء دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. كما انتصرت غزة عندما نُشر تقرير ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الخاص بالأطفال والنزاعات المسلحة في 7 يونيو 2024، حيث أدخل الكيان الصهيوني ضمن قائمة المجرمين والدول والمنظمات التي ارتكبت جرائم ضد الأطفال، فقتل أكثر من 15 ألف طفل في غزة.

 

وانتصرت غزة عندما وافق مجلس الأمن في 10 يونيو 2024 على قرار لوقف إطلاق النار، وهذا في تقديري قرار تاريخي لأنه يصب نسبياً في مصلحة الشعب الفلسطيني ومقاومته بدون استخدام أمريكا للفيتو، أو حق النقض.

 

وانتصرت غزة عندما صدر قرار محكمة العدل الدولية في 19 يوليو 2024 ضد الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، ودعت الكيان الصهيوني إلى سرعة انهاء الاحتلال، وتقديم التعويضات الكاملة للممارسات الخاطئة التي قام بها.

 

وانتصرت غزة عندما أضرب الشعب الصهيوني عن العمل وخرج في مظاهرات مليونية في الأسبوع الأول من سبتمبر 2024 ضد نتنياهو وتضحيته بالأسرى الصهاينة عند المقاومة من أجل مصالحه الشخصية وبقائه في الحكم.

 

وانتصرت غزة عندما أصدرت محكمة الجنايات الدولية في 21 نوفمبر 2024 مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع الصهيوني السابق، مما أكد ولأول مرة بأن قادة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني سيحاسبون دولياً كمجرمي حرب وضد الإنسانية، وأن هذا الكيان لم يعد فوق القانون الدولي.

 

وانتصرت غزة عندما تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 3 ديسمبر 2024 قراراً يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعقد مؤتمر دولي في يونيو المقبل للدفع قُدماً باتجاه حلّ الدولتين.

 

وانتصرت غزة عندما أعلنتْ منظمة العفو الدولية في تقريرها المنشور في 4 ديسمبر 2024 بأن الكيان الصهيوني يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فالعالم يشهد بالصوت والصورة مباشرة هذه الجرائم، ولكن يقف فقط صامتاً ومتفرجاً عليها دون أن يقشعر بدنه على ما يراه، ودون أن يرفع صوته وبندقيته. فهذا القرار من منظمة أممية حقوقية مرموقة يمحي ويزيل إلى الأبد الوهم بأن الجيش الصهيوني حمل وديع لا يعتدي على أحد، ومن أكثر جيوش العالم خُلقاً وانضباطاً، في حين أن الحقائق عرَّته وبينت أنه جيش همجي وعدواني وبربري ووحشي متعطش لإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ.

 

وانتصرت غزة عندما كشفت حال العجز والفرقة في الأمتين العربية والإسلامية، وكشفت قلة حيلتهم، وضعفهم، وتفرقهم، وهوانهم أمام الدول الأخرى، بل وأزالت الغمامة والنقاب عن بعض العرب من المفكرين والكتاب والإعلاميين وغيرهم الذي كان يتخفى تحت أسماء وشعارات براقة وتحررية وليبرالية، فكشفت عن صهيونيتهم، وتقاربهم الروحي والجسدي والعقلي مع الكيان الصهيوني. كما أظهرت في الوقت نفسه عن الوجه الحقيقي لجميع المجالس والمنظمات والوكالات الأممية، فأكدت للجميع بأنها أدوات صورية ولا نفوذ حقيقي لها، وتخدم فقط مصالح الدول المتقدمة الكبرى ذات النفوذ الدولي القوي، وأنها وسائل ضغط تستخدم عند الحاجة ضد الدول الفقيرة والمستضعفة فقط.

 

فكل هذه الأحداث الجديدة التي نزلت على الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر 2023، حولت هذا الكيان المغتصب من دولة تفتخر بنفسها وتتكبر وتتعالى على المجتمع الدولي وتستهتر بالقوانين والمواثيق الدولية إلى دولة منبوذة ومعزولة ومعتدية، وحولت قادتها وجنودها إلى مجرمين مدانين ومطاردين ومطلوبين للعدالة حول العالم، فكل هذه المتغيرات والمستجدات التي يعاني منها الكيان الصهيوني، تدعوني إلى التأكيد على معجزة انتصار غزة.