الخميس، 27 مارس 2025

ظاهرة مستجدة لتلوث الهواء


ظاهرة تلوث الهواء يعرفها الإنسان منذ قديم الزمن، ولكن هذه الظاهرة منذ أكثر من 240 عاماً، ومع بزوغ فجر الثورة الصناعية، أصبحت مشهودة أكثر لعامة الناس، وملازمة لحياتهم اليومية، فيراها الجميع أمام أعينهم في المنزل وفي خارج المنزل من الملوثات والأدخنة السوداء التي تنبعث من السيارات، والقطارات، والطائرات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع. وكانت هذه الظاهرة طوال العقود الماضية مقتصرة على الهواء الجوي السفلي، أو ما يعرف بطبقة التروبوسفير من الغلاف الجوي الذي يتعرض لها الإنسان مباشرة، ويتأثر فورياً عند استنشاق هذا المخلوط المعقد والكبير من الملوثات.

 

ومع الزمن تحولت هذه الظاهرة إلى الهواء في طبقات الجو الأعلى التي لا يتعرض لها الإنسان، وبالتحديد طبقة الأوزون في الاستراتسفير التي توجد على ارتفاع يتراوح بين قرابة 10 إلى 40 كيلومتراً فوق سطح البحر. فقد كان الإنسان يُطلق من على سطح الأرض بعض المركبات الكيميائية التي يستخدمها في تطبيقات عملية يومية لا تعد ولا تحصى، مثل غاز التبريد أو الفريون في الثلاجات والمكيفات وغيرهما(مركبات عضوية تتكون من عنصري الكلورين والفلورين). وهذه المجموعة من المركبات المستقرة كيميائية والخاملة كانت تتحرك مع الوقت إلى السماء العليا فوقنا، وتنتقل إلى الأعلى سنة بعد سنة حتى وصلت إلى مستقرها الأخير وهي طبقة الأوزون العليا. وهناك وفي ذلك العلو، كانت هذه الغازات تلوث بيئة طبقة الأوزون التي كانت تحتوي على غاز الأوزون الذي يحمي الكرة الأرضية من شر الأشعة فوق البنفسجية القاتلة، فتُحلل وعلى مدى عقود طويلة من الزمن هذا الغاز الواقي للإنسان على سطح الأرض، فتسمح بمرو الأشعة فوق البنفسجية إلى أن تصل إلى سطح الأرض، فتؤثر سلبياً على البشر، والشجر، والحجر.

 

واليوم لوِّث الإنسان الهواء في الفضاء العليا على ارتفاعات ومسافات شاهقة لم تخطر على بال أحد، ولم يتصور أي إنسان بأن أيديه الفاسدة تبلغ تلك البيئات العالية جداً، الفطرية العذراء البكر الخالية من أية شوائب وملوثات بشرية.

 

فالإنسان بدأ غزو واستعمار الفضاء منذ نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في 4 أكتوبر 1957 مع إطلاق أول قمر صناعي من صنع الإنسان، ثم بدأت الرحلات الاستكشافية تزيد سنة بعد سنة، وتتنافس عدة دول متقدمة في تحقيق السبق في هذا المجال العلمي المتقدم، فتمكن الإنسان من الوصول إلى القمر، ثم المريخ، وبعدها بدأ بإطلاق الأقمار الصناعية الضخمة والصغيرة الحجم لأغراض عسكرية ومدنية. وعدد هذه الأقمار الصناعية التي كانت تحوم حول الأرض، وبخاصة في المدار الأرضي المنخفض، لم يزد عن ألف قمر صناعي قبل حوالي 15 عاماً، واليوم تفاقم العدد إلى قرابة عشرة آلاف، ومع توافر التقنية لجميع دول العالم، ومع صغر حجم ووزن هذه الأقمار الذي لا يتجاوز كيلوجرامات قليلة قد يصل العدد إلى أكثر من 60 ألف قمر صناعي بحلول عام 2040.

 

فكل هذا الغزو الفضائي، وكل هذه الاستكشافات الفريدة والمتطورة في علوم الفضاء لم تكن بدون مقابل على البيئات في أعالي السماء، وفي الفضاء الواسع السحيق. ولكن الإنسان كعادته في البداية يكون في سباقٍ محتدم وشديد مع الآخرين، فيتجاهل كل القضايا الأخرى التي في نظره ثانوية وهامشية، فلم يفكر في عواقب هذا الغزو الفضائي، ولم يكن لديه الوقت لسبر غور تداعيات هذه الاستكشافات ووجود هذا العدد المهول من الأٌقمار الصناعية والسفن الفضائية حول الأرض. كما أن الإنسان دُهش بحجم هذا الفضاء الواسع الذي لا ينتهي، وظن أن لا شيء يمكن أن يؤثر عليه، أو أن يغير من هويته، كما كان يظن من قبل بأن المحيطات واسعة جداً وعميقة وتستطيع أن تتكيف وتخفف من تأثير الملوثات التي تُصرف في بطنه، وأن الهواء الجوي فوقنا مباشرة أيضاً مساحته عظيمة ولا يمكن للملوثات التي يُطلقها أن تضر بصحته أو بالإنسان نفسه. 

 

ومن أول هذه الانعكاسات هو اكتظاظ الشارع الفضائي الذي تسير فيه كل هذه الأقمار الصناعية المتزايدة يوماً بعد يوم، وبالتحديد في المدار الأرضي المنخفض الذي يتراوح بين 160 إلى 2000 كيلومتر فوق سطح الأرض، فحدث اليوم ازدحام مروري شديد كالذي نشهده في شوارعنا على الأرض، فلم يخطر على بال العلماء بأن هذا الفضاء الواسع العميق قد يضيق فيعاني يوماً ما من هذه المشكلة التي نقاسي منها على سطح الأرض. وإضافة على هذه الأقمار التي تعمل الآن، فهناك الأقمار الصناعية التي انتهت فترة صلاحيتها وأصبحت لا تشتغل، ولكنها مازالت تدور حول الأرض. فهذا الازدحام المروري لا شك بأنه يولد حوادث وكوارث مرورية تتمثل في اصطدام هذه الأقمار، مما يؤدي إلى تفتتها إلى أجزاء وجسيمات صغيرة تدور أيضاً حول الأرض، ويُطلق عليها الآن بالمخلفات الفضائية، وهذه المخلفات والجسيمات الصغيرة تصطدم أيضاً مع بعض فتولد جسيمات أصغر فأصغر. فهناك اليوم الملايين من الجسيمات والمخلفات الفضائية بمختلف أحجامها وأوزانها تدور بسرعة فائقة وقد تصطدم بالأقمار والسفن السليمة الموجودة في المدار نفسه فتؤدي إلى تحطيمها وتكبد خسائر مالية وتنموية باهظة للإنسان، إضافة إلى تعريض سلامة الإنسان على سطح الأرض، حيث إن بعض هذه المخلفات نزلت على منازل الناس(مقال مجلة "الطبيعة" في 18 مارس 2025 تحت عنوان: "مخلفات الفضاء تسقط من السماء").    

 

ولعلاج ظاهرة المخلفات الفضائية وتراكم أعداد الأقمار الصناعية المنتهية الصلاحية، قرر الإنسان أن يعيدها إلى الأرض، وبالتحديد إعادة إدخالها في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى اشتعالها في تلك البيئة العليا وسقوطها على الأرض، أي أن الإنسان نفسه زرع مصدراً خبيثاً لتلوث البيئة الفضائية في تلك المنطقة البعيدة النائية.

 

ولكن حل مشكلة المخلفات الفضائية بحرقها في الغلاف الجوي خلق مشكلة أخرى عقيمة تتمثل في تدهور جودة الهواء في تلك البيئة البعيدة جداً، وتُغير نوعيتها وهويتها ونظامها الخاص بها، مما قد يسبب عواقب وخيمة مازالت مجهولة للإنسان، ومازال يبحث فيها الآن. ولذلك حاول الإنسان علاج المشكلة، فخلق لنفسه مشكلة أخرى!

 

وهذه القضية الجديدة لم تعد مقصورة على أهل العلم والاختصاص، ولم تعد سراً يتداوله الخبراء، وإنما وصلت إلى عامة الناس وإلى وسائل الإعلام، حيث نشرت مجلة "الإيكونومست" الاقتصادية العريقة مقالاً في 5 مارس 2025 حول هذه الظاهرة البيئية الخطيرة تحت عنوان: "الأٌقمار الصناعية تلوث الاستراتسفير".

 

وهناك الكثير من الدراسات العلمية التي غزت الفضاء للاستكشاف أيضاً، ولكن في مجال بحثي آخر هو التعرف عن كثب على المردودات السلبية لهذه العمليات البشرية في الفضاء، ودراسة وجود الملوثات الفضائية الناجمة عن إطلاق الصواريخ والأقمار والسفن الصناعية الفضائية على جودة الهواء في الغلاف الجوي في طبقاته الست المعروفة التي يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 20 إلى قرابة 600 كيلومتر. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في مجلة "البيانات العلمية"(Scientific Data) في 3 أكتوبر 2024 حول تلوث الهواء من الأقمار الصناعية واحتراق الصواريخ، ودراسة ثانية منشورة في 10 أكتوبر 2023 في مجلة "وقائع الأكاديمية الأمريكية للعلوم" تحت عنوان: "المعادن من إعادة دخول سفن الفضاء في طبقة الاستراتسفير".

 

وهذه الدراسات توصلت إلى النتائج التالية:

أولاً: الأقمار الصناعية التي تنتهي صلاحيتها يُعاد إدخالها إلى الغلاف الجوي للتخلص منها لتخفيف الازدحام المروري في مدارات الأرض المنخفضة، فتشتعل وتحترق في الطبقات المختلفة للغلاف الجوي، وتولد أنواعاً كثيرة من الملوثات، حسب نوعية وكمية المعادن التي تدخل في صناعة القمر الصناعي، إضافة إلى نوعية الوقود المستخدم لإطلاق الصواريخ في مراحله المتعددة.

 

ثانياً: عملية احتراق القمر الصناعي تَنتج عنها أكثر من 25 نوعاً من الملوثات الغازية والصلبة منها غاز ثاني أكسيد الكربون، وأول أكسيد الكربون، وجسيمات الكربون الأسود، وأكاسيد النيتروجين، والكلورين، وبخار الماء، والنحاس، والرصاص، والليثيوم، وأكسيد الألمنيوم، وهيدروكسيد الألمنيوم، والصوديم، والمغنيسيوم، والكروميوم، والنيكل، والفضة، والنيوبيوم(Niobium)، والهافنيوم(Hafnium) والقصدير، وكلوريد الفضة، والفلورين، والحديد، والكادميوم، والبريليوم. وجميع هذه الملوثات تفسد هوية ونوعية مكونات الغلاف الجوي وتؤثر على خصائصه الكيميائية، وتضر بالنظام البيئي في تلك المنطقة من الغلاف الجوي.

 

ثالثاً: بعد انبعاث هذه الملوثات تحدث سلسلة من التفاعلات بين هذه الملوثات ومكونات الغلاف الجوي. فبعض الملوثات الناجمة عن الحرق مثل الدخان الأسود، أو الكربون الأسود، وأكسيد الألمنيوم، وأكاسيد النيتروجين لها القدرة على تحلل غاز الأوزون في طبقة الأوزون، مما يفاقم من قضية انخفاض غاز الأوزون في تلك الطبقة. فعلى سبيل المثال، أكسيد الألمنيوم يتفاعل مع كلوريد الهيدروجين في طبقة الاستراتسفير فينتج كلوريد الألمنيوم الذي يتحلل بالضوء العالي لينتج الكلورين الذي يحلل غاز الأوزون. كذلك فإن الرماد، والدخان، والجسيمات الدقيقة العالقة في عمود الغلاف الجوي تمتص الضوء فتسبب تغيراً مناخياً لا يعرف أحد نتائجه على الإنسان وكوكبنا، إضافة إلى أن بعض هذه الملوثات قد تؤثر على المجال المغناطيسي للأرض. وعلاوة على ذلك كله فإن هذه الملوثات مع الزمن قد تنزل على الأرض بالترسب الجاف، أو الترسب الرطب من خلال الثلوج والأمطار. 

 

ولذلك نشهد اليوم هذه الظاهرة الجديدة لتلوث الهواء في أعالي بيئة الغلاف الجوي، ونرى كيف أن الإنسان وبدون أن يشعر أو يخطر على باله قط قد أدخل بيديه مصدراً لتلوث الغلاف الجوي في تلك البيئة الفطرية التي لم تمسها من قبل أيدي البشر. فكما أن الإنسان بأنشطته التنموية الأحادية الجانب وغير المستدامة لوث كل بيئة وكل شبر على سطح الأرض، فها هو الآن يكرر تعديه ويرتكب الأخطاء نفسها فيلوث بيئة الفضاء النائية من جهة، وبيئة الكواكب والأقمار الطبيعية من جهة أخرى.

 

الخميس، 20 مارس 2025

أمريكا توجه ضربة قاضية للجهود الدولية المناخية


ضربة قاضية وجهها وزير الطاقة الأمريكي "كريس رايت"(Chris Wright) إلى الجهود الأممية التي استمرت 33 عاماً لمواجهة قضية العصر، وهي ظاهرة التغير المناخي وتداعياتها العقيمة كارتفاع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وازدياد حموضة مياه البحار، وما ينجم عنها من أعاصير وفيضانات وتدمير للبنية التحتية الساحلية، إضافة إلى الموجات الحرارية وحرائق الغابات.

 

فهذه الجهود الدولية التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وبالتحديد في قمة الأرض في ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992 التي وضعت حجر الأساس لمواجهة التغير المناخي على المستوى الدولي، ذهبت كلها مع الريح، وذهب معها مئات الملايين من الدولارات التي أُنفقت على إعداد وتنظيم اجتماعات التغير المناخي في مدن العالم المختلفة والتي وصلت حتى اليوم إلى 29 اجتماعاً دولياً، كما صرَفتْ دول العالم من ميزانياتها عشرات الملايين على سفر الوفود الرسمية وغير الرسمية للمشاركة في هذه الاجتماعات العبثية، إضافة إلى أن تحركات وانتقال هذه الوفود من دولة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى خلال هذه العقود، مما فاقمت من أزمة التغير المناخي بإطلاقها من وسائل المواصلات والنقل جميع أنواع الملوثات المتهمة بنزول التغير المناخي على كوكبنا، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون الناجم عن احتراق أي نوع من أنواع الوقود الأحفوري، الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي.

 

فكل هذا العمل الماراثوني الدؤوب والشاق والمُكلف لصناديق الدول المالية، وكل هذه المفاوضات الدولية التي عُقدت أثناء اجتماعات التغير المناخي، أصبحت بسبب الولايات المتحدة الأمريكية لا جدوى منها، ولا فائدة لها، والتي تمثلت اليوم في تصريحات وزير الطاقة الأمريكي الذي أرجع عقارب الساعة إلى الوراء 33 عاماً، وصرح بتحور عكسي 180 درجة في السياسات المناخية الحالية.

 

فبعد 33 عاماً من المفاوضات بين دول العالم في اجتماعات التغير المناخي الأممية، وافقت الدول في اجتماع التغير المناخي رقم (28)في دبي على صياغة توافقية وخارطة طريق "للتحول بعيداً عن الوقود الأحفوري"، أي التخلص التدريجي للفحم، والنفط، والغاز، بسبب أن الوقود الأحفوري هو المصدر الرئيس المتهم بالتغير المناخي للأرض، علماً بأن هذه الصياغة يتم الاجماع عليها لأول مرة.

 

ولكن وزير الطاقة الأمريكي في العاشر من مارس 2025 في مؤتمر "النفط والغاز" السنوي الذي عُقد في مدينة البترول "هيوستن" بولاية تكساس، وفي الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، نسف كلياً كل هذه الجهود الدولية المشتركة، ورمى بتوافقات دول العالم عرض الحائط، وهدم ما بناه الدول على مدى 33 عاماً عندما صرح قائلاً: " نحن نتبع بلا خجل سياسة المزيد من إنتاج الطاقة والبنية التحتية الأمريكية، وليس أقل"، أو بشكل أوضح فإن وزير الطاقة قال بأن ما يحتاج إليه العالم الآن هو المزيد من الوقود الأحفوري، أي اطلاق سراح هذا النوع من الوقود ليستخدم على نطاقٍ واسع وبما يتناقض كلياً مع قرار الاجتماع رقم (28) للتغير المناخي الذي دعا إلى الحد من استعمال الوقود الأحفوري، والسعي نحو التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة بعيداً عن الوقود الأحفوري. وفي الوقت نفسه أكد الوزير بأن سياسة بايدن المتعلقة بالتغير المناخي ستصبح جزءاً من الماضي وستُستبدل بسياسات مناخية مختلفة جذرياً، حيث قال: "إدارة ترمب ستُنهي سياسات بايدن المتعلقة بالتغير المناخي". فهذا التغير في السياسات جاء في مجالين، الأول خفض الاعتماد والاستثمار في مصادر الطاقة الخضراء المتجددة كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وغيرهما، والتوجه مرة ثانية نحو استخراج وإنتاج واستعمال أنواع الوقود الأحفوري، والثاني فهو تغيير أولويات سياسة التغير المناخي.

 

فهذه الضربة القاضية من وزير الطاقة الأمريكي جاءت بعد ضربات سابقة ومتكررة في جولات كثيرة وجهتها وزارات ووكالات أمريكية أخرى في عهد ترمب الثاني في الجانبين المالي والتشريعي المتعلقين بالتغير المناخي. فقد انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية، حسب قرار وزارة الخزانة في 10 مارس من صندوق المناخ الذي يُطلق عليه "صندوق الخسائر والأضرار"( Loss and Damage Fund)، والذي يعتبر عصب الحياة لمواجهة تداعيات التغير المناخي. فهذا الصندوق يقدم الدعم المالي للدول النامية الفقيرة والمتضررة من تداعيات التغير المناخي الكثيرة التي نزلت عليهم بسبب انبعاثات الدول الصناعية المتقدمة منذ أكثر من 200، كتعويض عن الخسائر الناجمة عنها، إضافة إلى مساعدتها للتكيف مع التغير المناخي وخفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة. فهذا الشح المالي الذي سيعاني منه الصندوق سيفاقم من معاناة الشعوب والدول الساحلية الفقيرة من ارتفاع حرارة الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر، وما ينجم عنه من أعاصير وفيضانات وتدمير شامل للمرافق الساحلية. كذلك في الجانب المالي أعلنت وكالة حماية البيئة الأمريكية في 11 مارس بأن الوكالة ستنهي المنح المقدمة من "صندوق خفض غازات الدفيئة" بقيمة 20 بليون دولار، والتي كانت تصرف على مشاريع لها مردودات مناخية تخفض من نسبة انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي، كالسيارات الكهربائية وفرن الكهرباء وغيرهما، إضافة إلى مشاريع الطاقة المتجددة غير الملوثة للبيئة.

 

وفي الجانب التشريعي فقد قامت وكالة حماية البيئة بفك الحزام، ورفع القيود النظامية والتشريعية عن المصادر الملوثة للهواء الجوي والمسببة للتغير المناخي من محطات توليد الطاقة والسيارات والمصانع، بحيث إنها غير ملزمة الآن بخفض انبعاثاتها.

 

فهذا التحول الجذري في السياسات المناخية انعكست مباشرة على سياسات الشركات العملاقة للوقود الأحفوري، فاعتبرتها فرصة ذهبية لمواصلة عملها كالسابق من استخراج وإنتاج الوقود الأحفوري دون الحزم في أخذ الاعتبارات البيئية. وبناءً عليه اتخذت عدة إجراءات لتتوافق مع هذه السياسات الجديدة، منها تغيير أولويات الشركة من الإسراع في الاستثمار في مصادر الوقود النظيف والمتجدد إلى الاستثمار في استخراج أنواع الوقود الأحفوري، إضافة إلى وقف الإجراءات الخاصة بخفض انبعاث الملوثات المسؤولة عن التغير المناخي.

 

فكل هذه التغييرات التي نشهدها اليوم تنهل من المنبع الأصلي المُلَوثْ، وهو سياسات ترمب التي ينتهجها منذ أكثر من عشر سنوات، من انكارِ وقوع التغير المناخي، إلى انكار وجود أي دور للإنسان في سخونة الأرض، ثم إلى عدم الاعتراف بالجهود الأممية المشتركة التي تصب في مكافحة تداعيات التغير المناخي كالانسحاب مرتين من تفاهمات باريس الدولية لعام 2015 حول التغير المناخي، الأول في نوفمبر 2020، والثاني في يناير 2025.

 

فمع كل هذه المستجدات السلبية المؤثرة في مجال مكافحة التغير المناخي، ومع خروج أمريكا المسؤول الأول عن وقوع التغير المناخي من جهود المجتمع الدولي، هل سيكون هناك أي جدوى لاجتماع آخر للأمم المتحدة حول هذه القضية يضيف إلى الاجتماعات الأخرى التي لم تصب في مصلحة كوكبنا، وهو الذي سيكون الاجتماع رقم (30) في البرازيل؟

 

 

الخميس، 13 مارس 2025

تسييس حرية الرأي والتعبير


كل الدول بدون استثناء تدَّعي بأنها توفر هامشاً كبيراً وتُقدم ميداناً واسعاً للشعوب لتعبر عن رأيها وفكرها حتى ولو اختلف عن رأي الدولة، كما تُصرح هذه الدول بأن حرية التعبير والرأي مكفولة ومصونة ويدعمها دستور وتشريعات الدولة.

 

ولكن هذه الادعاءات لكي تكون لها مصداقية وواقعية يجب أن تُترجم في قُدرة وسائل الإعلام على النقد وطرح الرأي الآخر في المجتمع بدون رقابة مشددة، أو ملاحقة قضائية وعقاب غليظ. كما يجب أن تنعكس على وسائل التواصل الاجتماعي من إعطاء الحرية للأفكار المختلفة والمتنوعة، إضافة إلى أنها يجب أن تترجم هذه الادعاءات في منح الحريات في أبحاث ودراسات مراكز البحوث والجامعات ومراكز الفكر، بحيث تكون لديها الصلاحية في اختيار نوعية الدراسات، والقضايا التي تعالجها، والمواضيع التي تتناولها.

 

ولذلك الكثير من الدول تفشل عند التجربة الأولى، وترسب في الامتحان الأول، وهذا ما حدث اليوم في أكبر الدول تقدماً وتطوراً، وأكثرها ادعاءً بتطبيق الديمقراطية واطلاق سراح الشعب لإبداء رأيه، والتعبير عن فكره، إضافة إلى تبني وتشجيع التنوع الثقافي والفكري والديني.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية سرعان ما كشفت عن وجهها القبيح بعد تولي "الملك" ترمب، حسب ادعائه شخصياً بأنه ملك، زمام الحكم للمرة الثانية في البيت الأبيض، فأظهر بشكلٍ علني ومشهود وقوي سياساته الضيقة الأحادية الجانب ضد الآراء والمواقف المخالفة له، والتي لا تتفق مع سياساته المسيحية الصهيونية المتطرفة. فالملك ترمب ذكرني بفرعون مصر الذي قال لشعبه، كما ورد في القرآن الكريم: " ما أُريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". فالرأي الصواب رأي ترمب، والفكر السليم هو فكر ترمب، والسياسة الصحيحة هي ما تتوافق مع سياسته، وغير ذلك يجب أن يحارب بسلاح القانون والقضاء المسيس، وبسلاح التضييق المالي ومنع الدعم والمساعدات، إضافة إلى سلاح الطرد من الوظيفة والترهيب. ولذلك قد نفذ فرعون أمريكا سياسة الرأي الواحد، والفكر الواحد، والتعبير الواحد على الجامعات ومراكز البحوث، ووسائل الإعلام الأمريكية على حدٍ سواء، واستخدم في ذلك أسلوب بعض الدول النامية والمتأخرة، أي أسلوب الحكم "البوليسي" لتنفيذ جدول أعماله، أي بعبارة أخرى قام ترمب بتسييس حرية الرأي والتعبير والفكر بحيث لا تخرج عن دائرة رأيه وسياساته ومواقفه.

 

ومن أجل تنفيذ سياساته وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبخاصة تلك المتعلقة بمعاداة السامية، ومعاداة الصهيونية والكيان الصهيوني، قام بتشكيل فريق عمل متخصص في مكافحة معاداة السامية تحت مسمى "فريق عمل مكافحة معاداة السمية"(Task Force to Combat Anti-Semitism). ويتكون أعضاء الفريق من "إدارة الخدمات العامة"، ووزارة التربية، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالية. والهدف الرئيس، والمهمة الأساسية لفريق العمل هو "استئصال التحريض على السامية في المدارس والجامعات"، وبخاصة بعد التضامن الكبير والواسع النطاق غير المسبوق في معظم جامعات أمريكا للقضية الفلسطينية ومواقفهم المعارضة للإبادة الجماعية الشاملة التي تعرض لها سكان غزة فاستشهد أكثر من 47 ألف فلسطيني.

 

وكانت الضحية الأولى التي يجب أن تقتدي بها باقي الجامعات لهذه الفرقة البوليسية هي جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك، حيث تم إلغاء 400 مليون دولار بشكلٍ فوري من المنح والعقود التي تُعطى للجامعة، حيث برَّر الفريق هذا الترهيب والابتزاز المالي للجامعة في بيان منشور جاء فيه: "الجامعة استمرت في عدم اتخاذ خطوات جادة لمواجهة المضايقات ضد الطلبة اليهود ومعاداة السامية". وقد نشرت "إدارة الخدمات العامة" في السابع من مارس 2025 هذا القرار التعسفي في بيان رسمي تحت عنوان: " وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارة التربية، وإدارة الخدمات العامة تعلن عن إلغاء أولي للمنح والعقود إلى جامعة كولومبيا بقيمة 400 مليون دولار". فهذا التضييق المالي الأولي على الجامعة، وهذا الابتزاز والضغط عليها لتكون أقل تحملاً لحرية التعبير والرأي، يرهب إدارة الجامعة ويضطرها إلى أن تكون أكثر تشدداً لمن يبدي رأيه دعماً للقضية الفلسطينية، أو أنه يعارض الإبادة الجماعية للشعب المحاصر والأعزل. فالمطلوب إذن لكي يرضى الملك ترمب عن الجامعات ويمنحها الدعم المالي الاتحادي عدم الدفاع عن القضية الفلسطينية كلياً، وعدم السماح للطلبة بإبداء الرأي حول الإبادة الجماعية وكأنها لم تقع أمامنا، ولم نشاهدها في وسائل الإعلام على الهواء مباشرة، إضافة إلى عدم انتقاد قتل الأطفال والنساء والشيوخ، والسكوت على هدم المستشفيات والكنائس والمساجد، والصمت عن معاناة الشعب برمته. فلا يبدي أي طالب أية عاطفة، أو يعبر عن شعور إنساني، أو إحساس بشري مع الشهداء، والضحايا، والثكالى، والمرضى، واليتامى، والأرامل، والمعوقين بسبب حرب الصهاينة الهمجية والبربرية على شعب غزة ومخيمات الضفة الغربية، وإذا فعل ذلك فهو سيكون متهماً بمعاداة السامية وسيعتقل ويطرد فوراً من أمريكا! وقد كانت الضحية الأولى على مستوى الطلبة لتسييس وقمع حرية الرأي والتعبير هو الأمريكي الفلسطيني الأصل محمود خليل الذي يحمل البطاقة الخضراء واعتُقل في 10 مارس من السكن الطلابي في الجامعة، وقد صرح ترمب مرهباً الطلبة الآخرين قائلاً: "هذا هو الاعتقال الأول من بين الكثير من الاعتقالات القادمة". 

 

وأما القطاع الثاني غير قطاع الجامعات الذي تم تسييس حرية الرأي والتعبير فيه فهو السلطة الرابعة، أو وسائل الإعلام. فقبل دخول الملك ترمب البيت الأبيض كانت له مواقف معادية لوسائل الإعلام، وكان دائماً يهددها ويسخر منها، وتم تفعيل هذه السياسات الآن بعد أن مسك عصا السلطة التي بدأ يضرب فيها بشدة هذه الوسائل الإعلامية. واستخدم في ذلك عدة أدوات لكبح جماح الإعلام، وترويضها، وجعلها تردد ما يقوله ويصرح به كصدى الصوت، مثل أداة الدعوات القضائية، وأداة إدارية تهميشية واقصائية للوسائل التي لا تتفق مع رأيه وسياساته. أما بالنسبة للدعوات القضائية فقد رفع قضية ضد المحطة التلفزيونية الإخبارية الشهيرة "أي بي إس"، وتوصل معهم إلى تسوية بحيث دفعت المحطة مبلغ 15 مليون دولار، إضافة إلى القضية التي رفعها ضد المحطة التلفزيونية الشهيرة "سي بي إس". وعلاوة على هذه الإجراءات القضائية المالية فقد استخدم أسلوب الإقصاء والتهميش، حيث منع وكالة "أسوشييتد برس" المعروفة من البيت الأبيض، وحظر تغطيتهم لأخبار البيت الأبيض، وذلك بسبب تقديمهم وتبنيهم لآراء مخالفة للملك ترمب. كما أصبح البيت الأبيض الآن ولأول مرة هو الذي يختار الشبكات الإعلامية التي تحضر المؤتمرات الصحفية الدورية في البيت الأبيض، حيث يركز ترمب على وسائل الإعلام اليمينية المسيحية والصهيونية المتشددة، حتى يسيس آراءهم ويضمن نشرهم لسياساته، ومواقفه دون انتقاد، أو معارضة، فتتحول هذه الوسائل إلى أبواق عمياء تكرر وتنقل فقط آراء وسياسات حكومة ترمب.

 

والمشكلة الأعظم الآن ستكمن في أن هذا الوباء الفكري العقيم لن يتفشى فقط على مستوى أمريكا فحسب وإنما سينتقل إلى ما عبر البحار والمحيطات، فيُعدي ويلوث سياسات الدول الأخرى التي ستتأثر به، وبخاصة أن الملك ترمب لم ينتظر طويلاً للإفصاح عن نواياه التوسعية الجغرافية حول العالم، وفرضْ سياساته وآرائه المتطرفة والمنحازة على الآخرين خارج أمريكا، كما أنه لم يصبر قليلاً حتى بعد موعد تنصيبه رئيساً رسمياً للولايات المتحدة الأمريكية ليؤكد على طموحاته الاستعمارية لدول العالم التي تتمتع بالسيادة والحكم الذاتي، سواء بالقوة العسكرية التقليدية المعروفة، أو بسلاح القوة الاقتصادية، أو بالترهيب والابتزاز. ففي السابع من يناير 2025 في المؤتمر الصحفي أعلن عن خططه للانقضاض على الدول، وضمها إلى إمبراطورتيه الواسعة بحجج بالية ووهمية منها ضروريات الأمن القومي الأمريكي، وتعميم السلام والأمن على سطح الأرض، وحماية العالم الحر، مثل جزيرة جرينلاند، وقناة باناما، إضافة إلى ضم كندا لتُصبح الولاية رقم (51) للولايات المتحدة الأمريكية، كما قام بتغيير الاسم التاريخي لخليج المكسيك إلى "خليج أمريكا".

 

فكل ما سبق يؤكد على واقعية الحُكم الدكتاتوري التوسعي وسياسة رأي الفرد الواحد فقط، والعمل بشدة على تسييس حرية الرأي والتعبير على كافة المستويات في الداخل والخارج لتتوافق مع هذا الحُكم، بحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية مع هذا التلوث الفكري والتنمر على الآخرين تحولت إلى دولة من دول العالم الثالث، أو إحدى الدول النامية غير المتحضرة التي تفتقر إلى حرية كاملة للرأي والتعبير والفكر المتنوع والمختلف.

 

 

الثلاثاء، 11 مارس 2025

رؤية البحرين الاقتصادية 2050 وتلوث الهواء

 

"رؤية البحرين الاقتصادية 2050" التي ستُطلقها البحرين في الفترة القادمة يجب أن تركز على أمرين اقتصاديين هامين. الأول هو الجانب المتعلق في زيادة إيرادات الدولة المالية في جميع القطاعات النفطية وغير النفطية، من سياحية، وخدمية، واستثمارية مالية، وصناعية، وغيرها من روافد ومصادر تنمية اقتصاد الدولة. والثاني وهو في تقديري الذي يتم عادة تجاهله وغض الطرف عنه فهو تحديد القضايا والمجالات التي ترفع من نسبة مصروفات الدولة، وتزيد من النفقات العامة، فتؤدي إلى إرهاق ميزانية الدولة.

 

فلا بد إذن من التركيز بالقدر نفسه على هذين الأمرين، والتوازن والاعتدال في الجهود المبذولة في نجاحهما وتحقيقهما معاً جنباً إلى جنب، حتى لا نضع جل اهتمامنا ووقتنا، ونصب كل جهودنا في الجانب الأولي، وننسى الجانب الثاني الذي يستهلك ويستنزف كل ما حققنا من استثمارات ورفع لمداخيل الدولة وإيراداتها. أي لا نريد أن نُدخل في ميزانية الدولة ملايين الدنانير من جهة، ثم من جهةٍ أخرى نُنفق ونصرف أكثر منها على قضايا قد أهملناها وتجاهلنا مردوداتها السلبية على اقتصاد الدولة وميزانيتها.

 

فهناك اليوم قضايا اقتصادية غير القضايا الاقتصادية التقليدية المعروفة منذ عقود طويلة من الزمن، وتأثير هذه القضايا الحديثة المستجدة على اقتصاد الدولة وميزانيتها يقع بطريقة غير مباشرة وعلى المدى المتوسط والبعيد، ويكون هذا التأثير مرهقاً لميزانية الدولة. ومن بين هذه القضايا الاقتصادية الجديدة هو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، والذي يعتبر من العوامل الاقتصادية الخارجية التي تستنزف المال العام.

 

وقد اهتمت الدول الصناعية المتقدمة بقضية تلوث الهواء بشكلٍ جدي، ولكن على عدة مراحل ومستويات استغرقت فترات زمنية طويلة. ففي المرحلة الأولى اهتمت الدول المتطورة بقضية تلوث الهواء والملوثات السامة والخطرة الموجودة فيه من الناحية البيئية البحتة، كأضرارها المباشرة على صحة وسلامة الهواء وجودته وصفائه وتغير لونه، إضافة إلى انكشاف مظاهر بيئية ظهرت في الهواء الجوي في هذه المدن الصناعية العريقة، كالضباب الأسود، والضباب الضوئي الكيميائي، والمطر الحمضي والأسود وغيرها من المظاهر المتعلقة مباشرة بجودة الهواء الجوي. ثم بعد عقود من الزمن من نزول هذه المظاهر والمشكلات البيئية في الهواء الجوي، اكتشف الإنسان أن لهذه المظاهر جوانب صحية، وأن هذه المظاهر التي تنكشف في الهواء الجوي لها أبعاد خطيرة على الأمن الصحي للإنسان، سواء على المستوى المباشر القريب، أو على المستوى غير المباشر والبعيد. ومن هنا جاءت المرحلة الثانية من عناية واهتمام الدول المتقدمة بتلوث الهواء، وهو معرفة العلاقة بين تلوث الهواء والصحة العامة. فقد أكدت آلاف الدراسات والأبحاث البيئية والصحية على أن هناك الكثير من الأمراض التي ارتبطت الآن بتلوث الهواء، والتعرض للملوثات لفترة طويلة من الزمن، والعيش في مدن ملوثة، مثل أنواع كثيرة من السرطان، وعلى رأسها سرطان الرئة، علماً بأن سرطان الرئة في العقود الماضية كان مرتبطاً بالتدخين واليوم بتلوث الهواء(مجلة اللانست في 3 فبراير 2025). ومن الأمراض الأخرى ذات العلاقة بتلوث الهواء، أمراض الجهاز التنفسي الأخرى كالربو والانسداد الرئوي المزمن، وأمراض القلب، السكتة الدماغية، ومرض احتشاء عضلة القلب، وارتفاع ضغط الدم، إضافة إلى مرض السكري من النوع الثاني، والشيخوخة المبكرة، وتعقيدات حمل المرأة والتأثيرات المباشرة على الولادة وصحة الطفل المولود. ومع الزمن تحولت هذه العلاقة بين تلوث الهواء وبعض الأمراض الحادة والمزمنة إلى حقيقة علمية أجمع عليها العلماء والمنظمات الصحية الدولية ذات العلاقة. فعلى سبيل المثال، منظمة الصحة العالمية وصفت تلوث الهواء بالقاتل الصامت، كما صنَّفت الوكالة الدولية للأبحاث عن السرطان، وهي الذراع العلمي المهتم بمرض السرطان لمنظمة الصحة العالمية، تلوث الهواء بأنه المحتمل أن يكون مسرطناً، أي يصيب الإنسان بمرض السرطان.

 

فبعد التأكد والاجماع على أن هناك علاقة مباشرة وسببية بين التعرض للهواء الملوث والعيش في بيئة ملوثة وبين الكثير من الأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج، إضافة إلى تأثيرها المباشر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بجودة الهواء والصحة العامة والعيش في بيئة صحية وسليمة، كان لا بد من الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الرعاية والاهتمام من قبل الدول المتطورة، وهي كلفة علاج الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء الجوي، ومدى تأثيرها على اقتصادات وميزانيات الدول، وحجم الانفاق والمصروفات على إدارة أمراض البيئة الملوثة. ففي هذه المرحلة الأخيرة تم التعامل مع تلوث الهواء كقضية اقتصادية، ونفقات خارجية تتحملها الدول، وتصرفها من ميزانياتها.

 

ومن أجل التعرف عن كثب على الجانب الاقتصادي المالي لتلوث الهواء فقد نُشرت مئات الدراسات، منها دراسات مستقلة قامت بها الجامعات ومراكز الأبحاث، ومنها الدراسات والتقارير التي أجرتها حكومات الدول. وآخر هذه الدراسات التي قدَّرت الكلفة الاقتصادية لتلوث الهواء جاءت من الحكومة الفرنسية، وبالتحديد من "وكالة الصحة العامة"( Public Health France)، ونشرتْ تقريرها في 29 يناير 2025 .

 

حيث أفادت هذه الدراسة الحكومية الرسمية بأن التعرض للملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد الدخان أو الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين اللذان ينبعثان من السيارات ومحطات توليد الكهرباء تسبب المئات من الأمراض الحادة والمزمنة سنوياً، وترهق ميزانية الدولة بمبالغ مالية هائلة تقدر بأكثر من 16 بليون يورو سنوياً. فقد قيًّمت هذه الدراسة وقامت بإجراء تحليلٍ كمي ولأول مرة للتأثيرات الاقتصادية لتلوث الهواء في فرنسا، فعدد الوفيات من تلوث الهواء يقدر بنحو 40 ألف سنوياً في عام 2021، كما أن التعرض لفترة طويلة لتلوث الهواء يؤدي إلى انكشاف حالات مرضية جديدة كل سنة. فعلى سبيل المثال بالنسبة للأطفال من 12% إلى 20% من الحالات الجديدة لأمراض الجهاز التنفسي، أي من 7000 إلى 40 ألف حالة سنوياً، وبالنسبة لكبار السن من 7% إلى 13% من حالات الجهاز التنفسي الجديدة، أي 4000 إلى 78 ألف حالة سنوياً.

وقد خلصت الدراسة إلى عدة نتائج مهمة جداً يجب أن تتحول إلى سياسات اقتصادية للدول، وهي أن تلوث الهواء يسبب تدهوراً اقتصادياً كبيراً يضخم من تكاليف العناية الصحية للشعب، أو "انحرافاً اقتصادياً"، وذلك من ناحية زيادة الأمراض الجسدية والعقلية والنفسية وارتفاع مستوى الوفيات في سنٍ مبكرة، وخفض الإنتاجية للشعب، وزيادة الغياب عن العمل، إضافة إلى تدهور المرافق والمباني والتأثير على القطاع الزراعي. كما خلصت الدراسة إلى أن هذه التكاليف الاقتصادية الخارجية يمكن منعها وخفضها من خلال خفض نسبة الملوثات وتحسين جودة الهواء. 

 

ولذلك فهناك اجماع دولي على علاقة تلوث الهواء باقتصادات الدول، وارتفاع تكاليف العلاج من الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء، مما يعني بأن أية خطة اقتصادية استراتيجية لأية دولة كـرؤية البحرين الاقتصادية 2050، يجب أن تتضمن رؤية واضحة في ترتيب تلوث الهواء في قائمة الأولويات، وأن تشتمل على خطة وإجراءات سنوية لخفض تركيز كل نوع من أنواع الملوثات الرئيسة في الهواء وتحسين جودة الهواء بشكل عام. فتحقيق هذه الرؤية يصب في أهداف التنمية المستدامة، ويرفع من مستوى التنافسية من خلال توفير بيئة الهواء النظيفة والصحية التي تجذب الاستثمار، ويخفض من العبء على ميزانية الدولة.